التراث الأدبيالتراث العربي

الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة

يزخر السرد العربي التراثي بمخطوطات كثيرة لم تصل إليها أيادي المحققين جهلا بها أو إهمالا لها، وما حُقق وطبعَ لم ينل مقروئيته المستحقَّة. ويكفي أن نعلمَ الرفضَ الذي نالته حكايات ألف ليلة وليلة قبل أن يكون لأنطوان غالان الفرنسي ومترجمين آخرين الفضل في تسليط الضوء عليها، وإشاعتها في أوروبا ثم في بقية العالم، وبالطبع العالم العربي- لتكوين صورة عن حال السرد العربيّ التراثي. ويُذكر أنَّ العرب حفظوا تسعة أعشار الشعر ولم يحفظوا عُشر النثر، هذا ما كان في الزمن الخالي حين كان الشعر ديوان العرب لأسباب مختلفة، وشكَّل في الآن نفسه العقلية العربيّة في التعامل مع النثر التخيُّلي (القصة والحكاية) وعدم إنزاله منزلته المستحقَّة أو التعاطي بجديّة معه والاهتمام به. فنقرأ مثلا عند ابن النديم في الفهرست عن كتاب ألف ليلة وليلة وصفه الكتاب بـ”غث بارد الحديث”، ولا يعني هذا أنَّ العرب أهملوا كتب الحكايات والأسمار، إذ كتبت كتبًا في الأسمار والحكايات وما انقطعت الكتابة فيها، بيد أنها نحت منحى جذب العامة أكثر من الخاصة. يذهب إلى هذا سعيد الغانمي في كتابه “مفاتيح خزائن السرد” في أنَّ كتب الحكايات لم تدخل المعتمد الأدبي العربيّ لأنها قصرت عن تحقيق شروط اللغة العالية والأسلوب البليغ وتلبية متطلبات طبقة الأدباء المُشكِّلة لأسس الأدب الرفيع. شهد القرن العشرين التفات الأدباء إلى كتب الحكايات والنثر والأدب الشعبيّ، وحاولوا بعثه من جديد، لا سيما بعد عصر الاستشراق ونهب المخطوطات، حتى وصلت إلى متاحف أوروبا، ونشاط حركة تحقيق المخطوطات في العالم العربي. بدأت في العقود الأخيرة حركة أدبيّة ونقدية مُلتفة حول النثر التخيّلي التراثيّ، كما في موسوعة السرد العربيّ لعبد الله إبراهيم، في سعي جادٍ وحثيث إلى إعادة البريق إلى السرد العربي، مع تحقيق المخطوطات ودراسة نصوصها. 

تبرز من بين هذه المخطوطاتِ مخطوطةٌ مكونة من ثماني عشرة حكاية من أصل اثنتين وأربعين مجهولة المصدر، محفوظة في متحف إسطنبول، أيا صوفيا، رقم 3397. أدرك قيمة المخطوطة المستشرق الألماني هيلموت ريتر وقدَّم تقريرا عنها في يوم المستشرقين الألمان في سنة 1933، كما يذكر محققها هانس فير في مقدمة الطبعة الألمانية المنشورة سنة 1959. عُنون الكتاب بـ”الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة” وهو عنوان أخذه هانس فير من الاستهلال إذ جاء فيه “هذا كتاب يتضمن حكايات عجيبة وأخبارا غريبة وهو الكتاب المعروف يشتمل على اثنين وأربعين حديثا…”. بين يدينا ثماني عشرة حكاية فقط من الحكايات الاثنتين والأربعين، تؤلّف الجزء الأول من الكتاب، أما الجزء الثاني فمفقود لم يعثر عليه. والمفارقة في هذا أنَّنا نعرف عناوين الحكايات المفقودة، إذ يُذكر في استهلال الكتاب عناوين الأحاديث الاثنين والأربعين. يقع في فهرس الأحاديث تقديم وتأخير يخالف التسلسل داخل الكتاب ما بين الحديثين الثالث عشر والرابع عشر، فيقدَّم حديث سعيد بن حاتم الباهلي على حديث صخر والخنساء. ويرد في التسلسل الخامس عشر حديث مديح النبي، وهو حديث غير موجود في الكتاب، ويقفز مباشرة إلى التسلسل السادس عشر مع حديث محمد الموجود. تنتهي أحاديث الكتاب بالحديث التاسع عشر وهو حديث الموهوب والمحلية. 

تبرز من بين عناوين أحاديث الفهرس المفقودة عناوين ترد في كتب أخرى مثل حديث فرس الأبنوس الوارد في ألف ليلة وليلة، والغالب أنها الحكاية نفسها. وكذا الحال مع حديث بياض ورياض، وهو حديث مطبوع من مخطوطة أندلسيّة تعود إلى القرن الثالث عشر، والراجح أنه من الكتاب نفسه. ترد عناوين أخرى في الفهرس مثل حديث أردشير بن ماهان وقد يكون هو حكاية أردشير وحياة النفوس في كتاب ألف ليلة وليلة. وقد تكون بقية الأحاديث موجودة في كتب نعرفها لكن غُيِّر عنوانها في فهرس الحكايات العجيبة. 

يقول هانس فير “إنَّ النسخة الحالية تعطي انطباعا أنها تعتمد على سرد شفوي أو على نموذج شعبي مكتوب. وأود أن أعتقد أنَّ مؤلفا في مرتبة القاهريّ لم يسجل القصص وينشرها بشكلها الشفويّ الشعبيّ بل راجعها وأزال الابتذال عنها، وسار على طريقة المحررين لكتاب ألف ليلة وليلة”. ويربط بعض الباحثين بين كتاب الحكايات المفقود للجهشياري (ت. 941م) وكتاب الحكايات العجيبة في أنه قد يكون كتاب الجهشياري. يقول ابن النديم في الفهرست عن كتاب الجهشياري “ابتدأ أبو عبد الله محمد بن عبدوس صاحب كتاب الوزراء بتأليف كتاب اختار فيه ألف سمر من أسمار العرب والعجم والروم وغيرهم، كل جزء قائم بذاته لا يعلق بغيره، وأحضر المسامرين فأخذ عنهم أحسن ما يعرفون ويُحسنون.. فاجتمع له من ذلك أربعمئة وثمانون ليلة، كل ليلة سمر تام يحتوي على خمسين ورقة، وأقل وأكثر، ثم عاجلته المنية قبل استيفاء ما في نفسه من تتمة ألف سمر، ورأيت من ذلك عدة أجزاء بخط أبي الطيب أخي الشافعي”. يقول هانس فير “نفترض وجود علاقة مع عمل الجهشياري المفقود، فمن الممكن أن يكون جوهر القصص مأخوذ منه، والذي أُكملَ وعُدِّلَ بطرق أخرى لاحقا. لكن يظل هذا أمرًا مشكوكا فيه، ولا يسعنا الاعتماد على هذه الفرضيّة. ونظرا لحجم الحكايات الكبير فربما اعتمد على حكايات شعبية أخرى، لا نعرف عنها شيئًا، ضاعت بعدم اهتمام جمهور القراءة المتعلِّم”. 

إنَّ سمة النقص تُعلِّم النثر التخيُّلي العربي، ولعل السبب في عدم الاهتمام بالنثر أو هي لعنة أدبية أصابت النثر لتثيرَ حوله حكايات وأساطير، فألف ليلة وليلة حكايات متنازع في أصولها وأعدادها وتاريخها، ويُروى أنَّ عدد مقامات الهمذاني أربعمئة مقامة وما بين أيدينا نحو خمسين مقامة لا أكثر، وبعض الكتب بمخطوطة يتيمة أو شوهاء أو ناقصة كما في رحلة ابن فضلان ونزهة الأشواق. يجعلنا هذا النقص في تيه دائم ونحن نسعى في معرفة ما خطَّته أقلام الأوائل، ولعل في هذا متعة الأدب، أن نقرأ لأجل أن نصل فلا نصل.   

ما يميز كتاب الحكايات العجيبة أنَّه قد يكون أقدم كتاب حكايات عربيّ، يقول روبرت إيرون، في تقديم الترجمة الإنجليزية التي أعدَّها مالكولم س. ليونز، “يتضح من عناصر الحكايات الداخلية أنَّها جمعت في القرن العاشر للميلاد، لكن تشير المخطوطة إلى زمن لاحق حدَّده بعض الدارسون في القرن الرابع عشر وفقًا لخطّ المخطوطة. وذهب آخرون إلى القرن السادس عشر… كتبت المخطوطة لتُهدى إلى المقام السامي، لكن الاسم غير مقروء، وهو يشير إلى الحقبة المملوكية في مصر والشام (1250-1517)، وهذا ما جعل كلود غارجين يعزو زمنها إلى القرن السادس عشر… والراجح أنها أقدم كتاب حكايات عربيّة على الرغم من تقاطعها مع بعض حكايات ألف ليلة وليلة”. أما زمن الحكايات فهو أقدم بكثير فبعضه يعود إلى الحقبة الأموية، وبعضها إلى ما قبلها. 

*

أختم هاهنا بالكلام عن حديث بياض ورياض، وهي حكاية مرجَّح أن تاريخ تأليفها (نسخها) يرجع إلى القرن السابع الهجري، الثالث عشر ميلادي، كما يذهب مخرج المخطوطة ومحقِّقها أ. ر. نيكل. لا يوجد من حديث بياض ورياض سوى مخطوطة واحدة، وهي محفوظة في مكتبة الفاتيكان (Ar. Ris. 368)، مكتوبة بخط مغربي، اشتُهر أنها سلبت من مدينة تونس من قبل قوات شارلز الخامس، ولهذين السببين يرى دارسون أنَّها مخطوطة شمال إفريقيّة كما يقول أ.ر. نيكل، ويضيف، يعتقد آخرون أنها نُسخت في الأندلس في وقت ما من القرن الثالث عشر، غالبا في النصف الأول من القرن. كما تجادل الدارسون حول المدينة التي جرت فيها القصة ويميلون إلى أنها مدينة أشبيلية، مع أنَّه لا إشارة صريحة إلى أي مدينة. في حين يرى المحقق العربي صباح جمال الدين أنها قصة مشرقية ويرجح وقوعها في العراق لذكر موضع يسمى الثرثار، ويرى أن المقصود هو نهر الثرثار -مع أنَّ هذه اللفظة ترد دون أي إشارة إضافية مُعرِّفة- فضلا عن الأشعار المشرقيّة، والمنمنمات ذات الوجوه المغوليّة، وهو فن شاع في المشرق الإسلاميّ لا سيما المدرسة البغداديّة. مما يؤسف أن هذه المخطوطة ذات نقص في بدايتها ونهايتها، بل القصة نفسها فيها قفزات ما بين بعض أجزائها، تبيّن أنَّ النقص قد طال القصة عند النسخ، أو أنَّ بعض أوراق المخطوطة مفقود، أو أنَّ النسخ لم يكن دقيقًا. إنَّ ورود عنوان حديث بياض ورياض ضمن فهرس الحكايات العجيبة، وبفضل ما بين يدينا من معلومات عن المخطوطة الأندلسية ومحتوى الحكاية، يجعلني أميل إلى أنَّ هذا الحديث مستلُّ من كتاب الحكايات العجيبة، لأسباب تبتدئ بتشابه عنوان، وهذا وحده لا يكفي لولا التقاطعات مع ألف ليلة وليلة مما يشي بشهرة الحكايات وذيوعها صيتها. وفي كون رياض يُلقَّب بالفتى الدمشقيّ، أي إنَّ بيئة الأحداث قريبة لبيئة الحكايات العجيبة، ويزيد من رجحان تشابه البيئة ذكر موضع باسم الثرثار، وهو منخفض في العراق يقع اليوم شمالي غرب محافظة تكريت ومن ضمنه بحيرة الثرثار، وسميت بالثرثار لكثرة مائها. وفي أنَّ موضوع حديث بياض ورياض يتشابه مع بعض مواضيع الحكايات العجيبة وهو الحب بأسلوب الفرج بعد الشدَّة. وفي كثرة الشعر في حديث بياض ورياض، كما في حديث بدور وعمير، والسول والشمول، والمقداد والمياسة، وصخر والخنساء. وفي الانتقال من سارد إلى ثانٍ دون فاصل لغوي أو تمييز أسلوبيّ كما في حديث المحلية والموهوبة وسائر الأحاديث.

الحكايات العجيبة وألف ليلة وليلة 

تتقاطع الحكايات العجيبة مع حكايات ألف ليلة وليلة، فأتت متشابهة في الكتابين مع اختلافات أسلوبية ولفظيّة. والحكايات الموجودة في الكتابين هي حديث النفر الستة “الحكايات العجيبة” = حكاية الإخوة الستة ضمن حكاية الأحدب والنصراني والمباشر واليهودي والخياط “ألف ليلة وليلة”، وحديث جلنار البحرية = جلنار وبدر باسم، وحديث أبي محمد الكسلان = حكاية أبي محمد الكسلان، وحديث بدور وعمير = حكاية جبير بن عمير والست بدور. وجاء في بعض الحكايات تشابه بين الكتابين مثل حديث طلحة وجاريته تحفة = حكاية أنيس الجليس وعلي نور، وحديث الأربعين جارية والتشابه في حُبكة طلب عدم فتح خزانة التي ترد في غير مرة في ألف ليلة وليلة، وحديث محمد الموجود = حكاية قمر الزمان وابنيه الأمجد والأسعد والتشابه هو ما حدث بين محمد الموجود وخلطخ في داره وما حدث بين الأمجد وبهادر في داره. فضلا عن التشابهات الموضوعيّة في لم شمل العشاق بعد فراقهم، والفرج بعد الشدة، والتيهان في الجزر والبحار، والبحث عن الكنوز، والتقاء بمخلوقات عجيبة، ووجود الجن والعفاريت والملائكة، والأدوات السحريّة كالخواتم والخرز، وحضور هارون الرشيد ومحمد بن سليمان، وانتهاء مصير الشخصيات بالغنى أو القرب من الحكَّام. 

أعرج قليلا على حديث جلنار البحريّة، وهي إحدى الحكايات ما بين الكتابين، يرد في حديث جلنار في كتاب الحكايات العجيبة اسم شهريار، وهذا ما يجعلني أميلُ إلى أنَّ الحكاية مأخوذة من كتاب ألف ليلة وليلة، وغيَّر المؤلف اسم الملك إلى شهريار ليحيل خفيةً إلى كتاب ألف ليلة وليلة. تبتدئ الحكاية في ألف ليلة وليلة بـ: “إنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان في أرض العجم ملك يقال له شهرمان، وكان مستقره في خراسان وكان عنده مئة سريّة…”. وفي حديث الحكايات العجيبة: “إنه كان في بأرض خراسان ملك عالي المكان، عزيز السلطان، يقال له شهريار وكان له مئة جارية…”. فلماذا تغيَّر الاسم إلى شهريار ولم يبقَ شهرمان أو يتغير إلى اسم آخر؟ قد يكون الجواب إنَّ حديث جلنار مأخوذ من كتاب شهرزاد، وهذا ما أرجِّحه، أو قد يكون العكس هو الصحيح واضطّر مؤلف حكايات شهرزاد إلى تغيير الاسم لمواءمة الاسم مع الكتاب دون إخلال في بُنيته وتداخل عوالمه. وبغض النظر عن صحة أيّ الاحتمالين فإنَّ التداخل ما بين الكتابين يعني أنَّ مؤلف أحد الكتابين أو كلاهما عارف بكتاب الآخر، واعتمد عليه في تأليف حكاياته. فالكتابان نتاج بيئة ثقافية ولغويّة واحدة، وهي بيئة عراقيّة سواء كانت في بغداد أو مدن أخرى كالكوفة. ومن أبرز ما يؤكّد هذا القول هو اللغة المحكية في الحوارات، واستخدام مفردات ما زالت موجودة في اللهجة العراقيّة مثل استخدام الفعل قاعد فعلا مساعدا: قعدت تعظني، والكم وولك (عند الخطاب المباشر)، بسنا فرجة. 

تنتقل اللغة في الحكايات من الفصيحة إلى المحكية لا سيما في الحوارات، ويتغيّر السارد بين الشخصيات دون فاصل أو بيان من المتكِّلم في صوت السارد والمتكلم، مع تكرار العبارات والأسلوب في حكايات مختلفة. جديرٌ بالذكر أنَّ كاتب الحكايات شيعي أو ذو ميول شيعية (لكنه غير رافضي فيذكر الأمويين والعباسيين دون إساءة أو بغض أو تحقير)، إذ يرد الحلف بعلي بن أبي طالب، ذكره في أكثر من موضع مثل: يا بضرا وعلي جاء الحل.. وعلي عرفني.. قال هذا وعلي عقيد العشرة، يا لعلي فتحته الكلبة. ويُذكر علي بن أبي طالب كما في خبر الجن الذي أسلموا على يديه، وفي قصة المقداد والمياسة تبرز شجاعة علي التي غلبت المقداد الذي لا يُقهر، وإرداف اسمه بـ(عليه السلام) في مواضع، وفي مواضع أخرى بـ(كرم الله وجهه).

الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة 

الحكايات العجيبة كتاب متنوعٌ المواضيع والأزمنة والأمكنة والشخصيات، تدمج حكاياته ما بين الحقيقيّ والخياليّ، والتاريخيّ والتخيُّليّ، ويتسع نطاق حكاياته الثماني عشرة ليشملَ طيفًا متباينًا من الأحداث والحبكات والتقنيات والغرائبيات، وينحو في معظمه منحًى يبدأ بشدَّة وينتهي بفرجٍ وعيشٍ هنيّ لشخصياته. سأمرُّ على حكاياتٍ من الكتاب لإجمال صورة عن الكتاب وقدره. يبدأ الكتاب بحديث ملك البحرين سَيْحون وجَيْحون وهي حكاية عن مؤامرة وزيرٍ على ابن الملك، يمرُّ ابن الملكٍ بأحداث كثيرة متعاقبة تنتهي بغلبته على الوزير وكشف مؤامرته. لكن ما يثير الالتفات في الحكاية دخول العنصر السماوي، ما وراء الطبيعيّ، ليكون عونًا للبطلِ في مواجهة خصمه. بعد أن قطع الوزير رجليه ويديه، وتركه في حالٍ قريبة من الموت، أنقذته امرأة من القصر، لكنه بقي على شفا الأخطار، وانتهى به المآل في مغارةٍ والوزير مُقبلٌ عليه مع أعوانه، يتضرَّع ابن البطل إلى الله لينقذه يستجيب الله له ويُنزل عليه الملائكة فأعادت إليه قدميه ويديه. استردَّ البطلُ ما يعينه على قتال الوزير والانتصار عليه والاجتماع بأبيه. 

وفي حديث طلحة ابن قاضي مصر وجاريته تحفة يبيع طلحة جاريته مضطرا لحاجته إلى المال، فتصير عند تاجر دمشقي من أهل الشام، فيسعى في استردادها بالسفر إلى الشام. يصادف أنَّ الدمشقي حين يعلم بقصته يسافر إلى مصر بحثًا عنه. كان طلحة في أثناء ذلك عند عبد الملك بن مروان فيُخبره بخبره، ويأمر عبد الملك أن يؤتى بالدمشقي ليعيدَ لطلحة جاريته. ظنَّ عبد الملك بوشاية أحد رجال بلاطه أن الدمشقي غير راغب في الحضور، فيأمر بنهب بيته. يعود طلحة إلى مصر مع خلعة وعطية من الملك، وتسوقه الأقدار إلى زواج امرأة يكتشف أنها جاريته ويلتقي بالدمشقي ويكرمه. ما الذي أتى بالدمشقي إلى مصر؟ هنا نكتشف حُبكة متعاكسة فطلحة يذهب إلى الشام ليستردَّ جاريته من الدمشقي، والدمشقي يرحل إلى مصر ليلتقي طلحة ويعيد إليه جاريته. أما الجارية ففي خضمِّ نهب بيت سيدها الدمشقي تهربُ إلى مصر. عادت الشخصيات الثلاث إلى مصر حيث كان مبتدأ الحكاية، وكما تفرَّقوا في دمشق من غير قصدٍ منهم، اجتمعوا في مصرٍ بلا قصد منهم أيضا.

يبرز حديث عروس العرائس في مقدمة أحاديث الكتاب إتقانًا في حبكته وإمتاعا في قراءته. عروس العرائس حكاية قوامها “كراهية النساء” و”شرُّ المرأة الفطريّ”، يرويها شيخٌ ضرير على ملكٍ تُوفيت ابنته الصغيرة لأجل أن، كما ورد في الحديث، “يبغض إليه النساء والبنات المحتالات المكارات الغدَّارات”. ينفرج الحديث بعدها عن رائعة من الروائع الأدبيّة مع عروس العرائس ومغامراتها وحيلها مع الرجال وغدرها بهم بل وقتلهم. فهي باهرة بجمال فتان، وخبث مستطير، وشبق داعر، ونفس مجبولة على الشر، أهلكت من أحبَّتهم وأحبوها وبغضتهم وبغضوها من الرجال حتى بعد موتها بمكرها وحبائلها، لتُختم الحكاية بواحدة من النهايات العجيبة. يتبادر سؤال عن كيفية التعاطي مع الحكاية، لا سيما في جعلها المرأة كائنًا شيطانيًا جحيميًا لا يقدر عليه الإنس والجن؟ إنَّ عروس العرائس ليست مثالًا عن المرأة أو نموذجًا تعميمًا، ففي الحكاية نساء هلكن بسبب مكرها، فهي شخصية متفرّدة، تُعامل على أساس أفعالها، وهذه الأفعال تخصُّها وحدها دون بنات نوعها، وإنْ عملَ راوي الخبر على جعلها مثالا لبقية البنات لكن كان هذا ليخفف عن الملكِ شدة وطأة وفاة ابنته ويُسليه عنها. والحديث في ذاته نابعٌ من بيئة تعاملت مع المرأة في الأدب على فرض شرِّها الفطريّ وسوئها ومكرها وضرورة مراقبتها الدائمة، فالحكاية ابنةُ عصرها وليست ببدعة من الحكايات والأخبار عن النساء.   

يأخذ حديث أبي ديسة طابعًا هزليًا ساخرًا فهو أبله تضطره زوجته إلى أن يعمل منجما على الرغم منه. يسايرُ الحظ في كل مرة ويشتهر عند الملك ويذيع صيته مما يسهّل عليه أمره في كشف المستور وحلِّ المعقَّد من الأمور، كلُّ ذلك في قالب مُضحك ينتهي دائما في صالح أبي ديسة. وهذا الحديث معروف إذ يرد مع تغييرات فرضتها بيئة الحكاية الجديدة في كتاب هزُّ القحوف بشرح قصيدة أبي شادوف. وسأكتب عن ذلك مفصِّلا في مقالة “مناظرات الحمقى والمخادعين”. 

تنزع أحاديث “السول والشمول” و”المقداد والمياسة” و”صخر والخنساء” منزعا قوامه شخصيات عربيّة حقيقيّة، ووقائع تاريخيّة مُتخيَّلة، في الجزيرة العربية، فشخصياته وأحداثه وحبكته عربيّة خالصة، في بيئة مطعَّمة بالحب والوفاء والشجاعة، ولغة يتنازعها الشعر تنازعًا يخرمُ فيه سرد الحكاية ويقطعه، لكنه يبقى جزءًا من أسلوب تعبير الشخصيات عن حالها. فحديث السول والشمول حكاية حب بين أبناء عمومة، إذ يختطف تنين الشمول في ليلة عرسها على ابن عمها. يخرج السول يبحث عنها، حتى وصل بمساعدة ساحر إلى إبليس فأعانه على استرداد ابنة عمه التي خطفها التنين بأمر من جنيّة عشقت السول. تزوج السول في آخر الحكاية ابنة عمه والجنيّة. ولحديث المقداد والمياسة طابع عربي جاهلي وإسلامي في الآن نفسه، مما أدى إلى مفارقة زمنيّة بنحوٍ قليل. هذه الحكاية أيضًا حبٌّ ما بين المقداد وابنة عمه الميَّاسة، لكنها ليست حكاية حبٌّ تقليديّة بل شبيهة بالطابع الأسطوريّ الأوروبيّ، فتفرض الباسلة الميَّاسة على من يريد زواجها أن يهزمها في مسابقة، ويحيلنا هذا إلى أسطورة أتلاتنا اليونانية، وأساطير سيغورد وبرنهيلد الآيسلندية والجرمانيّة. وسأكتب عن ذلك مفصِّلا في مقالة “مسابقة الزواج ومنافسة المرأة الباسلة”. يحضر في الحكاية النبي صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما، كما يحضر جبريل عليه السلام. وهي بذلك حكاية أسطوريّة عربيّة بامتياز قائمة على أصول حقيقيّة، إذ المقداد في الحكاية هو نفسه الصحابي المقداد بن عمرو من بني كندة، المعروف بالمقداد بن الأسود توفي سنة 33 هـ. ولعل أكثر حكاية إبداعية في هذه الحكايات هو حديث صخر والخنساء إذ يصبح حبُّ الخنساء لأخيها صخر ورثائها له بعد وفاته الذي طبَّق الآفاق أساسًا لهذه الحكاية الأسطوريّة ذات حبكة متناظرة وقوامها اغتصاب مقابل اغتصاب. تمنح الحكاية سببًا متخيَّلًا عن هذا الحب الفريد الذي أبانته الخنساء في رثائها صخرا، إذ كانت الخنساء في الحكاية ابنة رجل ذي يسار وأختا لثلاثة أصغرهم صخر، ومن شدِّة حبهم وغيرتهم عليها أفردوا لها خيمة خارج حيِّهم. مرَّ عليها ذات يومٍ المقداد -وهو غير صاحبنا في الحديث السابق- فاغتصبها، وحين علمَ أبوها بالأمر سأل أبناءه، أجابه صخر أنه كان سكرانَ ووقعَ عليها. نفاهما الأبُ، وبقيا يتنقلان سنينًا بين أحياء العرب حتى عثر صخر على غريمه، وكانت له أختٌ تُدعى الهيفاء، حالها شبيه لحال الخنساء، فاغتصبها، ثم عرف المقداد بأنَّ له من الخنساء ابنًا، فحلَّ الوفاق بينهم وتزوَّجَ الأربعة. لا تنتهي الحكاية عند هذه الخاتمة السعيدة بل تقود الحياة صخرا إلى بني مازن ليشتري منهم فرسًا، وبعد أن يبتاعه يعود صاحبه رافضا البيع، ويرفضُ صخر أن يعيد الفرس ويحل بينهم الصراع. يُنجد بنو مازن صاحبهم ويقاتلون صخرا مقاتلة شديدة تنتهي بقتله. تعلمُ الخنساء بمقتل أخيها وتبدأ رحلة انتقام شديدة، تشبه التي قادها امرؤ القيس طلبًا لدم أبيه من بني أسد الذين قتلوه، وأحسبُ أنَّ مُبدع الحكاية اعتمد على قصة امرئ القيس وطلبه الثأر في إبداع خبر الخنساء وانتقامها لأخيها الذي ما توقَّف حتى أتوها بألف امرأة قُتل أخوها في الحرب.   

يحضر هارون الرشيد في أكثر من حكاية في الكتاب، والرشيد أكثر شخصية تاريخيّة ترد في كتب الحكايات. فهذا الخليفة العباسيّ ذو صيت طبَّقَ الآفاق، وتحوّلَ إلى شخصية أدبيّة تُنسج في المخيال الشعبي عنه، ومزاجه، وثرائه، وبلاطه، وخدمه، وجواريه، وأسماره، الحكاياتُ والقصصُ والأخبارُ صار بفضلها أسطورة حيّة شاخصة في كتب كثيرة في بغداد الخلافة. يعثر الرشيد في حديث محمد الموجود على رضيع فيعطيه زوجته زبيدة لتربيّه مع أبنائه، ثم تجري على محمد وقائع ابتداء من اتهامه باغتصاب جارية الرشيد الرومية فيطلب الرشيد من مسرور ضرب عنقه، لكن مسرور يشفق عليه لسابق فضله (حبكة مكررة) ويجعله يهرب. في الصباح يندم الرشيد على فعلته لأنه أمر بها وهو سكران، ثم يسعى في البحث عنه. ينتهي الحديث بعد سلسلة من الوقائع بعودة محمد إلى قصر الرشيد بمعونة خلطخ، شخصية هزليّة منحت الحكاية جوًا مغمورًا بالضحك والبهجة. وفي حديث الأشرف والأنجب نقف على حكاية تُصنَّفُ اليوم من الأدب العنصري أو التمييزي ضد السود. يتربى الأشرف الأبيض ابن محمد بن سليمان، والي البصرة، مع ابن جارية الوالي الأنجب الأسود، لكنهما عاشا معا لا يعلمان أنهما ليسا بأخوين. يعلم الأنجب عند وفاة محمد بن سليمان أنَّه عبد الأشرف، فيقتل أمه، ويطلب من الأشرف شطر مال “أبيه” فوهب له الأشرف لأنه لم يرضَ ألا يكون الأنجب أخاه. سافر الأنجب إلى هارون الرشيد في بغداد وأوهمه أنَّه ابن محمد بن سليمان ابن عمه، ويحتال على وزير الرشيد فيجعل الخليفة يقتله، ثم صار له أمر وشأن. دارت الأحوال بالأشرف ولما سافر إلى الأنجب أنكر عليه معرفته وأمر بسجنه، لتدخل شخصية عبيد الطباخ، وهي شبيهة لشخصية خلطخ، ويعمل على مساعدة الأشرف والانتقام من الأنجب. تقوم الحكاية على تبدُّل الهوية بين الأشرف والأنجب، إذ ينحدر بالأشرف إلى منزلة العبد، ويعلو المقام بالأنجب إلى منزلة السيِّد في ادِّعاء هويّة خدعت أعلى سلطة في البلد، وعاش متنعمًا بها حتى انقلب له ظهرُ المجنّ. 

تنتهي الحكايات العجيبة بحديث المحلية والموهوب، وهي أطول حكايات الكتاب في جزأين: المحلية والموهوب والغزال المحجَّل والجنيّ حبيبها. يصل عمرو بن العاص بعد فتحه مصر إلى قصر فيستدعي الرهبان ليعلموه بخبر القصر. يروي عليه الراهب مطرون حكاية هذا البُنيان العجيب الذي آل إلى مُلك المسلمين. تجتمع في هذه الحكاية وقائع كثيرة ومغامرات مثيرة وتداخل بين عوالم الإنس والجن والشياطين والحيوان، في بيئة فانتازيا فريدة من نوعها.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى