قصة أحيقار الحكيم
عاش أحيقار الحكيم في حقبة الإمبراطورية الآشورية، السلالة السرجونية (721-612 ق.م)، في عهدي سنحاريب وابنه أسرحدون، وقيل إنَّه كان مستشارًا لسنحاريب (704-681 ق.م)، وبعد وفاته صار مستشار ابنه أسرحدون (680-669 ق.م). ذاع صيت أحيقار في بلاد آشور رجلًا محنَّكًا، واسعَ الحكمة بليغَ المعرفة، مُضرَّسًا بالخبرة والعلم، وجرت على لسانه الحكم والأمثال وتناقلتها من بعده الأجيال، وربطته بعض الدراسات بلقمان الحكيم، وأشارت أخرى إلى تأثيره في حكايات إيسوب اليوناني، أو الفيلسوف بيدبا الهندي وقصته في كليلة ودمنة، أو حِكَمِ أنبياء العهد القديم، وبدا لي أنَّ الأقرب له هو الحكيم الفارسي بزرجمهر وسأعود لهذه النقطة في آخر المقال.
إنَّ أقدم نسخة من قصة أحيقار كتبت بالآرامية، وتعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وعثر على أجزاء منها في صعيد مصر، جزيرة الفنتين، وجرى منذ حينها تداولها في منطقة المشرق، أما النسخة الكاملة الحالية فمنقولة عن نسخة سريانيّة، دوَّنها جاك إيديسَّا (ت: 708م)، ناقلًا إياها عن نسخة للقديس مار أفرام القديم (306-378م) كما يذكر في بداية نسخته.
تُروى قصة أحيقار على لسان أحيقار نفسه، وتجري بعض المقاطع في القصة بضمير الغائب. يبدأ أحيقار بذكر خبر تقدُّمه في العمرِ وعدم إنجابه ابنًا يرث حكمته ومنصبه، وتضرَّعه إلى الرب في أن يهبه ولدًا لكن ما أجيبت دعوته. عمدَ بعدها إلى ابن أخته نادان ليضمه تحت جناحه ويكتنفه في رعايته ويمحضه من معرفته وحكمته، لكن يخيب مسعاه إذ يتآمر عليه ابن أخته، ويزوِّر رسائل على لسانه، فيها خيانته للملكِ أسرحدون، ويجلب على أحيقار نقمة الملكِ الذي يأمر سيافه نابوسيماك بقتله. كان أحيقار صاحب يدٍ على نابوسيماك وغامرًا إياه بفضله، فطلبَ منه ألا يقتله ويختبئ بمكانٍ تحت الأرض. نجا أحيقار من الموت حتى جاءت الساعة التي خرجَ فيها أحيقار من مخبأه، بعد أن أرسل فرعون مصرَ رسولا إلى أسرحدون يطلب فيها رجلًا ينفِّذ كلَّ طلباته ليدفع لآشور جزيةً مدة ثلاث سنوات، وإنْ لم ينفِّذ كلَّ ما يطلبه الفرعون فعلى ملك آشور دفع الجزية لمصرَ مدةَ ثلاث سنوات. لم يجرؤ نادان، الذي حلَّ محلَّ خاله مستشارًا للملك، على النهوض لهذه المهمة، وتعذَّر بحججٍ لكي لا يكون هو الرجل المرسول. تدخَّل نابوسيماك هاهنا واعترف للملكِ بعدم قتله لأحيقار، ففرح الملكُ بذلك وطلبَ حضور أحيقار بين يديه. عادت حينئذ لأحيقار مكانته، وانطلقَ إلى فرعون مصرَ آخذًا معه عُقابين فرخين مع غلامين من خدمه. حضرَ أحيقار الحكيم بين يدي الفرعون يومًا تلوى آخر مجيبًا عن كل أسئلة الفرعون، ومنفِّذًا كلَّ طلباته حتى تلك التعجيزية منها بفضل دهائه وحكمه. وكان أبرز أمرٍ طلب الفرعون من أحيقار تنفيذه أن يبني له قصرًا بين السماء والأرض يبلغ ارتفاعه ألف ذراعٍ. أطلقَ أحيقار العقابين رابطًا حبلًا في رجل كل منهما، وامتطا الصبيان العقابين، كان قد علَّمها قول “آتونا بالطوب والطين. لقد وصل المعماريون، زوِّدوا معماري الملك بما يعينهم على العمل…”، ونجحت حيلة أحيقار في إلجام الملك. وبعد أن أعيا بحكمته الفرعون اعترف بأنَّه نفَّذ كلَّ ما طلبَ والتزم بدفع الجزية لملك آشور. ينتمي هذا الجزء من الصراع بين آشور ومصر إلى أدب التنافس والصراع بين المدن، وكان قد شاع في دول مدن سومر مثل ملحمة إينمركار و إين- سوهغير-انا، وملحمة إينمركار وحاكم إقليم أراتا. عاد أحيقار مظفَّرًا بالنصر والجزية إلى ملكه الذي أحسن استقباله، وإكرامه، وسلَّمه ابن أخته. تنتهي القصة بعقاب أحيقار لنادان الذي مات تحت سياط خاله بسُمِّ ذاته والكراهية المعتلجة في صدره.
تبرزُ سمة أسلوبية في القصة قوامها الحكمة إذ تُفتحُ أحداثها بالحكمة وتنتهي بالحكمة، وما بين الحكمتين كانت نوازل الدهر على كاهلي أحيقار. حين أخذَ أحيقار ابن أخته تحت جناحه فقد سقاه من حكمته وتلا عليه أقواله علَّ نادان ينتفع منها ويحفظها ويعمل بها، وفي آخر القصة حين جلدَ أحيقار بالعصا كان يتلو عليه حكمًا وأمثالًا أيضًا لكنها معارضة لتلكَ الأولى. ما انتفع نادان بحكمة خاله حين جاءته صافية من نفسٍ محبَّة، وما قوي على سماعها إذ مات، وهي تنزل على مسامعه كما تُلهب ضربات العصا ظهره.
إنْ كانت حكمة أحيقار أنقذته من الموت فإن مثيله الفارسيّ بزرجمهر لم ينفذْ بجلده من الهلاك. يتبيّن لي أنَّ قصة أحيقار وحياته وحكمته نسخةٌ أوليّة عن الحكيم الفارسي بزرجمهر، وهو الأقرب بين الحكماء إلى أحيقار، لا سيما وأنَّ بزرجمهر كان حكيمًا بليغًا ومستشارًا لقوباذ الأول، وابنه كسرى الأول أنوشروان، وحفيده هرمز الرابع، بيد أنَّ ملحمة الشاهنامه تروي مقلته على يد أنوشروان بسبب وشاية البلاط، وكان مقتله خسارة كبيرة. وهو في هذا يشبه أحيقار حين تآمر عليه ابن أخته نادان لكنَّه نجا بفضل حكمته وإقناعه السيَّاف نابوسيماك بعدم قتله واختبائه بعيدًا عن أنظار أسرحدون.
كما يتَّضح التقابل ما بين قصتي الحكيمين حين يبعثُ راي الهند إلى الملك أنوشروان قافلة في ألف بعير ومعهم الشطرنج فإن عرفوا كيف يُلعب التزم لهم بالخراج، وإن لم يعرفوا دفعَ ملك الفرس الخراج لراي الهند. يتقدّم لحل معضلة الشطرنج، وتسمية الأحجار وكشف كيفية اللعب، بُزُرجِمهر بعد أن سهر ليله لحلِّها. وطلب أنوشروان من بزرجمهر اختراع تحدٍ يماثل الشطرنج لراي الهند، فصنع بزرجمهر النرد، الذي فشل الهنود في كشف سره واللعب به، والتزموا بالخراج لفارس.
أما في قصة أحيقار فإن فرعون مصر حينما علمَ بوفاة الحكيم أحيقار بعثَ إلى الملكِ أسرحدون أن يرسل إليه رجلًا ينفِّذ كلَّ ما يريده الفرعون، وإن عجزَ عن ذلك يدفع ملك آشور الجزية مدة ثلاث سنوات لفرعون مصر، وإنْ نفَّذ رجل الملك أسرحدون كل ما يطلبه الفرعون التزمَ بدفع الجزية لآشور مدة ثلاث سنوات. ليُسقطَ الملكُ في يديه فما أحيقار في هذه الحياة لينهض لهذه المهمة وينقذ آشور بحكمته، يكشف حينها بانوسيماك أنَّ أحيقار ما زال حيًا، ثم ينطلق أحيقار إلى فرعون مصر ويجيب عن كلِّ أسئلته وتعيا بالفرعون الحيلة، ليلتزم بدفع الجزية لملك آشور.
*
الترجمة العربية:
ترجمة قاسم الشواف – الجزء الثالث من ديوان الأساطير. وترجمات أخرى من ضمنها ترجمة قديمة ليست كاملة.