قصص

عروس العرائس: حكاية امرأة

انزعقت خائفة على صياح عجيب في السماء. الظلمة تلفُّ المكان. لم ينتاهَ إلى سمعي هذا الصياح من قبل. تملكّني الخوف، وخفق قلبي بشدّة، حتى كاد ينخلعُ من صدري. تسمّرت على جنبي الأيمن متكوِّرة. لا أتحرك. علا وجيبي. البرد يشلُّ قدميّ. بدا كأنه صياح طير في عراك. أسمعها تخفق أجنحتها بقوة. تثير ريحا تضرب فراشي. أكاد أطير من عصفها. أخشى أن تهجم عليَّ. اثبتي ولا تتحركي حتى لا تراك. الرعبُ يشلّني. خائفة. خائفة جدا. بدأ الصياح بالخفوت. يبتعد. صار ضعيفا لا يكاد يُسمع. يختفي الصياح. ما أزال جثة هامدة لا تستطيع حراكا. جسدي ملاصق بالبساط، واللحاف يأويني في خوفي. حرّكي ساقك. لكن الخوف يمنعني. يأبى جسدي الإنصات. وعيناي مغمضتان. هل أفتحهما؟ لا يزال قلبي يخفق بسرعة. أتشجع فأحرك يدي. أمسّد صدري. أمدّ ساقي. أنتزع نفسي من مخالب الرعب. يخفت وجيبي. لا ينبضُ حلقي الساعة. يخفّ لساني. صرت قادرة على التنفس بلا فزع. ينتظمُ نفسي ونبضي. أنقلب على ظهري، يسعني الآن رفعُ جفنيّ. أقبلَ الفجرُ. يبنلجُ الصبحُ، أقلب نفسي على جنبي الأيسر. أنظرُ إلى الشرق، إلى الشمس المقبلة بأنوارها على الجزيرة. أبقى في مكاني أراقب طلوع الشمس. يقول العفريت إنّ ما سمعته هو سرب طيور الراهب. تعيش هذه الطيور في الجزر البعيدة، وتهاجرُ كلَّ خمس سنوات إلى جزيرة الفجر الساطع. تمرُّ بجزيرتي بأعداد مهولة ثم تقصد مدينة الملك الكامل قبل أن تبلغ وجهتها. سربٌ من ألف طائر. وإذا ما مرَّ فوق الجزيرة كان له صياح مفزع ينتزعُ الأفئدة من الصدور، ويُبلغُ القلوب الحناجر. لكل طائر جسدٌ ضخم حتى إنّه ليلتقم الخروف بلقمة واحدة، ومناقيرها كأنها زورق. أجنحتها كبيرة، ومخالبها حادة مهولة كأنها ظبا رماح. من حسن حظيّ أنّي لم أكن معك وإلا لأصابني منها شرّ، ما يسعني احتمال صياحها. لا تجزعي لن تسمعيها إلا بعد خمس سنوات أو ربما لن تسمعيها أبدا. نزلت ذات مرة قبل زمن لا أذكره لأني غفلت عن النار فلم أخمدها قبل نومي. جالت في الجزيرة حتى رأت أشجار المازان، وشرعت في التقام ثماره بالأغصان. سلختُ سنة أعتني بالأشجار وأقوم عليها حتى آتت ثمارها من جديد. جئت بشجيراتٍ من جزيرة المازان، وزرعتها في صفّين حتى صارت الظلّة التي تعرفين. علّمني أبي الزراعة حيث كنّا نعيش في الجزيرة الخضراء. 

خرجتُ إلى النبع حاملة إبريقا. تناهى إلى سمعي أنين إنسان. تلفّت في المكان لم أبصر شيئًا. مشيتُ إلى الشاطئ، وحين وطئت الرمل أبصرت لوحًا. جلتُ بناظريّ أبحث عن الغريب الذي بلغ الجزيرة. درت في الشاطئ ماشية، ولم أر شيئا. من الذي أنَّ إذًا؟ عدتُ إلى حيث أنام في الجزيرة. أبصرت رملًا على البساط. داس أحدهم الفراش. بدأ الرعب يتسلل إلى صدري. استجمعتُ رباطة جأشي، وتابعتُ مسيري إلى التلة. مضيتُ قدما لا ألوي على شيء، وعيناي تُبصران كلَّ شيء قُبالتي. لمحتُ شبحا يختفي بين الأحراش قرب التلّة. تقدّمت أكثر إليه. صرخت من أنت؟ اخرج أيها الغريب. لا جواب ولا بروز. أقبلت على الأحراش. بدأ صوت الأنفاس يعلو بجلاء ويبلغ مسامعي. دخلت الأحراش التي غطّت ساقيّ. رأيت شابا مليحا مستلقيّا وسط الأحراش. ثيابه مبللة. ينازع النَّفَسَ منازعة، مهدود الحيل. سفّعت الشمس وجهه وسوّد ماء البحر جلده. قعدت عنده أمسح بكفي وجهي. نبست شفتاه بكلمة. لم أسمعها. قرّبت أذني من شفتيه. كلمةٌ واحدة. صوت واحد كأنه ثغاء شاة. ثغاء شاة. صوّتَ ذهني مااع. ماء! يريد ماء. يقول ماء. خاطبته أتريد ماء؟ يا لحمقي! أسرعت أغذُّ الخطى إلى النبع القريب وملأت الإبريق ماء وأتيته به. أسندت رأسه إلى ذراعي وقرّبت خرطوم الإبريق من فمه. أولجت الخرطوم في فيه، وسقيته. تحرّك حلقه وتموّج. شرب القليل. أعدت رأسه إلى الأرض، وظللت أراقبه. مليح هذا الشاب. أسمر ذو شعرٌ كُميتٌ، وأنف أقنى، وشفة لمياء. أبلجُ الحاجبين أزجّهما. نبت الشعر في وجهه بلا تشذيب، لم يحلق لحيته منذ حين. توقّفت عن تأمله وتركته نائما أو مغمى عليه ورجعت إلى النبع لأغتسل. دخلت المجرى وتركت الماء يلاعبني. أغمضتُ عينيّ وغصتُ أفكر في أمر هذا الغريب. أحسست بأحدهم عند رأسي. رفعت جفنيّ كان قائما يراقبني بعينين نجلاوين. شهقت وسترتُ نهديّ. خاطبته أهذا أنت؟ أجاب بوهنٍ شكرا على الماء. أنقذتني من الهلاك. أتأذن لي في ارتداء ملابسي. نعم نعم. أستميحك عذرا. استدبرني وتراجع خطوات. خرجت من المجرى على عجل وأخذت سروالي وثوبي، فارتديتهما وقصدته. لا ريب أنك جائعٌ. لم آكل منذ أسبوع. الحقني لتأكل. أتأذنين لي في الاغتسال؟ نعم اغتسل ثم نذهب. سأعود إليك. وخطوت إلى الظلّة. 

إذًا اسمك عروس العرائس وتعيشين في الجزيرة مع عفريت. ما كنت أحسبُ أن أشهد بعيني مثل هذا الخبر. لكن بعد ما قاسيته في البحر وأهواله، وانقضاض دابة البحر على مركبنا فما عاد شيء محالا. ظللتُ أراقبه صامتة وأفكّر أنّى لي أن أخفيه عن بصر العفريت. خاطبته على حين غرّة. اسمع أيها الشاب سيعود العفريت بعد ليلتين ولزاما علينا أن نجد لك مخبأ تبيت فيه لياليك حين يقبل العفريت عليَّ. أبيتُ فيه لياليَّ! أسيطول بقائي هنا؟ لا أحسبُ ذلك فلا بد أن أجد لي مخرجًا أعود منه إلى بلادي. طفقت أضحك ضحكا مجلجلا من كلامه. علامَ تضحكين؟ أيها المسكين إنّك على جزيرة مثل نجمة سابحة في السماء. لن تخرج منها إلا ميتا أو تحتاج إلى معجزة كالتي أوصلتك إليَّ أو العفريت يأخذ بيدك ويعيدك إلى بلادك. هذا العفريت يحبسني هنا منذ خمس سنوات، وما خرجتُ إلا مرة برفقته. وإذا ما رآك أو فطن لأمرك في جزيرته ليقتلنّك بلا ريبٍ. أنصت إليَّ الظلام يزحفُ إلينا وعليّ إيقاد نارٍ. ائتني باللوح حتى نحرقه ولا نبقي لك أثرًا. كان ينظرُ إليَّ وأنا أحدّثه منصتا لا يحار جوابا، ثم أطرق رأسه وأخذ به بين يديه. كانتا كأغصان القياقر دقةً وحسنًا. قام يقصد طرف الجزيرة ليجيء باللوح. سرعان ما عاد ليبصرني قد أوريتُ النار. دونك اللوحَ. ضعه عند النار. قرّبه أكثر. أخرجت من تحت البساط شمع النار. ارجعْ ثماني خطوات. تناولت اللوح وجعلته فوق النار وقذفت بحبة شمع إليه. ما أن بلغت النار القطعة حتى استعرت وتلظّت، واشتدّت ألسنتها وعلا أجيجها. أتت النار على اللوح بأكمله، ودفعته بمِسعر اعتاد العفريت أن يؤجج النار به ويلاعب الفحم. بقي الشاب يراقبُني والنار صامتًا. تنهّد. ما هذا الذي جعلته فوق اللوح فألظى النار وزاد لهيبها. إنّه شمع النار خيرُ ما جادت به جزيرة النار مع رملها الحرّاق. يلهبها ويؤججها، لكن عليك أن تضعه على النار ليشتعل، فلن يشتعل من دونها. سننام هنا. أنت على بساطك وأنا هنا. ماذا تفعلين في ليلك؟ إذا ما بتُّ وحدي فأقضيه في تأمل السماء والتفكير في أمري وكيف أنهي سنواتي في حبس العفريت. وإنْ كنت مع العفريت قضينا ليلنا معا. حدّثني عن خبرك أيها الشاب المليح. ابتسمَ حين سمعني أتلفظ بها، وحكّ حنكه. إنّ خبري عجيب وحكايتي غريبة، وما أوصلني إلى هذه الجزيرة إلا ما ليس به يد أو حيلة. ولدت أمي لتاجرٍ كثير الأموال والعبيد. وأنشأها نشأة لا تفرق فيها عن بنات الملوك، ما حرمها من شيءٍ، وأتاها بكلّ ما سألته إياه. خصّها برعايته لأن أمّها توفيت عند الوضع. كره أن يجمع عليها فقد الأم وانشغال الأب، فكان لها أبا حانيا شفوقا، وجعل في رعايتها كبرى جواريه، فقامت عليها مقام الأم الرؤوم. كبرت أمي في بيت عزٍ وشرفٍ، حتى علقت بحب عبدٍ من عبيد أبيها. كان عبدا حاذقا في عمله، لا يطيب لجدي عملٌ من دونه، واعتاد أخذه معه في تجارته وأسفاره، ويدخل البيت كأنه بيته. ما حسب جدي أن ابنته ستهوى عبده، كان عبدا وسيما كما زعمت أمّي، تركيٌّ اشتراه جدي وهو غلامٌ. لا يكبر أمي إلا بقليل. هوته أمي وجعلت جاريتها لسانها إليه. خشي العبد من سيده، لكن ما وسعه أن يصبر على إلحاح أمي، واتّفقا ذات ليلة أن يلتقيا في مخدعها. جاءها العبد في تلك الليلة وواقعها. تكرر اللقاء بينهما حتى علقت منه علقة وكبرت بطنها. خاف العبد من غضبة جدي ففرَّ هاربا، وما عُثر له على أثر. حين دري جدي بخبر ابنته الأثيرة حزن حزنا أكمده، وما طال عناؤه حتى توفاه الله. ورثت أمي كلّ مال أبيها وعبيده وإمائه. وضعتني واهتمّت بأمري، وسلّمتني إلى أيدي المعلّمين والحذّاق فتعلّمت خير ما يتعلّمه الفتيان وأحسنه. غير أني أحببت البحر والمراكب. حكّ حنكه في أثناء الكلام. كنت أخرجُ من دار العلم إلى ميناء المدينة المطلّ على البحر الكبير، أحلمُ بالبحر وتسحر بصري زرقته. أسأل نفسي كلّ يومٍ متى سأركبه. ناداني البحر كلَّ مرةٍ أقوم فيها مشرفا عليه، يناجيني وأناجيه، يخاطبني وأخاطبه. حين أعملتُ أمي برغبتي في التدرّب على المِلاحة وقيادة المركب والشروع في الإبحار مع الربّان الشهير، سيد السفن، أنكرت عليّ قولي ومنعتني. ما جسرت على عصيان أمرها برّا بها وحبا. لكن هوى النفس غلّاب، فكنت أخرجُ إلى الميناء كلّ سبت وأدفع دينارا لبحّار عمل مع الربان الشهير ليعلّمني الملاحة، ويقص عليّ من أخباره. سلخت سنتين من حياتي على عادتي تلك. حسبت أمّي غافلة عن فعلتي حتى جاءتني ذات مرة وخاطبتني يا بني لا تظننّي غافلة عن أمر تدربك في الملاحة، بلغني خبرك يوما بيوم. وها قد صرت رجلا ولا يسعني أن منعك عما ترومه، وإنْ كنت عازما على ركوب البحر فاسمعني، لا أريدك أن تركبه أول أمرك بحّارا بل اركبه تاجرا في أموالي، فإن للبحر أهوالا تُذهب الجسارة من النفوس، وتنفي الشجاعة عن الصدور، وتترك الربّان المحنّك فريسة مخاوفه، وعالقا في شراك حيرته. حدثني أبي عن مشاقه ومخاوفه ووحوشه، وإني أعيذك أن تكون ممن تبع هواه فأراده، ولم يحتكم إلى البصيرة فضيّعته خطاه. فإن روضت نفسك على أخطاره في رحلة التجارة، وأبصرت في أحنائك بأسًا على الإبحار والمغامرة فارجع إليه وذلل موجه بالألواح. ثم قصّت عليّ حكايتها مع العبد، أبي، وسألتني البحث عنه إذ بلغها خبرٌ أنه يعيش في مدينة الملك الكامل. وهي مدينة تبعد عن مدينتي مسيرة شهرين في البحر. وجدت الفرصة سانحة في ذلك وامتثلت لما رغبت فيه. كان الربان الشهير على موعدٍ قريب في الإبحار برفقة تجّار بلادنا إلى تلك المدينة، فجمعت بضائع من ثياب وقماش كان عبيد أميّ يتاجرون بها، وقصدت الربّان واستأجرت حجرة لي في سفينته. أعلمتني أمي قبيل سفري بصفة أبي وأنّ خنصر يمينه وبنصره ملتصقان، وأنها أهدته خاتما فصه من الزمرد الأخضر، ومنحها خاتما له فص من الحجر الأحمر، منقوش عليه اسم الله الأعظم. مدّ يده الشمال إليّ ليريني الخاتم. كان من الذهب. خاتم بديع. تأملت فصّه. الله رب الأرباب ملك الملوك. ركبنا البحر ومضى المركب يمخر الماء حتى تلبدت السماء بالغيوم وأظلمت وصار النهار ظلاما حندسا، وهبّت عاصفة من عرض البحر الساكن، تقاذفت سفينتنا يمنة ويسرة، وتلاطمت الأمواج واصطفقت، وهاج البحر وماج، واضطرب حتى ظنننا ألا منجى لنا اليوم. أهوال عظيمة، ترتفع أمواجٌ كالجبال وتمور الأمواه، قصد كلٌّ منا حجرة المبيت في السفينة، ولزم فراشه، لا يدري ماذا يفعل، محبوس في صندوق خشبي في بطن بحرٍ أسود غاضب. دامت العاصفة أسبوعا، جعلت الربان حائرا في أمره وجرفت السفينة عن مسارها المعلوم. سكنت الريحُ لكن بعد أن أبعدتنا عما عرفه الربّان من مسالك البحار ودروبها، وما عرف علامات النجوم والكواكب. وأينما وجه السفينة وحسب أنه الدرب الصحيح ما أوصلنا إلى شيء. ضاعت السفينة في البحر الكبير، ولا ندري أين صرنا. اغتمّ التجّار والركّاب وتلاوموا ولعنوا ساعة خروجهم. كنت في حيرة من أمري، وكرهت البحر والملاحة وتذكرت وصية أمي. ليس لنا من أمرٍ أو فعلٍ أو دراية. الزرقة تلفّنا من كل مكان في النهار والظلمة الداجية في الليل، ولا ملجأ ولا منجى لنا إلا التضرع إلى الله علّه يرشدنا ويهدينا السبيل. سلخنا ثلاثة أشهر تائهين في البحر لا نعلم لنا وجهة ولا نبصر برًّا. أوشك الطعام على النفاد، ومن مرض لم نجد له علاجا، ومن مات رمينا به في البحر. كنت أبيت ليلي أراقب السماء والبحر وأتفكّر في أمري وما جاء بي وأتحسّر على فعلته، أقرّع نفسي يا ليتني لم أخرج من المدينة وبقيت أتاجر فيها بمال أمي. لكن ولات حين مناص، ولا ينفعني الساعةَ الندمُ. علا الوجوم وجوه التجّار والبحّارة، وحبس الربان الشهير نفسه في حجرته يعبُّ الخمر ويرفض حديث أيّ منا كمدا على ضياع سفينته في البحر الذي مخر ماءه وساس موجه ولاعب ريحه. كنّا نسمعه في الليل يأن باكيا. قال بحّار جمعني به التهيان إنّ الربّان سيموت، لا شك سيموت. مات هكذا أبوه وجدّه. ضاع الجد في البحر واختفى خبره، ولما بلغ الابن خرج إلى البحر وضاع ثم اختفى خبره. ترك وراءه طفلا وامرأة اشتُهرت بالحسن بين نساء المدينة. تزوّجها رئيس التجّار وترعرع صغيرها في حجره، ولما وعى ما سمع وعلم بحكاية أبيه وجدّه حزم أمره على ركوب البحر. أمضى عشر سنوات في الإبحار مع ربّان عليم، وانتهى به الأمر أن صار ربّان سفن تجارة الملك. وهب له الملكُ سفينةً أعلت صيته وأكسبته لقب الشهير بعد أن سلخ في الإبحار خمسين سنة. وها هو ذا الآن حبيس حجرته. لا شك سيموت. بلى سيموت. كرر جملته كثيرا. ثم تركني وحدي أتابع البحر، وأستمع إلى أنين الربّان الهالك. ما كذب الخبر، مات الربان بعد ليلتين. دخلنا حجرته فوجدناه غارقا في خمره وقواريره، كانت حجرته عفنة، وثيابه عطنة، فسحبه البحّارة من قديمه وقذفوا به في البحر. تأكد هلاكنا إثر موت الربّان، وما بقي لنا إلا انتظار الموت، الذي شرع يتخطّفنا واحدًا تلو الآخر، وندفنه في البحر. قطع كلامه ونظر إليّ مستعلما عن شيءٍ لم أدركه. ما حرت جوابا ورفعت حاجبي مستفهمة. أنتِ باهرة الحسن يا عروس العرائس، وأحسد العفريت أنّ له سجينة مثلك، بل أتمنى لو كنت مكانه. وارى كلامه بالتضاحك. لمع وجهه في ضوء النار كالبدر الأسمر. ابتسمت لقوله. ستكمل لي خبرك في الغد لننم الآن. هرقت الماء من الإبريق على النار، واضطجعت على يميني. لم يقل شيئًا. كان بحاجة إلى النوم بعد تعبه وشدّته. غلبه النوم سريعا وعلا غطيطه. هدر بشخيره مثل رعد أو صليل أسياف. طاردت النوم ولم أتمكّن منه. حرمني شخيره النوم. قمت إليه لأوقظه حتى يوقف زمجرته. اقتربت منه. كان في سباتٍ لا أحسب أنه سيصحو منه أبدا. تركته وقصدت الشاطئ أراقب البحر والنجوم. البدر ينير السماء والنسيم عليل. اضطجعت على الرمل وارتحلت إلى مملكة الأحلام. صحوت على هدير الموج وهو يزاول عادته في جلد الساحل. أرى نفسي والعفريت في هذا الارتباط المتقلّب بين الموج والساحل، فتارة يكون عطوفا عليه حانيا وأخرى غضوبا لا يكفُّ عن لطمه، ثم يرجع يسترضيه ويغرقه بقبلاته. بيد أني أحار في أيّنا الموج وأيّنا الساحل، العفريت أقرب ما يكون إلى الموج لكنه مخدوع، وأنا كالساحل أبدو له بريئة وصادقة في قولي لكن الشرَّ ينخرني ونار الكيد تضطرم في صدري. لا أخرجُ من حبس العفريت حتى وأنا وحيدة، تراقبني عيناه وهما بعيدتان عني. ليس لي إلا الانتظار والتعلّق بفرجٍ قد يأتي على حين غرّة. أيكون الفرجُ مع هذا الشاب، وأيُّ سبيل سنطرقُ للخروج والعفريت حيٌّ. يا لحيرتي! أستلقي على الرمل، تنهش أصابعي الحبّات، أقبض عليها بشدّة أريد إنهاء كلَّ شيء، أن أغرق نفسي والجزيرة والعفريت والدنيا. أسعى إلى النوم كرة أخرى. أغمض عينيَّ وأترك الهدير ينساب إلى أذنيّ. أسمع صوته وأسافر معه في رحلة مدّه وجزره. أذهب وأرجع. أترك صوته يخترقني، ويتسرب إلى جسدي. يدخل من قدميّ حتى يبلغ رأسي. أراقب تسلله إليّ أحسُّ به بداخلي. يتكرر اختراقه، ثم يصير اختراقا مستمرًا، أشعرُ بجسدي يتحول إلى ماء. أصبحُ ماءً أضرب الساحل. أشعلُ ظهره بسياطي. أصير البحر، أرفع الموجَ وأخفضه، أثير الماء، يضطرب، أضطرب، أريد الانفجار. الانفجار. تنفجر المياه، أنفجرُ على الساحل. وأنام. أصحو والشمسُ تسكبُ نورها على الجزيرة، أنهض قاصدة النبع، أمرُّ في دربي على الشاب، ما يزال يغطُّ في نومه وشخيره يطغى على هدير الموج. أتأمله، ما من أمارة توحي بأنه سيستيقظ. النوم ملك الجسد. يسعنا تحمل الجوع والعطش طويلا لكن لا يسعنا الاصطبار على الحرمان من النوم إذا ما أثقلت الجفون بالنعاس. ألا ننام أن نموت. يقاطع شخيره تأملي في النوم. أكمل دربي لأغتسل في النبع. أعود إلى الشاب ما يزال محروسا بشخيره. خوار بقرة. أضحكُ من هذا الصوت. لو رآه العفريت سيقتله. سيأتي عند غروب الغد. أقترب منه يخفتُ صوت شخيره، أضع وجهي قرب وجهه أتفحّصه. يعلو الشخير على حين غرّة تُفزعني كفزعي يوم صحوت على صوت الطير. ارتدّ في فزعي وأسقط قريبا منه. لا يصحو. لا يبدو أنه سيصحو. أحدق إلى وجهه الأسمر وشفتيه اللمياوين. زاده شعر لحيته المتناثر وسامة. أشتهي تقبيله. تدفعني نفسي إليه. أقترب منه وأستنشق وجهه. ألعق أنفه بطرف لساني. مِلْح. أقبل شفتيه. أشدّ رأسه بيديّ وأقبّله. أنتظر استيقاظه. ينقلب على يمينه. ويعود إلى عزف خيشومه. بل معازف خرطومه. استيقظْ. أهزّه. يعلو غطيطه. ينام مثل ثورٍ حرث الأرض كلّها، أو كحمار سلخ المدينة حاملا الجبال في نهاره. الحمار نائم ولا ينوي الاستيقاظ. أقعد على البساط الآخر. أستلقي وأثني ساقي وأرفع الأخرى فوقها. يهب النسيم اللطيف. آكلُ من عشاء البارحة. وآخذ تفاحة وأنطلق لذرع الجزيرة كعادتي. طفقت طوفا فيها ثم قصدت تلة الكنز. دخلت المغارة. يا لها من مغارة كنز عظيمة. غنائم معاركي وانتصاراتي على خصومي ومغامراتي، وما ترين من عجائب فهي من صنع بني جنسي. برع العفاريت في الصناعة والغوص في أغوار البحار لاستخراج الكنوز الدفينة، مهنة تعاهدوها منذ جدّهم الأول البارع. زاولوا الحدادة عصورا، وتمرّسوا بها، فكانوا سادة في صنعة الحديد والجواهر، ومهرة في البناء والعمران، شيّدوا القصور والقلاع، والأواوين والحصون، ونحت الصخور وحفر الكهوف، وأبدعوا في صنع التماثيل العظيمة على صورة الإنسان. كانوا يأتون بالصخور الكبيرة، ويشرعون في نصبها واحدة فوق الأخرى، حتى يبلغ علوها عنان السماء، ويصبّون النحاس المذاب بين صخرة وأخرى. يأتي بعدها العفاريت النحّاتون بالأزاميل والمطارق وآلات الحديد، ويشرعون في نحتها على صور ملوكهم. فإذا ما انتهى عهده هدموا تمثاله ونصبوا صخرا لنحت تمثال الملك الجديد. حين علمَ نبي الله سليمان بخبرهم أرادهم في خدمته، فوهب له الله حكما عليهم، فصاروا من عمّاله وصنّاعه، وابتنوا له قصورا وتماثيل وقلاعا وكلّ ما أراد واشتهى. جاءوا له بالعفاريت الملقّبون بالأيادي الكريمة، كان عملهم سبك الذهب وصنع الجواهر من أحجار بطون الجبال، فأبدعوا له جواهر لا نظير له ولا شبيه، بعضها في مغارتي. كان أبي واحدا من العفاريت القلّة المشهورة بالبراعة، فلُقّب وأضرابه بالبارعيّ نسبة إلى جدّ العفاريت الأكبر. فقرّبه نبي الله سليمان إليه، وخصّه بما لا يستطيع غيره القيام به. أخبرني أبي أنّ النبي طلبه ذات يوم بعد ما وقع من أمر الملكة وقومها الذين يعبدون الشمس، وأدخل بلاطه ثم صرف كلّ من في البلاط. قال له إني أريد زواجها لكني سمعت بأن قدميها قدما دابة، وليس لي حيلة إلا أن تبني لي صرحا عظيما من الزجاج. ليكن بنيانًا يرى ما دونه وما وراءه وما فوقه، فإذا ما دخل امرؤ ما حسب نفسه إلا على الأرض، واحفر أسفل منه حفرة كبيرة واملأها بالماء ومخلوقات البحر. فإذا ما أكملت فأسرع إليَّ. شرع أبي وصنّاعه وبنّائه فيما أمره به النبي، وابتنوا له قصرا عجيبا ما رأت الأعين مثيله، وما خطر في بال بشرٍ أي يكون مثله. عاد أبي إلى النبي وأعلمه بانتهاء البناء، فلما رأى ما صنع أبي، أعلى قدره وأكرمه حتى جعله رئيس العفاريت وخازن كنوزه، وبقي في منصبه حتى توفّى اللهُ النبيَّ إليه، ثم خرجت العفاريت والمردة والجن عن طاعته، وعادت سيرتها الأولى في الحياة بعد أن تناهبوا كنوز النبيّ وتقاتلوا عليها. وُرث الصراع عليها جيلا بعد جيل حتى بلغني، وحزتُ ما حزته. أخذتُ ألمسُ الكنوز وأتأملها. سيبيت المليحُ هنا! فالعفريت لا يقبل على المغارة إلا نادرا، ولن يحسب أبدا أنّ فيها غريبا. سأطلب منه الاختباء والنوم في المغارة حين يأتي العفريت. سيجد هنا ملاذا يدفع عنه القتل. شارفت الشمس على المغيب، فعدتُ أدراجي إلى مكان مبيتي. تلقّاني الشخير الرهيب. وامصاباه! اقتربت أكثر من بساطه. مستلقٍ على ظهره، فمه فاغر، ورواله مدلوق على خدّه. يدوي خرطومه وحلقه. لو قتله العفريت عقابا له على شخيره فما ظُلم! وقفت عند رأسه. مسحت رواله بقدمي وفركتها بقميصه. رفع يده وحكّ حنكه. عادة لا يمنعها حتى النوم. أضحكُ. هززتُ رأسه بقدمي، وصحتُ استيقظ! أيها الغريب. استيقظ! هل ستبقى نائما؟ اصحُ! هيّا. يا بن العبد الهارب! يا بن محبّة العبيد استيقظ! لا يجيبني سوى شخيره. أشتهي أن أسكته بقدميّ. أدخل قدمي في فمه. يسكت الشخير. علّه لن يشخر بعد. أخرجها. يرجع إلى ما كان عليه ولا يصحو. أقصد صندوق الطعام. أفتحه ولا أجد الكثير. سيقع ما لم أحسب حسابه، سيتناقص الطعام سريعا ما دام المليح يشاركني إياه. وسيشكُّ العفريتُ في أمر الطعام. ليست العادة نفاده قبل أوانه. سأطلبُ منه المزيد وإنْ سألني عن السبب سأجيبُ أني صرت آكل أكثر، وما عاد ما يأتيني به يكفيني. لعلّه سيصدق. الملعون.  صحوت من النوم عند الشاطئ بعيدا عن الخيشوم الهاتف، وحين عدتُ إليه كان بساطه خلوا. قصدتُ النبع على جري عادتي. لمحته قبل بلوغي المجرى مستلقيا على حافّته. حين وصلت خلعتُ ثوبي وسروالي ودخلت أغتسل. فتح جفنيه وتفرّسني بناظريه. أهلا يا عروس! اتسّعت عيناه وهو يراني في المجرى. لم ينبس ببنت شفّة. لقد نمتَ يومين متواصلين، سيأتي العفريت عند الغروب ولا بد أن تنامَ في المغارة. لا تبعد كثيرا عن هنا، وراءك في التلة. هل سيأتي الليلةَ حقّا؟ لا ريب هو قادمٌ فإياك وأن يعرف أنّك هنا. سيقتلك وربما يقتلني معك لو كشف أمري. تعلو أمارات الحيرة والدهشة محيّاه. رفعَ يده وحكّ حنكه. الطعام لن يكفينا ما دمنا نحن الاثنان نقتاته. سأطلب من العفريت أن يزيد من غلّة ما يجلبه من أكل. لكن لزاما علينا أن نقتصد منه ولا نأكل إلا ما يسد رمقنا حتى يعتاد العفريت على القدر الجديد الذي يجلبه. إنّه ملعون حاذق، ولن يستغفل بلا تدبير ومكر. الأمر أمركِ فدلّيني على مكان المغارة. ما زلنا في رابعة النهار، والشمس رفيقتنا.  

خرجنا من المجرى، وقصدنا الظلّة. ألتفتُ إليه وأقول نمت مثل حمار ميت وشخرت مثل سفينة تمخرُ الماء. إنّه التعب الذي نخر جسدي حين تقاذفتني الأمواج أسبوعا قبل أن أبلغ جزيرتك. ما حسبتُ أني سأنجو لكني نجوت. وهأنذا عالقٌ في جزيرة لا مهرب منها، برفقة أجمل النساء وعفريت قاتل. بلغنا الظلّة. يحدّق مبهورا إلى الظلّة، ويخلّب لبه تناسقها. يتقدّمني متلّمسا جذوع المازان. يا لها من جذوع غريبة لم أبصر مثلها من قبل؟ ما اسم هذا الشجر؟ إنّه المازان. يرفع عينيه إلى أغصانها وثمارها. نمشي في الظلّة ثم نرجع نقطعها إلى تلة الكنز. نرتقي الدرب إلى المغارة. ندخلها. هنا ستمكث حين يأتي العفريت ولن تخرج منها إلا في فجر اليوم الثالث. ما كلُّ هذه الكنوز! إنها كنوز العفريت ومفخرته. إياك وأن تحرّك شيئا أو تُحدث صوتا سيسمعُ العفريت ويأتي مفتشًّا عن السبب. ينظرُ إليّ ويقول أتدرين أرغب في رؤية العفريت! لن يكون هذا لأنه سيعرف ويقتلك من ساعته. لن تنجو أبدا. ابق هنا سآتيك بطعامٍ. خرجتُ وتركته وحده. ناداني. أستدير. أشكر لك كلّ شيء يا عروس. أشرع في طريقي وأفكّر، وهل أملك إلا التفكير. تشرف الشمس على الغروب، وحين ابتلع البحرُ نصفَها، وصبّت حمرتها عليه، أبصرت العفريت قادما من عرض البحر. يصل ويهتف يا عروس وأبصره قبالتي في لمح البصر، يضمّني إليه ويقبّلني بنهم واتّقاد. اشتقت إليك يا عروس. لا يسعني إلا الخروج والطوفان في البحار والغوص في أعماقها. أخرج من جيب سرواله ياقوتة كبيرة. صهباء اللون ومدبّبة الرأس. انظري إلى صيدي يا عروس. إنها باهرة! من أين أتيت بها. وجدتها في صندوق في أعماق البحر، وأحسبُ أنها لسفينة غرقت على إبحار يومين من الجزيرة. سآخذها إلى المغارة. أضطرب ويخامرني الخوف. ماذا أتتركني يا حبيبي. لن أتركك! سأرجع في لمح البصر. خشيتُ على الشاب لو تركت العفريت يدخل المغارة، وخفت على نفسي لو تركت وجهي فريسة مخاوفي. أقترب منه وأمسك بيده. أيها العفريت افتقدتك كثيرا وتاقت نفسي إليك. أمدُّ يدي على تكّة سرواله. ينسى الياقوتة. تسقط من يده، ويجذبني إليه بقوّة. يأخذني إلى البساط. نحلّق معًا فوق البحار، ونصعدُ إلى الغيوم. أغيب عن رشدي وأثوب إليه. أضيعُ في ملكوت العفريت. يُغمى عليّ أو لا يُغمى. أحدّق إلى النجوم. ألمسها. باردة. بل ساخنة. أقضمها. أصيح. أركض. أجلس. أنام. أصحو. يرافقني العفريت بجسده القويّ. أغفو فوق صدره. أصحو في هزيع الليل الأخير. العفريتُ نائم. أزحفُ إلى الصندوق. ملأه العفريت بطعام أسبوع. كيف سأطلب منه المزيد، وهذا الصندوق لا يتسع إلا لما يأتي به! أعود إلى البساط وأستلقي. أطارد النوم. أتذكر الياقوتة. أنهض على عجلٍ أبحث عنها. أسقطها عند الشاطئ. أعدو إلى الشاطئ وأبحث. لا ينير المكان سوى ضوء القمر ونجومه. أتلمس الرمل وأعثر عليها. أقصد المغارة. دخلتها كان الشاب مستيقظا. بادرني أهذا أنت ما الذي جاء بك؟ نجوتَ وما كدت تنجو! جاء العفريت بياقوتة وأراد أن يأتي بها إلى الكنز لكني أغويته وأنسيته أمرها. ها هي ذي. رميت بها إلى الشاب. تناولها. ضعها في كيس الجواهر الأحمر. ستبصره غدا في آخر المغارة. تذكّر لا تخرج إلا بعد يومين. تركته وعدتُ إلى بساطي. استلقيتُ أطارد النوم. 

مرَّ أسبوع ولحقه آخر، ثم شهر وشهران، امتدّت حبال الوصل بيني والشاب، والعفريت غافل عن وجوده. لكن هل سيبقى غافلا عن ذلك؟ لا أعلم. وكلما فكّرت في الأمر أرهقتني مخاوفي. ما بيد من حيلة سوى الاستمرار فيما نحن فيه. امتلأت حياتي، لم أعرف الرجل كما صرت أعرفه الآن. تعالقت نفسانا وتواشجت أواصرنا وامتزجت مياهنا. تعلّمنا الاكتفاء بما يأتي به العفريت من طعام كلّ أسبوع. صارت الأيام تمضي مسرعةً مع الشاب، ولا تكاد تمضي حين أبقى مع العفريت. انقسمتُ شطرين، شطرا يلتئم في جسد الشاب وشطرا يُرغم على جسد العفريت. أعلمت الشاب كلّ شيء عن الجزيرة وحياتي قبلها. كيف كانت سنواتي وحدي وكيف أضحت معه. يقاطع كلماتي بشفتيه، وأداعب لحيته بأصابعي. أحببته. أغرمتُ به. لا أذوق طعما ليومٍ من دونه. اتّفق أن جاء العفريت بعد مضي ستّة أشهر من انقلاب حياتي مع الشاب، وحين اقترب مني اشمأزت نفسي منه. لا رغبة لي في ذلك. لم ترفضي يوما فما الأمر. اقترب مني وأمسك يدي ومدّ الأخرى إلى سروالي فاستدرت رافضة. صاح ما هذا يا عروس. لا أريدك، ولا البقاء في الجزيرة. أنتِ سجينتي وجاريتي. شدّني إليه. هززت رأسي رافضة. اتركني. لن أتركك وهمَّ بتقبيلي فوضعت يدي على وجهي. رفعَ يده ولطمني لطمة طوّحت بي. أنتِ ملكي. جلجلت كلماته في الجزيرة. اشتدّ به الغضب وأقبل عليّ. قبض على رقبتي ورفعني. أمسكتُ مختنقة بكلتا يديه. أختنق. لا أقدر على الانفكاك منه. أضرب بقدميّ بطنه. ثابتُ كجبل لا يتهزز ولا يتحرك. عيناي إلى النجوم. أنقذني أيها الأعلى. لا أريد الموت. صار حلقي ثقيلا. ضعفت ذراعاي. أحسست بالموت يقترب. خارت قواي. شعرتُ بالرمل تحت رأسي. وجسدي يتألم. حين رفعتُ جفنيّ كان الشاب بجواري. يا حبيبي وعانقته مقبّلة إياه. سمعتُ صراخ العفريت وجئت مسرعا، فاختبئتُ أراقبكما. كان رجلا ضخما مخيفا وما أعانتني قدماي على الاقتراب. راقبتُك بعين دامعة، وعاجزا عن الحركة. شلّني الخوف، وما وسعني التزحزحُ عن مكاني والتقاط أنفاسي حتى رأيته يفلت يده عن رقبتك، ثم قصد البحر واختفى. أسرعتُ بعدها إليها وأخذتكِ إلى البساط. لا تكرري ما فعلتِ يا عروس فيشكُّ فيك. لكني أحبُّكَ، وينهرني جسدي. ما عدت أرغب في سواك يا حبيبي. بقيتُ يومين طريحة الفراش لا أقوى على الحركة. كان الشاب يتكفّل بخدمتي وإطعامي. حين أزفت شمس قدوم العفريت لم يأتِ. لم يغبْ من قبل ويفوّت موعد مجيئه. فرحتُ أنه لم يأتِ لكن حياتنا معلّقة فيه، فلا طعام لنا إلا بما يجلبه معه. مرَّ الأسبوع على مهلٍ. ثم أزف موعد قدومه التالي. ذهب الشاب إلى المغارة. جاء العفريت فأحسنت استقباله، وأقبل كأنّه نسي ما حدث بيننا. شرع يتحدث عن تطوافه في البحار. أغرقتُ عشرة سفن، خرّبتها من الأسفل، واستلذذتُ برؤية الرجال يغرقون وتتقاذفهم الأمواج الهائجة. يضحك. يعلو ويهبط. يتحطم جسدي دونه. ما أحسست بغضبه وهو فوقي من قبل. كان ينتقم. يلطمني. يعاقبني. يمتعني. أصرخُ في لذّتي. يستمر في غضبته. يعلو وأعلو. يهبط فأغيب عن الدنيا. استيقظتُ. وليس في خاطري شيء سوى الهرولة إلى حبيبي. لم أره منذ ليلتين. غذذت الخطى إلى المغارة. اجتزت النبع وأرتقي درب المغارة. تدفعني نفسي إليه دفعا. يكاد قلبي يصرخ بحبه. يملأ وجهه عينيّ. أعدو. سأصل. سأراه. جئتك يا حبيبي. المغارة. ألجها، ولا أراه. أين أنت يا حبيبي. أفتّش عنه، وأتفحّص المكان. لا أراه. ليس هنا، أين أنت. أخرج من المغارة وأعدو إلى النبع لعلّه هناك. لا أجده، أين اختفى. أنطلق بحثا عن في الجزيرة. أسلخُ يومي في البحث عنه ولا أثر له. لقد اختفى. أعلم العفريت بأمره؟ تتقاذفني الخواطر والمخاوف. فتّشت عنه الجزيرة شبرا شبرا. لم أجده وأين أجده. قعدت عند أشجار القياقر مرهقة، هدّني التطواف بحثا عنه. آختفت بهجتي سريعا؟ يثقل صدري وحلقي. تحرقني عيناي. أجهش بالبكاء وأشرع في النحيب. أعوّل في البكاء. أبكي سعادتي الضائعة. أبكي حبيبي، نفسي. يهتزُّ جسدي بالبكاء. تسحُّ عيناي دمعهما، وتجري مآقيّ بالعبرات. أنشجُ في نحيبي. أبكي حتى يثقل كلُّ شيء. لا أقوى على رفعِ جفنيّ. أصحو من النوم والألم ينخرُ جسدي. أتذكر اختفاء الشاب وتظلمُ الدنيا. هل غاب حقًا، وأين غاب. تتناهشني الأسئلة. أرجع إلى المغارة علّه عاد إليها. أدخلها، لا أحد. ليس هنا. اللعنة على العفريت. اللعنة على كنوزه. اشتدّ بي الحنق، وغططت في الجنون. شرعت أقذف بالكنوز يمنة ويسرة. أعبث بكلِّ شيء. أبحث عنه، لمحتُ قميصه. أمعنتُ النظرَ، بلى هو قميصه. تقدّمت إليه وتناولته. احتضنت قميصه وغمرته بقبلي. لكن أين صاحبه. كان في المغارة واختفى فيها. لم يغادر المغارة. كيف غادر وأين اختفى. فاقم قميصه مصابي سوءا. فتّشت في المغارة. أيكون فيها مخرجٌ. جدرّان صمّاء، أرض صمّاء، لا منفذ ولا مخرج، لا شيء خلا الكنوز. أعثر على حجر عجيب أو خرج له من ياقوتة مارد أنقذه. أيكون نجا بفضل خاتمه. قعدت في الكنز وشرعت في البكاء مرة أخرى. علام أبكي الساعة. أأبكيه أو أبكي حظي العاثر، وسنوات حبسي المستطيلة مع العفريت. خرجتُ خائرة القوى والعزيمة. أهبط التلة أجر الخطى جرّا. أسحب جسدي إلى النبع، وأدخل المجرى بثوبي. أترك الماء يخفف عني همّي وحزني، ويشاركني خسارتي.

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى