نرام-سين؛ الملك الإله
كانت بلاد الرافدين بودقة كبيرة انصهرت فيها الأقوام المهاجرة إليها أو حتى تلك الغازية، مما أدى إلى قيام مجتمعاتٍ سُكانيّة متنوعَّة الأعراق جمعتها هذه الأرض وذابت فيها مُتبنِّية الأسس الفكريّة والحياتيّة التي أقامها السومريّون، وساهمتْ هذه الأقوام في النهضة الحضارية ودفع عجلة الحضارة لتمضي قدمًا. يقول طه باقر “حدث في العهد البابلي القديم (2000-1500 ق.م.) انصهار حضاري وسياسي ولعل أحسن ما يعبّر عن هذا الاتجاه شريعة حمورابي الشهيرة التي لم تفرق ما بين السومريين والبابليين والقوميات الأخرى بل إنها وضعت لجميع السكان، وفوق ذلك نجد اتجاها عاما يتعدى حدود مملكة مشرعها، حمورابي، ليشمل جميع الناس أو البشر في عرف ذلك الزمن أو كما جاء في العبارة المشهورة ’ذوو الرؤوس السود‘”. كانت الأقوام السامية الآتية من غرب العراق، في بلاد الشام وشمالي الجزيرة العربيّة، أبرز الأقوام المهاجرة، وأسَّست أول إمبراطوريّة في التاريخ على يد سرجون، الذي اتَّخذَ من مدينة أكادة أو أكد عاصمة له، وانتسبَ إليها الساميّون. دامت هذه الإمبراطوريّة نحو قرنين من الزمن (2334-2154 ق. م.)، وانتهى أمرُّها وذهبت ريحها حين قضت القبائل الجوتيّة على الأكديّين، وهي قبائل قطنت في جبال زاجروس في شرقي شمال العراق. برزَ بين ملوك الأكديّين الملكان المؤسس سرجون الأكديّ وحفيده، الملك الثالث في الترتيب، نرام-سين. نُسجت الكثير من الأساطير عن هذين الملكين، ودوِّنت عنهما قصائد، فمن بين القصائد التي تحدَّثت عن سرجون الأكدي، النص المعروف بعنوان سرجون وأور-زبابا. تروي هذه القصيدة القصيرة إعادة أور-زبابا المجد لمدينة كيش السومرية، وكان سرجون في أول أمره عامل مؤن في بلاط أور-زبابا. رأى أور-زبابا في منامه رؤيا أرعبته ولم يخبر بها أحدا وعاش في قصره مرعوبا يبول على فخذيه من شدة الخوف، والغالب أنه رأى نهايته وسرجون من يرثه. عيّن أور-زبابا بعدها سرجون ساقيَه، وفي إحدى الليالي رأى سرجون في منامه رؤيا أن أور-زبابا يغرق في الدم، فصحا ساقطا على الأرض يصيح، سأله أور-زبابا عن حلمه فأخبره سرجون بما رآه. قرر حينئذ أور-زبابا التخلص منه فدبّر قتله في بيت المصير إي-سيكيل، لكن حاميته الإلهة إنانا أنقذته إذ منعته الدخول بحجة أن المكان طاهر لا يجب تدنيسه. ثم أرسله أور-زبابا إلى لوغال زاغي سي برسالة تنص على قتل حاملها، لكنه لم يُقتل ونهاية النص غير مفهومة على نحو دقيق. ثم كان بعد ذلك بروز نجم سرجون الذي انتهى به إلى اتَّخاذ أكادة عاصمة له وأقام إمبراطوريّته الشهيرة وله أعمالٌ عظيمة في توطيد إمبراطوريته وتوسيعها وهزيمة أعدائه.
برزَ بعد وفاة سرجون حفيدُه نرام-سين، ومعنى اسمه حبيب إله القمر سين، وحكم ما بين سني 2254-2218 ق.م. بلغت الإمبراطورية الأكديّة في عهده أوج قوَّتها ويشير التاريخيّون إلى اتِّخاذه أو جدَّه المؤسس لقب ملك الجهات الأربع، يقول طه باقر “وهو لقب بالإضافة إلى كونه مظهرًا من مظاهر اتِّساع السلطة وازدياد رفعة المملكة، ذو مدلول ديني لتثبيت السلطان السياسي، فقد كان لقبًا خاصًا ببعض الآلهة العظام مثل آنو وإنليل وشمش بصفتهم أسياد الخليقة والكون، وباتخاذ الملوك الآكديين هذا اللقب صاروا ممثلين لهولاء الآلهة في حكم العالم… كما أوجد الملك نرام-سين بدعتين في نظام الحكم أولاهما أنه صدر كتابة اسمه بالعلامة الدالة على الألوهية، وقد سار على هذا العرف عدد من الملوك الذين جاؤوا من بعده. وصار يلقب نفسه إله أكاده وهذه بدعة، ولا سيما الشق الثاني منها، كانت أقرب ما تكون إلى الكفر والخروج على العرف الديني، لأن الحكام في وادي الرافدين لم يتجاوزوا، وهم في أقصى تعاظمهم، حد التقديس والتأليه، وكونهم نوابا عن الآلهة في حكم البشر. وكان يلبس في الحرب خوذة حربية ذات قرنين، سمة الألوهية ورمزها. والثانية اتِّخاذه لقب ملك الجهات الأربع”.
مسلة النصر ويظهر فيها نرام-سين وهو يخضع قبائل اللولوبو
كثرت النصوص المرتبطة بنرام-سين هذا الملكِ المتجبِّر والمحارب المَهيب الذي ادَّعى الألوهيّة، يتصدَّرُ منها نصَّان؛ الأول هو لعنة أكادة والآخر هو أسطورة كوثا. لكن قبل الحديث عن هذين النصَّين نذكرُ نصوصا أخرى تبيّن عظمة نرام-سين وما بلغه من صيت جليل طبَّقَ الآفاق وخلدَ من بعده. ففي نص نرام- سين وإله العالم السفلي إيرا يتحالفَ هذان معًا في قتال الأعداء وهزيمتهم، وبعد هزيمتهما جموع المحاربين يُنقش اسماهما على بوابة المعبد، ويمنح إيرا سلاحه السيفَ المعقوفَ هديةً لنرام-سين. ومما يلاحظ في هذا النص هو التحالف بين نرام-سين وإيرا الإله، فهنا يخرجُ نرام-سين من حدود بشريَّته ويصبحُ محاربًا حليفًا للآلهة، وليس أيُّ إله بل إيرا الإله الغضوب والمدمِّر، تأكيدًا على رفعة نرام-سين، وشبهه بنينورتا، الإله المحارب وبطل الآلهة وابن إنليل وننليل. وفي نصٍ آخر فإنَّ نرام-سين يقاتل وحده سبعةَ عشر ملكًا، ومع أنَّ اللوح غير مكتملٍ فمن الجليَّ أن نرام-سين غلبهم. وفي نصٍ ثالث يعرف بالمعركة العاشرة، فإنه يُضفى على نرام-سين صفة جليلة، وهي صفة الرحمة بأعدائه المهزومين، فيقاتلهم ويهزمهم في تسع معارك متتالية ثم يعفو عنهم، ثم يواجههم في المعركة العاشرة ويقضي عليهم جميعًا. يوضِّح النصَّان الأخيران أمرين مهمَّين، الأول هو تحالف أعدائه على حربه من أجل القضاء عليه، وفي كونه ملكًا صبورًا لا يقضي على أعدائه بل يمهلهم حتى يرعووا قبل أن يستأصل شأفتهم كما فعل مع قبائل اللولوبو.
أما في نص لعنة أكادة فإنَّ الحديث عن نرام-سين يأخذُ بعدًا آخرَ، وجديدًا من نوعه، إذ يصبحُ عدوَّ الآلهة ومحاربها ومدنِّس معابدها. يروي هذا النص لعنة الآلهة التي حلَّت على مدينة أكادة في عهد نرام-سين، وما أصابها من دمار وخراب على يد قبائل الجوتيّين الجبلية الذين يوصفون في النص بأنَّهم شعب جامح، بعقل بشر، وغريزة كلب، وسلوك قرد. تبدو فكرة النص للوهلة الأولى عاديّة لا يميزها شيء لكنها في الحقيقة واحدة من أفكار النصوص اللافتة في موضوعها. يلعب نرام-سين دورًا مفصليًّا حين يرى في المنام أن إنليل قد قرر أن تُسلب أكادة مكانتها وازدهارها وتذهب ريحها إلى عدوها فسعى جاهدا مع عرّاف معبد إنليل، الإيكور، أن يغير قرار إنليل ويثنيه عما عزم عليه فخاب مسعاه وما نال بغيته. لكن حين نستذكِّر أن نرام-سين أول ملك من ملوك وادي الرافدين ادّعى الإلوهية في حياته وصار مع إنليل الإله الحامي لمدينة نفّر؛ نفهم ما قرره هذا الملك الجسور والفخور والمحب لنفسه ومدينته في القصة. أبصرَ نرام-سين أنَّ إنليل لا يريد لهذه المدينة أن تبقى عامرة، فما الذي عزم نرام-سين عليه؟ عزمَ على أن ينال إنليل عقابه مع مجمع الآلهة، وقرَّر أن يقود جيشه ويذهب لتدمير معبد إنليل في مدينته وينهب كنوزه. يتحول النص إلى مواجهة أولى في الأدب بين البشر والآلهة، وهنا ينوب عن الآلهة المعبد حيث تقام الطقوس وتؤدى النذور وتحيا الشعائر، دنّس نرام-سين رمز الألوهية في الأرض، فإن كان لا يستطيع أن يبلغ مقر الآلهة في السماء ويغير الأقدار فإنه سيهين قَدْرها ويحط من مكانتها دائسا إياها بنعله ونعال جنده.
جعل نرام-سين بفعلته هذه لعنة إنليل جديرة بأكادة وترك للآلهة سببا وجيها للانتقام والعقاب لكنه قبل أن ينزل عليه ما تقرر سلفا أخذ بثأره وأهان آلهته وحطم معبدها وتركه غرضا للأيادي تعبث به وتنهبه. وإن كانت أكادة ستزول لتزلْ وهي حقيقة بذلك. فكأن النصَّ يعقلن لعنة إنليل للمدينة ويعطي الآلهة الحجة في تدميرها والقضاء عليها، وهكذا فإنَّ النص يبدأ بلعنة إنليل مجهولة الأسباب وينتهي بنزولها لسبب كُشفَ عنه، وتمثَّل بغضبة نرام-سين من الآلهة وتدمير معبدها في مدينته فحقَّ على مدينةٍ لا توقِّر آلهتها أن ينتهي أمرها إلى الزوال والهباء.
وفي نص أسطورة كوثا فإنَّ الآلهة خلقت جيش كوثا وهو جيش لا يقهر، يجتاح البلاد ويدمرها. استشعر نرام-سين بالخطر المحدق به ومدينته فطلب من الآلهة المشورة فيما يجب عليه أن يفعله مع هذا الجيش، فتشير عليه بألا يواجههم لكنه مرة أخرى لا يمتثل لأمرها ولا يأخذ بمشورتها. فيرسل مستطلعا ويعطيه خنجرا ويطلب منه أن يطعن أحدهم ويرى إن خرج دم من جرحه أو لا، ليعرف أبشرا كانوا أو مخلوقات غير بشرية. جاءه الجندي بحقيقة كونهم بشرًا، فيرسل نرام-سين ثلاثة جيوشا في ثلاث سنوات لكن لم يعد جندي منهم. يندب نرام-سين ساعتها نفسه وأنه لا يستطيع حماية شعبه ويحسب أنَّ نهايته آزفة. يتضرع نرام-سين مرَّة أخرى للآلهة ويقدم النذور لها، ثم يأسر اثني عشر جنديا من هذا الجيش لكنه لا يقتلهم، وتُعْلمُه الآلهة أن بلاد عدوه ستُدمر وينتهي أمرها. وتنتهي القصيدة بمباركة من يقرأ المسلة التي نقشت عليها القصيدة.
لوح منحوت عليه صورة نرام-سين