لمحات من أدب وادي الرافدين
الأدب السومري أدبٌ ضاربُ الجذور في التاريخ، وهو الأول من نوعه في التاريخ الإنساني، ومع أن اكتشافه كان في العصر الحديث فلا مناص من الارتكان إليه وقراءته بعين الدرس والمتعة، لأننا في حضرة أدب متعدد المواضيع والأساليب والفنون والأنواع، ويكشف عن تطوُّر فكري ولغوي وأسلوبي وتعبيريّ وفي طيَّاته وثنياته مجدٌ إنسانيّ ما زال يلقي بظلاله الوارفة على البشرية في كل مكان. لم يكن اندثار السومريين كيانا سياسيّا في أواخر الألف الثالث قبل الميلاد مانعًا من انتقال آدابهم إلى الأكديين والبابليين والآشوريين، ولا في أن يُعاد تدوين هذه النصوص وترجمتها إلى اللغة الأكديّة في العصور اللاحقة لهم، فبقي متداولًا وفي حيِّز التلقي والتعلُّم قرونا مديدا. طوى النسيان جزءا كبيرا من متن آداب وادي الرافدين حتى بدأت عمليات التنقيب منذ القرن السابع عشر فالثامن عشر قبل أن تأخذَ منحًى أكثر دقة واستمراريّة وجديّة في القرن التاسع عشر فالعشرين، فبدأت الاكتشافات الأثرية وعثرَ على مئات الآلاف من الألواح، وكان من بينها الآلاف من النصوص الأدبيّة لتلك الأقوام التي أنتجت واحدا من أروع الآداب الإنسانيّة، وأقدمها في التاريخ. في هذا المقال سنمرُّ سريعًا على هذه الأدب الكبير مسلطين الضوء على أجزاء منه، ولامحين بعضَ ما جادت به نفوس المُبدعين في العصور الخالية، التي وإن خبا ذكرُها وتلاشى اسمها وغاب رسمها فإن ما تركته من أدب وكتابة ما زال يلقى أذنا صاغية وأخرى واعية، ولا مناص أن تكونَ هاتان الأذنان هما أذنيّ ابن المشرق الذي هو امتداد لأولئك الأجداد.
كتبَ السومريون ومن بعدهم الآكاديون والبابليون في حقول متنوعة كالملاحم والأساطير وقصائد الحب والمدائح والمراثي والترانيم والدعاء وتمجيد الآلهة، وتكوَّن لهم مجمعٌ من الأمثال التي حوت التجربة الإنسانية اجتماعيا وفكريا وأخلاقيا في كلمات معدودة.
– يُذكر في مقدمة كتاب أدب سومر القديمة The literature of ancient Sumer بيان عن صعوبة التعامل مع النصوص السومرية، هذه الصعوبة التي تشمل التاريخ القديم في وادي الرافدين وتكشف عن صعوبة البت بأي معلومة أو معنى بتًا جازمًا إلا إذا أجمع عليه العلماء والدارسون إجماعا لا تشوبه مخالفة:
إنَّ الترجمات من الطبعات المُعلَّمة [المُخَطَّطَة] والنصوص المُجمَّعة (كما الحال في هذا الكتاب) تعتمد على براعة تفسيرية، أي إنها ليست ترجمة مباشرة من المصادر القديمة لكن من تأويلات، واقتباسات تكييفيّة، وتجويدات قائمة على فَهمنا للمتن الأدبي [السومري] كليًا، غالبا، حتى في حال لا يكون لدينا مصدرٌ سومريٌّ عن فقرةٍ بعينها. أهذا غشٌ؟ لا نحسبُ ذاك غشًا، فقد أخذنا بعين الاعتبار كلَّ المصادر القديمة، من دون أن نغلو في تقديم ثماني ترجماتٍ مختلفة، وهي بطبيعة الحال متشابهة، ما عدا بعض الفراغات المُضجرة وعلَّمنا عليها بثلاث نقاط … حيث يكون موضعها مكسورًا في اللوح أو غير مفهوم.
– يقول صمويل نوح كريمر في كتابه الأساطير السومرية: للشعرِ السومريّ سمتان أسلوبيتان مائزتان، تتمثل السمة الأولى في تكرار بعض المقاطع، وإنْ كانت ليست ذات درجة فنيّة رفيعة لكنها هبة لا تُقدَّر بثمن لمن يتولَّى فك شفرات النصوص. فإذا ما وجدَ الشاعر أنَّ من اللازم تكرار وصفٍ أو حدثٍ فهو يُكرِّرُه تماما من أوله إلى آخر بلا استثناء، فحين يأمرُ إلهٌ أو بطلٌ رسولَه بإبلاغ رسالته فإنَّ رسالته تصلُ كاملةً بغض النظرِ عن طولها وتفاصيلها، وتتكرر مرَّتين في النصِ بالتمام والكمال بلا اختلاف مما يساعد على إكمال النقص الوارد في بعض النصوص بسبب خرمٍ في اللوح أو كسرٍ.
أما السمة الأخرى فيمكن القول بأنَّ الشاعر السومري يستخدم لهجتين في تأليفه الأسطوريّ والملحميّ، الأولى هي اللهجة الرئيسة والأخرى تُعرفُ بـ لهجة إيسِمال Emesal. تشبه الثانيةُ الأولى في معظمها وتختلف معها في بعض تباينات الخصائص الصوتيّة والتنوُّعات المنتظمة. ما يلفت الانتباه أنَّ الشاعر يستخدم لهجة إيسِمال لخطاب الأنثى المباشر، دون الذكر، ويكون خطاب الإلهة إنانا بلهجة إيسِمال على نحوٍ مُنتظم.
– في قصيدة البطل لوغال باندا مع الطائر أنزو، ويعود تاريخها إلى الألف الثالث قبل الميلاد، فإن لوغال باندا يطلب من الطائر العملاق هبةً في أن تصبح قدماه سريعتين جدا ولا تتعبان، ويذهب إلى أي مكان بسرعة خارقة. وهذا ما تحقق له بامتلاكه السرعة اللا محدودة، ويكون بهذا أول شخصية أدبية بشريّة تتمتع بقدرة ذاتية خارقة وهي السرعة العجيبة Speed man. لا تتكرر الشخصيات ذات القدرات الذاتية الخارقة إلا قليلا جدا في الأدب القديم، والمثال الآخر هو البطل الآيسلندي/ الجرماني سيغورد/ سيغفريد، بعد أن قتل التنين فافنر واغتسل بدمائه اكتسب جلده حصانة من السلاح فلا يؤذيه أي سلاح وإن اشتدَّت قوته واحتدَّت شفرته سوى موضع في ضلع كتفه الأيسر. الجامع ما بين هاتين الشخصيتين هو حكمة الطائر أنزو حين طلب من لوغال باندا أن تبقى قدرته العجيبة سرا لا يعرفه أحد لأن “الهبات تجلب المصائب” التزم لوغال باندا بذلك في حين أسرَّ سيغفريد لقرينته كريمهيلد بموضع ضعفه، واستغلّ قريبها هاغن ذلك فكشف منها عن موضع ضعف سيغفريد وقتله عند النبع.
– تروي إحدى القصائد السومرية أسطورة نشأة دودة الأسنان وغذائها على الدم واللثة. فبعد أن خُلقت السموات والأرض ودبت الحياة تضرعت الدودة للآلهة تسألها ماذا تأكل لتعيش فعرضت الآلهة عليها التين، لكنها رفضت ذلك وطلبت العيش بين السن واللثة لتمص الدم وتقضم اللثة. وكان لها ما أرادت.
– وفقا للأساطير السومرية فإن خلق البشر جاء بعد أن تأفأفت آلهة السخرة من أعمالها في الأرض، لذلك خلق أنكي بمعونة آلهة أخرى البشر ليقوموا بالعمل، أي إنهم خُلقوا للتعب والشقاء ولكي تتمتع الآلهة بالعطالة والكسل والأكل والشراب، واشقَ أيها الإنسان.
– في ملحمة الوحش الطائر أنزو في الأساطير السومرية، ضمن قصائد البطل نينورتا، فإنّ أنزو بعد أن يستحوذ على لوح الأقدار المتحكم بالكون يصبح ذا قوة جبّارة لا يهزمه أحد حتى يأتي البطل نينورتا، ومن قدرة أنزو بفضل لوح الأقدار أنه يعيد السلاح الذي يُهاجم به إلى عناصره الأولى، كأنه يعود به إلى ماضي أصله مفككا إياه.
– تشير القصائد السومرية، مثل أترا حاسس وزيسودرا وهي من قصائد الطوفان، إلى أن البشر قبل الطوفان كان يعيشون سنوات طويلة تتجاوز مئات السنين، ويجعل ثبت الملوك السومري أعمار ملوك ما قبل الطوفان بالآلاف. وفي قصة نوح عليه السلام فإنه بقي يدعو قومه 950 عاما.
– ذكر السومريون في أساطيرهم التنينَ، هذا المخلوق الأسطوري، وجاءت الإشارة إليه في أكثر من نص منها:
1- التنين كور الذي يخطف إيرشيكيغال، ويهزمه أنكي.
2- التنين لابو، الذي يشيع الفساد والرعب في البلاد ويأكل الطيور، وهزمه الإله تيشپاك بمشورة إنليل.
3- التنين بشمو، يشيع الفساد في البلاد ويأكل السمك. ويقضي عليه إله مجهول الاسم بسبب نقص اللوح.
– اهتم سكان وادي الرافدين بموضوع الحياة والموت، وفرقوا بين موت الشيخ وموت الشاب. وسمي موت الشاب بالموت العنيف لأن طاقة الشباب بدلا من تذوق مباهج الحياة ذاقت مرارة الموت. وساد بينهم اعتقاد أن هذا الموت العنيف (موت الشاب “الإيطلو”) يحول شبح الميت (الإيطيمو) إلى شيطان ينذر بفأل سيئ على أهله يستدعي إقامة طقوس خاصة لإراحة هذا الشبح. وكان لهذه الطقوس تعاويذ وأناشيد مخصوصة للذكر والأنثى، وهي تركز على مباهج الحياة وملذاتها لا سيما الجماع:
“لم يتزوج ولم تلد له ذرية،
لم يلمس هن زوجته
ولم يزحْ لباسها عن حضنها”
“لم تلمس قط فرجه،
الفتاة في حضن زوجها
لم تزح عنها لباسها”.
– يرد في أكثر من قصيدة سومرية تهديد إنانا لغيرها من الآلهة إذا لم يستجيبوا لطلبها، كما حدث بطلبها خلق ثور سماوي للانتقام من غلغامش، بأنها ستفتح أبواب العالم السفلي وتخرج الأموات ليأكلوا الأحياء. يمكن الملاحظة هنا أن هذه الفكرة الخيالية تشبه فكرة زومبي أو الموتى الأحياء. كما يُفهم من التهديد بخروج الأموات لأذية الأحياء أن الأموات يمكن أن يعودوا إلى الحياة، وعودتهم هذه بأجساد مادية لا أرواح فقط حتى يتمكنوا من أذية البشر، وأن الأموات بلا إرادة خاصة أو أنهم على عداوة مع الأحياء. يمكن ربط هذا بموت الشاب حين أسموه بالموت العنيف حيث ينذر شبح الميت بفأل سيئ على أهله. وحين دمر آشوربانيبال عيلام استخرج عظام موتاهم لتعود أشباحها بالوبال على أهل عيلام. وقد تكون فكرة الموتى الأحياء مقتبسة، أو مشوهة، من بعث الموتى يوم القيامة. وأميل إلى هذا الاحتمال في أن خروج الأموات لأذية الأحياء مبنيٌّ على بعث الموتى من القبور وفق الصيغة الإسلامية للبعث والحساب (باعتقاد أنها صيغة ثابتة لم تتغير بمرور الزمان).
– كانت إنانا، إلهة الإخصاب، واحدةً من أكثر الكيانات السماوية الخالدة في أساطير سكان وادي الرافدين، وتحوَّل اسمها إلى عشتار في عصور لاحقة، كما امتازت بسلطات كثيرة وامتازت بالعنف وقيادة الجيوش. ولعلَّ هذا الاقتباس يُعطي انطباعا خفيفًا عن هذه الإلهة الحسناء العنيفة المغترَّة بنفسها:
“عندما اقتربت من الإيبيخ
لم يبجلني
ولأنه لم يبجلني
ولم يقبل الأرض تحت قدميّ
ولم يكنس التراب بلحيته من تحت قدمي
سأرفع يدي عن حماية هذي البلاد
وأعلمه كيف يهابني”
– في إحدى القصائد السومرية فإن إنانا إلهة الحب والجمال، وقائدة الجموع المحاربة ذات المجد والسلطان والقوة والجبروت، تُغتصب من بُستاني نزلت تستظل في إحدى أشجار بستانه. ماذا أراد الشاعر أن يقول، إن كل امرأة حتى لو كانت إلهة ستنتهك عفّتها إن غفلت عنها لحظة؟ ربما.
– عرف أدب وادي الرافدين نوعا من الأدب وهو أدب المناظرة أو المنافسة أو المساجلة الكلامية، واسمه a-da-min3 (Ada أي مسابقة، وMin أي اثنين). تأخذ بعض المنافسات السجالية طابعا عدائيا كما في مساجلة السمك والطير، وبما أن المتنافسين لن يسلما بالهزيمة فإن الحَكَمَ بينهما يكون ملكا أو إلها. في مساجلة السمك والطير يشرع السمك في مهاجمة الطير وازدرائه والانتقاص من خلقته، وبعد أن ينتهي يرد الطير كاشفا عن سوء صورة السمك وساخرا من أفعاله. بعد أن ينتهيا يهجم السمك على عش الطائر ويخرّبه وبيوضه، فيلجأان إلى الملك شولغي ليفصل بينهما ويعلن عن الغالب في هذا السجال. يلعب الإفصاح عن الغالب الأفضل وتفسير سبب الاختيار دورا مهما في نصوص المساجلات، فالنص يجري نحو وجهة واحدة هو بيان أفضلية مخلوق على آخر لسبب ما دنيوي أو تعبّدي. يحكم شولغي في صالح الطير لأنه المفضل بتغريده في معابد الآلهة التي تحب صوته الندي. ظهر هذا النوع من الأدب لدى العرب في شعر النقائض، وفي الثقافة الآيسلندية القديمة يُسمى Senna وهو حوار قائم على التفاخر وتبادل السِّباب والإهانات.
– كان للسومريين مزاج في الإشادة بكل ما يستحق الإشادة حتى الأدوات. في أغنية المعزق يشاد بالمعزق ويرفع قدره كثيرا، ومما جاء في مديحه:
المعزق من أجل مالكه
يُخضعُ كل حقلٍ تتمردُ تربته
وكل حقلٍ لا يطيع أمره.
يقطع رؤوس الأحراش
ويخلعها من الأصول
ويكسّر منها الأعواد.
المعزق يُخضع أحراش الخِيرِن.
– كانت مدن وادي الرافدين ودولها في حرب دائمة مع أعدائها، وتعرضَّت أحيانا لاجتياح أعدائها لها، مما أنتج أدبا رثائيا عظيما، ووصلت إلينا خمسُ مراثٍ شهيرة هي مرثاة أور، مرثاة أوروك، مرثاة نفّر، مرثاة أور سومر، مرثاة أريدو.
ترثي مرثاة أور سقوط المدينة على يد العيلاميين، وقبائل الجبليين والسوتيين، في أواخر الألف الثالث قبل الميلاد بتوزيعات مسرحيّة. وهي قصيدة مشجية تفيض حزنا وألما، وحافظت على نغمها الحزين وزفرات شاعرها على الرغم من مرور أكثر من 4000 سنة على تدوينها. ومما جاء فيها:
“رجال بلاد سو والعيلاميون
في عنف تخريبهم لم يبقوا على شيء
بالفأس هدموا المعابد المقدسة
والشعب صعّد الأنين
وإلى الخراب حولوا المدينة
والشعب صعّد الأنين”
– لا يختلف اثنان على أن الكثير من النصوص التي وصلت إلينا من أدب وادي الرافدين القديم هي نتيجة لتدريب النسَّاخ على الكتابة بالخط المسماريّ على الألواح الطينية في المدارس التي انتشرت في مدن وادي الرافدين، وإنْ لم تكن هذه المدارس لعامة الناس بل لطبقة خاصة، لكن بفضل تعليم اللغة السومريّة والخط المسماري خلدت الكثير من النصوص العظيمة. ونتج عن شيوع تعليم اللغة السومرية والخط المسماري الكثير من القصائد المعنية بالتعليم والتلاميذ وأحوالهما. تقول إحدى القصائد السومرية على لسان تلميذ مخاطبا أمه أو خادمته:
“عطشان أعطيني ما أشربه
جائع أعطيني ما آكله
اغسلي رجلي، أعدي فراشي
أريد أن أنام.
أيقظيني باكرا في الصباح
يجب ألا أصل متأخرا إلى المدرسة
وإلا فالمعلم الكبير سوف يعاقبني”.
– إنَّ الأمثال جزءٌ من المتن الثقافي لأي أمة بغض النظر عن الدرجة التي بلغتها في العلوم والمعارف، ومن أمثال سكان وادي الرافدين:
“1- قضيب الزاني مثل فرج الزانية.
2- إذا حكمت على شيء فلا تقرن ذلك باستهجانك الشخصي.
3- قد تدوم الصداقة يوما والعبودية دهرا.
4- من تحبه عليك أن تتحمل ثقلَ نِيره.
5- ساكن البلد الغريب مثل العبد.
6- فن الكتابة أبو العلماء وأم الخطباء”.
– يطرح صديق مشكك بالآلهة في قصيدة حوارية بابلية، قبل 4000 سنة، على صديقه المؤمن شكوكه وشبهاته عن مقادير الآلهة والحياة، فيجيبه المؤمن عن أسئلته ويبدد تناقضاته. وهنا إحدى ردود المؤمن التي تبيّن عقلية البشر الواحدة في الشك والإيمان: “لقد رغبت في داخلك أن تتوقف عن ممارسة الطقوس الآلهية”، أي إنك مع كل ذكائك وعقلك فإن ما تطرحه ليس اعتراضا في جوهره على سوء حظك وتعثر حالك، إنما أنت راغب بالتوقف عن العبادة، ورغبتك بالكفر والتخفف من العبادة هي التي تقودك إلى هذه الشكوك والشبهات عن علم الإله ومقدرته وتنظيمه الكون.
– نقرأ في ملحمة كلكامش أن أول وسيلة للإطاحة بأنكيدو وإبعاده عن الغابة والرعي مع الحيوانات هي أن يرسل إليه امرأة بغي ليقع بحبها، فإذا ما رأته الحيوانات نفرت منه وعرفت ببشريته. وهنا متن الأبيات من ملحمة كلكامش والإيقاع بأنكيدو بفضلِ :البغي، فبعد أن يراه الصياد يذهب إلى أبيه ليخبره فيجيبه أبوه، (ترجمة طه باقر)
يا بني: يعيش في أوروك كلكامش
الذي لا مثيل له في البأس والقوة
وهو في شدة بأسه مثل عزم آنو
فاذهب إلى أوروك توجه إليها
وانبِئ كلكامش عن بأس هذا الرجل
وليعطك بغيا تصحبها معك
ودعها تغلبه وتروضه
وحينما يأتي ليسقي الحيوان من مورد الماء
دعها تخلع ثيابها وتكشف عن مفاتن جسمها
فإذا ما رآها فإنه سينجذب إليها
وعندئذ ستنكره حيواناته التي شبت معه في البرية
وبعد أن ذهب الصياد إلى كلكامش وقد أمره أن يذهب مع بغي إلى هذا الوحش (أنكيدو)، رجع مع البغي إلى الوحش وحينما رأياه بعد انتظار:
(فأسر إليها الصياد): هذا هو يا بغي فاكشفي عن نهديك
اكشفي عن عورتك لكي يتمتع بمفاتن جسمك
لا تحجمي، بل راوديه وابعثي فيه الهيام
فإنه متى رآك وقع في حبائلك
انضي عنك ثيابك لنيجذب إليك
علمي الوحش الغر فن (وظيفة) المرأة
ستنكره حيواناته التي ربيت معه في البرية
إذا انعطف إليك وتعلق بك
وبعدها وقع أنكيدو في حبائل البغي ونجحت خطة كلكامش:
وعملت الوحش الغر فن المرأة، فانجذب إليها وتعلق بها
ولبث أنكيدو يتصل بالبغي ستة أيام وسبع ليال
وبعد أن قضى وطره منها
وجه وجهه إلى ألفه من حيوان البر
فما أن رأت الظباء أنكيدو حتى ولت عنه هاربة
فما كان من الحيوانات إلا أن تهرب منه بعد أن رأت بشريته وانجذابه إلى البغي البشرية، واستمع إلى البغي وأنصت إليها وذهب معها إلى المدينة (أوروك).
– في قصيدة أسطورة إيتانا السومرية، يصعد هذا الملك إلى السماء على ظهر العُقاب، وكلما ارتفع العقاب في السماء طلب من إيتانا أن ينظر إلى الأسفل، ويخبره كيف صار البحر مثل جدول واليابسة مثل تلة. الطريف أيضا أن إيتانا كان يرتعب حين ينظر إلى الأسفل ويفقد توازنه هاويا لينقذه العقاب.
نلاحظ في هذا الجزء من الأسطورة أمورا عدة:
1- إن فكرة الصعود أو الارتقاء إلى السماء ضاربة الجذر في التاريخ الإنسانيّ، وظهرت لاحقا عند مختلف الأمم بتمثلات متباينة أسطورية وأدبية وإخبارية دينية.
2- فكرة الطائر العملاق الذي يسعه حمل الإنسان على ظهره ويرتقي به في معارج السماء، وهذا ما نرى مثيلاته أيضا لاحقا في الأدب والأسطورة كما في قصة السندباد البحري.
3- رغبة الإنسان بالطيران ورؤية العالم من الأعلى، وهي ممزوجة بالرغبة الانتقال السريع من مكان إلى آخر، إذ يرد في أكثر من نص آخر المقابلة ما بين الطائر في السماء والإنسان أو شيء في الأرض، صنوان في المكانة والقدرة والسرعة.
4- العقل الرياضي عند مبدع هذه الأسطورة، بناءً على التجربة النظرية، في كونه كلما ارتفع عن الأرض، وزادت زاوية الرؤية، صغرت الأرض ومعالمها. لكن هذه التجربة النظرية البشرية المحدودة هي فطرية عمليّة لدى الطائر نظرا لتطوافه في السماء وبعده عن الأرض أغلب الوقت، فجاء طلب العقاب من إيتانا النظر إلى الأسفل طلب خبير مجرّب عارف أن الإنسان لا يتمتع بما يؤهله لرؤية الأرض من السماء، وكيف أنها تصغر بابتعاده عنها إلى الأعلى.
5- إن خوف إيتانا وارتعابه نتيجة لرهاب المرتفعات التي ما غفل عنها مبدع الأسطورة، فخوفه من السقوط يثير الفزع في نفسه ويفقده توازنه هاويا إلى الأسفل.
– يقول صمويل نوح كريمر “تمثل كلمة كور kur السومريّة واحدةً من أعقد مجاميع المفاهيم، ويصعبُ تعريفها وتأويلها بنحوٍ مضبوط. فواحد من معانيها الابتدائية هو “الجبل”، ويثبت ذلك حقيقة أنَّ العلامة المستخدمة للتعبير عن كور في أصلها “جبل” بعلامته الصوريّة [تطوَّرت العلامات المسمارية عن علامات صوريّة]. ومن معنى “جبل” تطوَّر لفظ “بلاد أجنبية” لأن البلاد الجبليّة المتخامة لسومر كانت ذات خطرٍ دائمٍ على شعب سومر. كما صارت كور تعني “أرض [أو بلد]” في العموم، ووُصفت سومر نفسها بأنها كور-غال kur-gal أي “الأرض الكبيرة”. إضافة إلى ذلك فإنَّ كلمة كور السومريّة تمثل مفهومًا كونيًّا، ويتطابقَ هذا تقريبًا مع امتدادٍ سومري مُحدَّد يُدعى كي-غال ki-gal، ويعني “السُّفل العظيم”، لذا أخذت لفظة كور معنى كي-غال أي “العالم السفلي”. ففي قصائد مثل “هبوط إنانا إلى العالم السفلي” و”غلغامش وأنكيدو والعالم السفلي” استخدمت كور بانتظامٍ للإشارة إلى العالم السفلي. واعتُقدَ بأن كور في المفهوم الكونيّ هي المساحة الفارغة ما بين غلاف الأرض والبحر البدئيّ. لذا ليس من المستعسر أن يُسمَّى المخلوق الوحشيّ الذي عاش في قعر “السفل العظيم”، فوق المياه البديئة مباشرةً، باسم كور أيضًا، وإنْ كان الأمر كذلك، فإنَّ الوحش كور يتشاكل إلى حدٍ كبير مع [الإلهة] تيامت البابليّة. وتتضمَّن كلمة كور في “أساطير كور” الثلاث جانبًا أو أكثر من معانيها الكونيّة”.