مقالات

غوته؛ آخر رجالات الأدب والعلم في أوروبا

Great Thinkers

ترجمة: مؤمن الوزان

أشكلَ على الناس دائمًا نُطقُ اسمه، حتى إنَّ رئيس الوزراء البريطاني، بنيامين ديسرالي، في القرن التاسع عشر صار عُرضة للسخرية حين أخطأ بنطقه. فإذا لم تكن تتحدث الألمانيّة فليس جليٌ لك أن تعرف نطقه سلفًا. وللبداية بتخمين صائب ابدأ بنطقِ [غُوْ] وانهِه بـ [تَهْ]. 

يوهان فلوفغانغ فون غوته واحدٌ من ألمع أبطال الثقافة الأوروبيّة، وكثيرًا ما نُظرَ إليه في مصافِّ شيكسبير ودانتي وهوميروس. احترفَ غوته الكتابة في حقول متنوعة، فنظمَ الشعرَ الغزير، وحقَّقَ نجاحًا باهرًا في الرواية، وله مساهمات علميّة في علوم النفس، والأرض، والنبات، والبصريات. كما كان دبلوماسيا، وقُدوةً في الهِندام، وموظفًا مدنيًّا أقدم، ومُنتجَ إباحيات، ورئيسَ جامعة، وفنانًا، ورحالةً مغامرًا، ومُخرًجا مسرحيًا، ومدير شركة، وصاحبَ شركة تعدين. أُعجبَ مريدو غوته، في حياته، بأعماله الأدبيّة لكنَّ ما تشوَّفتْ إليه الأعين وأكبرته، أكثر من كل كتبه، هو أسلوب حياته الذي عاشه، فكان مثالًا يُحتذى به. وذاعَ صيتُ حياته أكثر من كتبه، ولعل في هذا تفسيرُ لمَ كُتبه غير معروفة نسبيًا مقابلةً بمارسيل بروست وجين أوستن. 

وُلدَ غوته في مدينة فرانكفورت سنة 1749 لعائلة تعيش في بحبوحة وحديثةُ عهدٍ بثروة قوامها الادِّخار. أولى والداه عنايةً كبيرةً في تعليمه وتأديبه، فتلقَّى أسس تعليمه في البيت، ونظمَ الشعرَ لأصحابه، ونالَ دروسًا فنيّة، وتعلَّم الإيطالية، وارتاد المسرح كثيرًا مكوَّنًا صداقات مع الفنَّانات. وفي سنِّ الثانية عشرة تمنطق بالسيف لأنه من عليّة القوم. درسَ غوته في جامعة لايبزغ ونال بعدها درجة الماجستير في القانون من جامعة ستراسبورغ. وغالبًا ما تغيَّب عن المحاضرات قاصدًا مِنصَّة عاليةٍ بإطلالةٍ أخَّاذة بالقرب من برجٍ كاتدرائيّ. كان غوته يخاف المرتفعات لكنَّه أخذَ المسألة تحديًا لرغبته بقهرِ المعيقات، وأحبَّ الإطلالة. 

وهيَّا بنا لأخذ دروسٍ تنفعنا في الحياة من غوته: 

1- من حبِّ الرومانسيّة إلى الكلاسيكيّة

حظي غوته بأول وظيفة مرموقة بعد تخرجه في كلية الحقوق، وعملَ مساعدًا في مجلس القضاء الوطني للبتِّ في نزاعات الأقاليم الألمانيّة الصغيرة كثيرة العدد، وكانت في حينها ما تزال جزءًا من الإمبراطورية الرومانيّة المقدَّسة. في أثناء عمله هويَ غوته خطيبةَ أحدِ زملائه، واقترفَ حماقة مهولة وكتبَ روايةً عن علاقة غراميّة. عنونَ الرواية بـ “آلام فرتر”، وكانت الشخصية المحوريّة في الرواية فرتر، وهو تصويرٌ بتنكير رقيقٍ عن نفسه. تروي القصة كيف هوي فرتر/ غوته الشابة شارلوت، وبيَّنت بالتفصيل أدقَ مراحل الغرام في درب الافتتان: حين رقصا معا، وساعة تلامس قدميهما بالصدفة أسفل الطاولة، وحين ابتسما، ويومَ تراسلا مُتبادلين رسائلَ تودديّة صغيرة. وبدا أن تكون عاشقًا هي التجربة الأهمُّ في الحياة. يسأل فرتر نفسه “ما الحياة بلا حبٍّ لاهب؟ فانوس سحريّ بلا شمعة”. 

ذاعَ صيتُ هذه الرواية بجاذبيّتها الصارخة في أرجاء أوروبا وكانت ضمن أعلى الكتب مبيعًا في السنوات الأربع والعشرين اللاحقة، وتفاخرَ نابليون بأنَّه قرأها سبعَ مرات. انتهت الرواية نهاية تعيسة، فما أحبَّتْ شارلوت فرتر ورفضته في آخر المطاف، فانتحرَ في يأسه. أبانت الخاتمة المأساويّة عن تفتّق بصيرة غوته في إدراك محدودية الرؤية الرومانسيّة للحياة. فالحبُّ الرومانسيّ جذَّاب جدًا لكنه يؤدي إلى مشكلاتٍ عويصة أيضًا. 

إنَّ أسَّ المشكلة -بحسب غوته- في الحبِّ الرومانسيّ يكمن في أمله بـ’تجميد‘ اللحظة الجميلة. خرجَ فرتر بعد تناول العشاء في أمسّية صيفيّة للمشي في الغابة مع محبوبته، وأراد أن يبقى على هذا الحال دائما، لذا فينتابه شعور بأنَّ عليهما أن يتزوجا، ويملكا منزلًا، ويُنجبا أطفالا. في الحقيقة، لن يشبه الزواج أبدًا ليلة حَزيرانيّة طيّبة الأرجاء، سيكون فيه استنزافٌ للطاقة، ودفعٌ للفواتير، ومشاجرات، وشعور بالانحباس. وبالمقابلة مع الآمال الرومانسيّة المتطرفة فإن الحب الحقيقيّ يكون خيبة أمل رهيبة بنحوٍ لا مفرَّ منه. جراء هذا ابتعد غوته تدريجيًا عن الرومانسيّة نحو أيديولوجية الحب وصفها بالكلاسيكيّة المُحدَّدَةِ بدرجة من التشاؤم، أي قبولٌ بالمتاعب التي تُصيبُ الزوجين في أثناء حياتهما، والحاجة للتخليّ عن بعض آمال أيام الصبا من أجل الهدوء وتمام الإدارة. انتقدَ غوته الأيديولوجية الرومانسيّة ليس لأنه قاسي القلب أو مفتقرٌ للخيال بل لفَهمه العميق والحميميّ لجاذبيَّتها وأخطارها. كما أظهرت لنا مسيرة غوته رحلة الابتعاد عن الرومانسيّة الابتدائيّة لفرتر نحو النظرة الكلاسكيّة الناضجة للحياة. 

طوَّرت مسرحيته اللاحقة “إيفجينيا Iphigenia” بالتمام البديل الكلاسيكيّ للرومانسيّة. كانت إيفجينيا أميرة يونانيّة في حقبة حرب طروادة، ابنة ملك الممالكِ اليونانيّة أجامِمنون. قاستِ الأميرة وعائلتها سلسلةً رهيبةً من الجرائم والعداءات، وإفراطًا رهيبًا من الصدمات من أن تُعانيه عائلة عاديّة. استمرَّت دورة الحبّ العنيف، على نحوٍ مثاليّ، بالتكرار من جيل إلى آخر. تخيَّل غوته إيفجينيا شخصًا جلبَ في الختام الغفران والسلام. وترى إيفجينيا دورها في الحياة بأنه “تخفيف وطأة الرجال”، فشجَّعت الناس دائما على أن يسكتوا عنهم غضبهم ويكونوا رحماء. قُدِّرَ لإيفجينيا أن تُحبَّ وما عُلِّمَ حبُّها بعاطفة مشبوبة بل بالفَهم والتعاطف والرغبة بالتناغم: 

تذكَّروا أنَّا جميعا سنموت 

وعلينا أن نصيَّر أقسى القلب إلى الرقَّة، 

ألسنا مُطالبين أن نُبديَ للآخرين لطيفَ سلوكنا 

الذي نعرفه عن أنفسنا؟     

لم يُدركَ جمهور غوته الأول، الذي ترعرع على الرومانسيّة، فحوى رسالته سريعًا. أأدارَ غوته ظهره للحب الرومانسيّ؟ أين كلُّ الحبِّ اللهَّاب؟ ووصفوا قصة إيفجينيا بأنها مثل “مشاهدة ضباب رماديّ”. كان غوته حينها في منتصفَ عمره غيرَ هيَّابٍ فأعلنها صريحةً، بعد أن اكتفى من فرتر في الإفصاح عن رؤاه نيابةً عنه: “إنَّ الرومانسيّة مرضٌ والكلاسكية هي الصحَّة”. لكنه واجه مشكلةً ثقافيّة أساسيّة، وهي أنَّ الرومانسيّة ذات مشاعر لافتة أكثر. ووضعَ غوته إصبعه على مركزٍ من مُشكلات الثقافة بسؤالِ كيف نجعل ما فيه فائدة لنا ناجحًا تماما في لفت الانتباه بمادة حماسيّة مُتقِّدة؟   

2- كرامة الإدارة 

اتَّخذ فرتر وظيفة موظف مدنيّ في نيسان/ أبريل من سنة 1775 إثر النجاح الكبير لرواية فرتر. عيَّنه دوق فايمر، كارل أوغست، مستشاره الرئيس وكبير إدارييه لمساعدته في إدارة بلده. استمرَّ غوته في وظيفته الشطرَ الأكبرَ من باقي حياته، وتمثَّلت مهامُه الأساسية في كونه وزير الطرق، وما لهذا من دورٍ حيويّ في تحسين التجارة. وكان مشرفًا على عملية تعدين الفضة التابعة للدولة. وانطلقَ في مأموريات دبلوماسيّة واتَّخذَ قرارت مفصليّة في التعليم والتخطيط المدنيّ. وسلخَ شوطًا طويلا من عمره في لقاءات وزاريّة مرتين أسبوعيًّا، تضمَّنت كتابة المخاطبات وقراءتها. تبدو هذه الانتقالة غريبةً لشخصية إبداعيّة ناجحة، كما لو أنَّ فائزًا بجائزة البوكر أصبحَ موظفًا في وزارة البيئة، في قسم الأطعمة والشؤون الريفيّة. بيد أنَّ كلَّ ما في الأمر افتراضنا بتعارض الأدب والفن مع الحماس لإدارة الحكومة. لم يرَ غوته المسألة بهذا المنظار، وقضى زمنا طويلا من حياته في تدوين التقارير وحضور الاجتماعات، والموافقة والرفض في شراء تجهيزات المجاري خاصة، وأفضل المواد في تعبيد الطرق والشوارع، وكيفية التعامل مع الجارة المستبدة بروسيا. شعرَ غوته بحاجته إلى المسؤولية والسلطة والخبرة ليكون أكثر نضوجًا وحكمة، وشاعرًا أفضلَ وفيلسوفًا. لكن هذه التجربة زوَّدته بأمورٍ أخرى أيضًا إذ مكَّنته من تطبيق أفكاره في أرض الواقع. شغلَ غوته في وقتٍ لاحق منصب وزير الفنون، واستطاعَ أن يؤسس المسرح الأفضل في ألمانيا، وأُديِّت على خشبته العروض الأولى للكثير من مسرحياته عصره. وبتعبيرٍ عصريّ فالأمر مثل تأسيس شركة إنتاج أفلام كبرى. إن التقاء السلطة والمسؤولية والميزانيَّة والمال بآليات إدارة العالم مكَّن غوته من اتِّباع مسارٍ تطوريّ خَطِر. انتقلَ غوته من كونه مفكرًا خلَّاقًا وحيدًا يعمل بنفسه على وجه الخصوص إلى امرئ قادرٍ على تنفيذ أفكاره. فبدلا من الكتابة عن أهمية امتلاك مسرحٍ وطنيّ فقد استطاعَ تأسيس مسرحٍ، وبدلا من القول بضرورة وجود مساحات خضراء في المدن فقد استطاع تسريع الآلة الحكوميّة لتعملَ على إنشاء متنزه مدنيّ نموذجيّ.  

3- السفر علاجًا 

انتاب غوته في أيلول/ سبتمبر، بعد أن سلخَ عشر سنوات كاملة في الخدمة المدنيّة لفايمر، وقبيل بلوغه الأربعين من العمر، هاجسٌ قويٌّ بأنه كان يُضيع حياته سدًى. أرهقَ غوته بردُ الشتاء، والاجتماعات غير المنتهية، والعمل المفرط، فألفى نفسه بلا وقتٍ للكتابة. وقصدَ إيطاليا، فحطَّ رحاله أوَّلَ الرحلة في فيسنزا وفينيسا، حيث أُعجبَ خصوصًا بتصاميم أبنية أندريه بالاديو، ثم توجَّه إلى روما التي كانت مستقرَّه الأساسي. بقي غوته سنتين تقريبًا في إيطاليا. لغوته مفهومه الكلاسيكي عن غاية السفر، فقصدُ الرحلة الخارجيّة تدعيم الرحلة الداخليّة نحو النضوج. وشعرَ أنَّ بين جوانحه جزءًا لا يطاله بالاكتشاف إلا في إيطاليا “أتوقُ إلى العنب والتين“. لكنه، وعلى غرار الكثير من زوَّار روما، شعرَ بالإحباط حين وصل إليها. وصفَ غوته في مجموعته الشعرية المكتوبة عن هذه التجربة، والمعروفة بالمراثي الرومانيّة، حجمَ المدينة العظيمة المملوءة بالأطلال الميتة التي كانت ذات يومٍ ذائعة الصيت بيد أنها ما عنت له شيئًا حقًا، وتضرَّع إليها قائلا “حدثيني أيتها الأحجار!”، وذا الشعور الذي انتاب غيره من بعده. كما أدركَ غوته هناك أنَّه ليس بحاجة إلى دليلٍ سياحي مُفصَّل بل امرأةٌ يُقيم معها علاقة، وتشاركه حبَّ روما وتُبيّن له المعنى الكامن في الأمكنة. يصف في إحدى قصائده لقاءه بالمرأة التي أسماها فاوستينا، وقضيا أوقاتَ الظهيرة مضطجعين بكسلٍ في الفراش، لكنها لم تكن بمفكرةٍ كبيرة، ثرثرت له عن حياتها، وأخبرته عن المباني التي تمرُّ بها في طريقها إلى السوق مثل البانثيون، وهي كنيسة باركويّة صمَّمها بيرنيني، وما كانت تُدركُ بصيت هذه المباني التي صادفَ أن تكون في طريقها. أبصرَ غوته بجوار فاوستينا في حجرة النوم نفسه تلج روح الثقافة الكلاسيكيّة حيث البساطة، والعلاقة المريحة بين الجنس والجمال، وفكرة أنَّ الشعراء الكلاسيكيّين هم أناسٌ مثله. إنَّ غاية السفر عند غوته ليست في الراحة أو الاستراحة من العمل اليومي المتكرر، بل له هدف أكبر في ذهنه، إذ مقصدُ السفر في زيارة مكان نستطيع أن نجده فيه العنصر الناقص في نضوجنا. لم يقطن غوته في إيطاليا، وبعد مرور سنتين نالَ الاستشفاء الكافي ليعود أدراجه إلى فايمر، ويستأنفَ عمله السياسيّ والإبداعيّ. 

4– عيش الحياة بتمامها: البطل الفاوستيّ 

لفتَ غوته الأبصارَ إليه بكثرة ما فعله، وسعةِ آفاقه، وأشملِ اهتماماته. واستكشفَ هذا على وجه الخصوص في أشهرِ أعماله مسرحية فاوست التي عمل عليها طوال حياته. تعودُ الخطوط الأولى من العمل إلى أيام صباه، وما قرر الانتهاء منه إلا في بواكير الثمانينات من عمره. رأت المسرحية النور في جزأين، وأديَّا الجزآن منها في ثلاث عشرة ساعة، وهو زمن طويل فلم يُشاهدها كاملةً حتى غوته نفسه، وما فعله سوى القلّة منذ حينها. 

كان فاوست أستاذًا قروسطيًا وعلَّامة، ومثقفًا جدًا، لكنه لم يحقق الكثير في حياته، فقد فشل في الحب، ولم يجنِ المال، ولا سلطة له. إنَّ معرفته جدباء. وتبدَّت حياته بلا هدف حتى إنَّه رجا الموت. ثم زاره شيطان يُدعى مِفِستوفيليس، وعرضَ عليه طاقةً لا تنفد، وهيئة حَسَنة، والقدرة على فعل كلِّ ما يشاء. وطُرحَ السؤال ماذا يريدُ فاوست أن يفعل؟ تمثَّل الخطرُ الأول لفاوست في بقائه أستاذًا يُقاومُ التأثيرَ الدنيويَّ. وبمعونة من الشيطان أصبحَ قارئًا نهمًا مطلقًا، وطالتْ يداه كلَّ المخطوطات القديمة والنادرة، لكنه عييَ من الكلمات وتاقَ إلى الفعل. أما الخطرُ الثاني فتمثَّل في أنه سيستعمل قواه الجديدة في تعظيم كلَّ شهواته الحسيّة، وفي أن يُصبحَ هديونيًا صرفًا (شهوانيّ). قطعَ فاوست شوطًا في هذا السبيل، فقصدَ حانةً وثملَ مع الجميع، ثم بلغَ نشوةَ جماعٍ مهولة، لكنه أدركَ بأنَّ ما سعى إليه حقًا هو الجمال والحبُّ، فأبعده هذا الإدراك عن درب الخمر والجِماع. وكان الخطرُ الثالثُ في أن فاوست سيضحى واثقًا من نفسه لكن قائدًا سياسيًّا ضحلًا. في الجزء الثاني من المسرحية طاردَ فاوست هدفًا أجلَّ، وفي الختام نظَّمَ تطويرَ بلدٍ جديد، مجاورًا للملكة الهولنديّة، التي كانت حينئذ أعظمَ مجتمعٍ متنورٍ ناجحٍ في العالم. 

إنَّ مسرحية فاوست قصة أخلاقيّة تُخاطبنا جميعًا، وأبانت لنا أشراك الحياة وكيف نتفاداها.  نالَ فاوست حظًا من العلم، لكنه قاومَ كونه أستاذًا، أحبَّ الجِماعَ لكن لم يُطلقَ العِنان لنفسه لينزلقَ إلى التهتُّك. وأحبَّ السلطة لكنه لم يضعها في جنون العظمة بل في خدمة أهداف نبيلة. ما شابه سبيلُ فاوست سبيلَ غوته، ففاوست يُرشدنا في المقام الأول إلى نظرية كيف نعيش الحياة بالتمام. فهو منغمسٌ جدًا في الأفكار، ويعملُ مرارًا وتكرارًا، ويُقدمُ مثالًا في الإدارة ويعلِّمنا كيف نُخضعُ السلطة، وفي اللحظة التي استطاع أخذ زمام السيطرة على نفسه انطلقَ في الحياة. تقول الفكرة الفاوستيّة إنَّ في النظامِ التطورَ التامَّ، ويجبُ أن نداهنَ كلَّ أمرٍ يكمنُ فيه خطرٌ شديدٌ على أن نبقى يقظين للغاية الأسمى. 

5- العلوم للفنَّانين 

كان غوته آخر رجالات أوروبا المعروفين بأنهم حققوا شيئًا معتبرًا، كتابة روايات عظيمة ومسرحيات في حالة غوته، مع الاشتغال البارز في العلم. توزَّعت اهتماماته ما بين علم الأرض، الأرصاد الجويّة، وعلم الوظائف، والكيمياء، لكن أعظم أعماله كانت في علم النبات، وأصدرَ في سنة 1790 دراسته المعنونة بـ تحولات النباتات، وفي البصريات والألوان، وله بحث عن نظرية الألوان المنشور سنة 1810. 

اندرسَ في الحضارة الأوروبية هذا الجمع ما بين التميُّز في الفنون والعلوم. يُرشدنا غوته إلى سبب هذا، فهو بطلٌ في عين الناس ذوي الذائقة الأدبية والفنيّة الذي يُفتنون من على بعدٍ بموضوع مادة العلمِ الواسع لكنهم لا يحبذون الانغماس في تفاصيله. أحبَّ غوته العلم الذي يستطيع ممارسته بيده بتفحُّصِ العالم المحيطِ به. وأتمَّ الكثير من بحثه عن البصريات باستخدام الشمعات والأوراق المونة داخلَ مكتبه. أعجبَ غوته التمرينُ الذي يتركه يُسائل نفسه ما هذا الذي أراه حقًا؟ وهذا ما قد يغلب نزعتنا في رؤية ما نرغبُ به فقط، وهو مفيدٌ أيضًا لتوجيه أنظارنا إلى الخارج في استراحة من انشغالنا بأنفسنا. كما صبَّ غوته اهتمامه إلى الجوانب النفسيّة من ارتباطنا بنوع الأشياء التي يدرسها العلمُ مثل النبات، والضوء، والأحجار، وبدلا من استثناء معنى المسائل النفسيّة فقد رآها مركزًا إلى دراسة الطبيعة الصحيحة والتامة. 

دُهِشَ غوته بأنَّ لأنواع الصخور المختلفة سماتٍ متباينة، وتحمَّس جدًا بالاشتراك ما بين حياة البشر والشجر والحشَر. وكانت غايته من دراسة فكِّ الفيل فَهمَ مسارات التطوُّر، واعتقدَ بأنَّ الطبيعة البشريّة هي نتاج إصلاح تدريجي للطبيعة البهيميّة. كما أثار ربيته وخوفه الاتجاهُ الذي قصده العلم لا سيما بمساهمته على وجه الخصوص في العمل مع إسحاق نيوتن. ولاحظَ غوته أنَّ هذا الأستاذ والعالم المحترف لم يكُ مهتمًا بالمعنى الشخصيّ للمواد التي كان يدرسها. ولا يعني هذا أنَّ غوته رأى خطأ نيوتن في آليات عمله التقنيّة لكنَّه ما أحبَّ مقصدَ جهودِه. 

في الختام، داومَ غوته على العمل حتى أواخر عمره، وبقي في سعي وراء الحب والجنس، ووافته المنيّة بعمر الثالثة والثمانين في بيته بفايمر سنة 1832. علينا تعلُّم الكثير من غوته، لكننا لا نسمعُ الناسَ غالبًا يرجون أن يصبحوا مثل غوته ولو على وجهٍ من وجوه ما كان عليه. وإذا ما خطونا بخَطْوه فإنَّ العالم سيصبحُ أكثرَ حيوية وملائمة للإنسان. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى