التراث الأدبيالتراث العربي

منامات الوهراني

يجمع هذا الكتاب نصوص الوهراني من مقامات ومنامات ورسائل وكتابات أُخَر مختلفة الأسلوب والمواضيع والأغراض، لكنها تمتاز في غالبها بالسُّخف والمجون والهزل والظرافة، وتجعل الوهراني من الأدباء المميَّزين بشقِّهم دربٍ مختلفٍ عن السائد في أيامهم لأسباب يوردها ابن خلكان في وفيات الأعيان، فيكتبُ “أبو عبد الله محمد بن محرز بن محمد الوهراني الملقب ركن الدين، وقيل جمال الدين؛ أحد الفضلاء الظرفاء، قدم من بلاده إلى الديار المصرية في أيام السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، وفنه الذي يمت به صناعة الإنشاء، فلما دخل البلاد ورأى بها القاضي الفاضل وعماد الدين الأصبهاني الكاتب وتلك الحلبة، علم من نفسه أنه ليس من طبقتهم ولا تتفق سلعته مع وجودهم، فعدل عن طريق الجد وسلك طريق الهزل، وعمل المنامات والرسائل المشهورة به والمنسوبة إليه، وهي كثيرة الوجود بأيدي الناس، وفيها دلالة على خفة روحه ورقة حاشيته وكمال ظرفه، ولو لم يكن له فيها إلا المنام الكبير لكفاه، فإنه أتى فيه بكل حلاوته، ولولا طوله لذكرته، ثم إن الوهراني المذكور تنقل في البلاد وأقام بدمشق زمانا، وتولى الخطابة بداريا، وهي قرية على باب دمشق في الغوطة. وتوفي في سنة خمس وسبعين وخمسمائة بداريا، رحمه الله تعالى، ودفن على باب تربة الشيخ أبي سليمان الداراني. نقلت من خط القاضي الفاضل: وردت الأخبار من دمشق في سابع عشر رجب بوفاة الوهراني”. يُشابه الوهراني في النثر ابن الحجَّاج في الشعر القائل “رجل يدعي النبوة في السخ/ ف ومن ذا يشك في الأنبياء/ جاء بالمعجزات يدعو إليها/ فأجيبوا يا معشر السُّخفاء”. ويقول عنه سعيد الغانمي في كتابه مفاتيح خزائن السرد “يمكن وصف الوهراني بأنه ابن الحجَّاج السرد العربي القديم. وتماما مثلما فعل ابن الحجَّاج، حين حوَّل الظَّرف إلى سخف، وجعله منظورًا يرى منه العالم شعريًا، كذلك غرس الوهراني في السخرية في قلب المقامة، وحولها إلى منظور ساخر وسمّاه باسم المنامة”. لا أتفق مع ذهب إليه الغانمي في كون الوهراني أدخل السخرية إلى المقامة وحوَّلها إلى منامة، لأنها مختلفة جذريًا عن المقامة وما من تشبه بُنيويّ أو أسلوبيّ معها، فضلا عن كتابة الوهراني أكثر من مقامةٍ مختلفة الأسلوب عن المنامة وإن لم ينتهجْ فيها نهجَ الهمذاني والحريري بحذافيره. يضع الغانمي في كتاب “مفاتيح خزائن السرد” نصَّ منامة الوهراني في صنف حكاية الرؤيا، ومن أمثلتها رسالة الغفران لأبي العلاء المعري والتوابع والزوابع لابن شُهيد الأندلسي، وهي نصوص تعمل على إبداع عالمٍ خيالي موازٍ للعالم الحقيقي. وكما فعلَ المعري حين بعثَ بابن القارح إلى العالمِ الآخر (الجنة والمحشر والفردوس) يأخذُ الوهراني نفسه والحافظ العليمي في منامه إلى أرضِ المحشر. ومما لا شكَّ فيه تأثر الوهراني برسالة الغفران لأبي العلاء، وإنْ اختلفَ أسلوبيهما وعالميها الخياليين ولغتهما وأغراضهما من الكتابة. إذ الطابعِ الساخرِ والتهكُّمي والماجن والبذيء اللفظِ طاغٍ بقوة على لغة الوهراني في كثير من نصوصه ورسائله، لا في المنامة أو المنام الكبير فحسب، كما أنَّ الخياليّة لدى الوهراني واضحة في أكثر من نصٍ وهو يُبدع عوالمَ ومخلوقاتٍ. بيد أن منامة الوهراني تقترب في آلية استهلالها مع تقنية الرؤيا Dream vision في نصوص القرون الوسطى وعصر النهضة حين ينامُ الراوي ويروي بعدها أحداث أحلامه، كما في قصيدة رواية الوردة لغيوم دو لوريس 1230، التي أسست الذوق الشعري الأوروبي، حيث يروي الراوي/ العاشق حلمه حين يمضي في دربه حتى يصلَ إلى بستان غنَّاء مترامي الأطراف وتبدأ بعدها وقائع القصيدة، وقصيدة برلمان الطيور فالراوي يهوي نائمًا أثناء قراءته كتاب شيشرون “حلم شيبيون” ليرى في منامه شيبيون الإفريقي ويقوده إلى حيث اجتماع الطيور، ويحيد دانتي في الكوميديا الإلهية عن الطريق ويجد نفسه في غابة ولا يدري كيف وصل إليها إذ كان مثقلًا بالنوم، وهو التفاف من دانتي على هذا الأسلوب وافتتاح مقارب لاستخدام تقنية الرؤيا في رواية القصائد والنصوص النثرية.

إنَّ القراءة للوهراني جديرةٌ بالاعتبار فما يُوجد عنده لا يمكن الحصول عليه عند غيره، وبلغته الساخرة الماجنة يُبدعُ نصًّا متحرِّرًا من القيود الأخلاقيّة والدينيّة، بل ويقلبُ المديح بالمحاسن إلى المديح بالقبائح بلغةٍ متهتِّكة، نرى مثيلتها لدى فرانسوا رابليه في خماسيته غارغانتوا وبانتاغرويل، وثمة تشابه كبيرٍ بين شخصية بانورج بطباعه اللعوبة ولغته الفاضحة مع شخصيّة الوهراني في نصوصه. تلعبُ السخرية عند الاثنين دورًا في تقديم الحقيقة بوجهٍ معكوس والواقعة بحالٍ مقلوب وعَرض نقيضها التام، والأغراض متعددة فهي تأخذ طابعًا انتقاميًّا قوامه السخرية، والحطُّ من القدر، وسَّفُ الخصوم التراب. لا يؤدي الهجومُ الصريح الانتقامَ الحق الذي تُنجزه السخرية، وهي تضعُ العالي، وتُنزله منزلةً خسيسة، فتنتقم وتُضحك من المُهاجم، بلغة تجعله محطَّ تندرٍ وتفكّه عند المتلقي. وغالبًا ما يعجز المُهاجم بالسُّخرية عن الردِّ بالطريقة التي هُوجم بها إن لم يملكْ تلكَ الروح الظريفة والسخيفة والهازئة والماجنة، وهذا ما امتلكه الوهراني وإنْ لم يُوطِّن قلمه على الهجوم بل المحاكاة الساخرة لعالمه، وانتقادِ الظروف الاجتماعية السيئة والمفاسد، فهو يرسمُ عالمًا يُبيّن فيه تنقاضاته ومساوئه على نحو فجٍ غليظٍ كأنه يُشير إلى مدى سوءه بدرجةِ السخرية العالية. 

نقف في هذا الكتاب على نصوص عدَّة متفاوتة في الحجم والأسلوب والإبداع، ومختلفة الموضوع والأغراض. فنقرأ في أحد النصوص قصةً يتكلم فيها الوهراني عن قدومه بغداد ولقائه الشيخ أبي المعالي، وتجري بينهما محادثة يسأل فيها كل رجل جليسه عن دول عصره وبلاده وملوكها. وهو نص رقيق الألفاظ جزل المعاني سلس مُسجّع محلى بالشعر والمحسنات اللفظية والمعنوية. ونقرأ في نصٍ آخر قصة يتكلم فيها الوهراني عن جور عمال السلطان في دمشق، ويتخللها أدب رسائل بين الوالي والملك وسعد بن أبي عصرون، والشكاية من الأخير وجوره. وقصةٌ ثالثة كتبها الوهراني إلى القاضي عبد الرحيم بن علي البيساني (ت: 596) عن شويعر ذي شعر ركيك فاتر يمدح رجال الدولة، وطُلب منه ألا يقول شعرا فأحجم عنه وأصابه لذلك القولنج، وأراد بعض المتأدبين علاجه فأنزلوه عند أبخلهم وأوصوه بالبخل عليه وعدم إطعامه، فأبى النزول عنده فأجبر على ذلك لعل في هذا شفاءه. وفي نصٍ آخر يكتب إلى القاضي الأثير بن بنان، وكان له عند القاضي مظلمة والقاضي من ظلمه، قصةً يتحدث فيها الوهراني كيف قابل ذات يوم شيخا، عرف أنه إبليس، واشتكى لإبليس حاله من القاضي أيرضيه ما فعله به من أخذ ماله وحلاله، فيثني إبليس على ابن بنان، ويوصي الوهراني أن يوصلَ سلامه إلى ابن الصابوني ويحثَه على الاستمرار في الخداع والمكر. ويمدح الوهراني ابنَ بنان في نصٍ آخر مديحًا على صفات الكواكب. ويكتب إلى قاضي الفاسقين، اسمه غير مذكور، رسالة يشتكي فيها من حال نائبه، وهي مليئة بالشتائم والرذائل وسيئ الصفات لكنها في مقام المدح لا الذم. وكتب الوهراني إلى مجد الدين عبد المطلب يستعطيه من الخيرات، ويورد في المستهل قصة عن مخلوق خرافي يخرج له من حمام دار، وهو في مصر، واسمه أبو خطرش، يسائله في الشعر ويجيبه الوهراني، ثم يتحادثان في أهل العصر ويختفي بعدها أبو خطرش، ويكمل الوهراني رسالته عن الاستعطاء. ونصٌ آخر كتبه إلى القاضي تقي الدين، الفصل الأول منه قصةٌ ماجنة مليئة بالألفاظ الداعرة والصور الخلاعية، والطريف أنه يقدم شخصية مضطربة مازوخية تحب الضرب بالنعال والشتم وتحسو المدام بالخف. والفصل الآخر نصيحة لكن النصان يبدوان أقرب لكتابة هلوسة وهذيان لا نص عاقل. وفي ذات الغرض في النُّصح يكتب وصفة خياليّة للعشاق خيالية تشبه الوصفات السحرية في النصوص الآيسلنديّة الأسطوريّة. ويكتبُ في المقامة، لكن على أسلوبه الخاص، مقامة شمس الخلافة، يرويها عيسى بن حماد الصقلي عن رجل التقى به وحدّثه عن رجل جاهل تزوج عجوزا، فطلبت منه أن يجالس الفقهاء ويدارسهم بالصياح والفظاظة فانكشف أمره لهم، وعمل بعدها بطباعه الرديّة وصارت له عصبة ومنعة وفسدت علاقته بزوجته العجوز. ينوِّع الوهراني في من شخصياته رواته فيكتب على لسان بغلته، وسماها ريحانة، نصًا وهي تشتكي إلى الأمير عز الدين موسك عسر حال صاحبها، وما جره ذلك عليه من جوع وفاقة، وأن صاحبها لا يملك إلا الشعر والأدب وأنى لها أن تأكل مثل هذا، وتسترحمه حاله وأن يكرمها. وفي نصٍ آخر قصير يكتب لسان المئذنة في مديح القاضي عبد الملك بن درباس، وآخر يكتبه على لسان جامع دمشق، وقد أنسنَ الجوامعَ فيه وأنطقها. 

أما أبرع كتاباته وأهمها فيُعرف بالمنام الكبير، أو المنامة، وهو نص حُلمي ما ورائي مكتوب بدرجة رفيعة من الظرافة والهزل، واستخدام المقدّس في كتابة نص مليء بالمحاكاة الساخرة، مع وعي تام بعناصر الكتابة الحُلميّة جعل النص حفلا كرنفاليا طافحا بالصخب والاضطراب والتداخل والحيرة والضياع والسعي الحثيث في أرض المحشر. يكتب الوهراني المنام في ردٍّ على رسالة شيخه الحافظ العليمي1، الذي أغلظَ له القول لأن الوهراني خاطبه في رسالةٍ بعثها إليه باسمه حاذفًا جميعَ الألقاب، وقد تمكَّن الحقدُ من قلب العليمي على الوهراني، وأثناء تفكير الوهراني في أمر الرسالة وما يكتبُ فيها تغلبه عيناه ويرى في منامه أنَّه في أرض المحشر. يلتقي الوهراني في أرض المحشر بالعليمي الذي يوبخه لعدم احترامه في المخاطبة، ثم يقبضُ عليهما مالكُ خازن النار لما اقترفاه في الدنيا من شنائع وآثام قبل أن يستشفعاه، ليتركهما بعدها ويذهبان إلى جبلِ الأعراف. ويتجوَّل في أرضِ المحشر وتجري له وقائعٌ وأحداث مليئة بالظرافة والتهكُّم، لا سيما وقوع معركة صفِّين أخرى في أرض المحشر ما بين جيشي علي ومعاوية.  

1- أبو الخطَّاب العليمي عمر بن محمد بن عبد الله الدمشقي التاجر السفَّار، طلبَ بنفسه وكتب الكثير من تجاربه بالشام ومصر والعراق وما وراء الهر. روى عن نصر الله المصيصي، وعبد الله الغراوي، وطبقتهما. تُوفي في شوال سنة 574 هـ. هامش منامات الوهراني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى