التراث الأدبيالتراث العربي

مقامات الحريري

شغلتْ مقامات الحريري منذ كتابتها مقامًا رفيعًا في الأدب العربي، ورسَّخت أركان فنِّ المقامة في الأدب العربي الذي أبصرَ النورَ على يدِ الهمذاني في العقد التاسع من القرن الرابع الهجري. وما رُفِعت قواعدُ بُنيانِ هذا الفن الذي أقام أسسه الهمذاني على النحو الحقيقي المُستَّحق إلا بمرور مئة سنةٍ تقريبًا فصلت بين مقامات الرجلين، وفورما كُتبتْ مقامات الحريري اتَّضحَ قدرُها وبانَ فضلها وتأكّد لروَّاد الأدب وعلماؤه جلالها فتعاهدوها بالنسخ والحفظ والتداول والدرس والشرح، فترسَّخ أكثر فن المقامة. وإنْ كان الفضلُ كلُّ الفضل للهمذاني في نشأة هذا الفن الأدبي فذلك لا يعدم دور الحريري الذي أصبحَ بعد الهمذاني أبَ المقامات، فطغى صيتِ مقاماته على مقامات أستاذه. يقول القلقشندي1 “عمل الحريري مقاماته الخمسين المشهورة فجاءت نهاية في الحسن، وأتت على الجزء الوافر من الحظ، وأقبلَ عليها الخاص والعام، حتى أنسَت مقامات الهمذاني وصيَّرتها كالمرفوضة”. ولما هذا الرأي من وجاهة فلا يؤخذُ به إلا من جهة السطوة التي حازتها مقامات الحريري على فن المقامة العربي بعد كتابتها وذيوعها، وفي ترسيخ البُنية التي أبدعها الهمذاني، الذي يبقى هو المؤسس فمن دونه ما كان للحريري أن يبلغَ ما بلغه، ولا أن يهتدي إلى هذا الفن. يقول الحريري في خطبة افتتاح مقاماته “وقد جرى ببعض أندية الأدب الذي ركدت في هذا العصر ريحه، وخبت مصابيحه، ذكر المقامات التي ابتدعها بديع الزمان، علّامة همذان، رحمه الله تعالى. وعزا إلى أبي الفتح الإسكندري نشأتها، وإلى عيسى بن هشام روايتها، وكلاهما مجهول لا يُعرف، ونكرة لا تَتَعرَّف. فأشار من إشارته حُكمٌ، وطاعته غُنْمٌ، إلى أن أنشئ مقاماتٍ أتلو فيها تِلوَ البعيد وإنْ لم يدرك الظالع شأو الضليع… هذا مع اعترافي بأن البديع رحمه الله سبَّاق غاياتٍ، وصاحبُ آياتٍ، وأن المتصدي بعده لإنشاء مقامة، ولو أوتي بلاغة قدامة، لا يغترف إلا من فُضالته ولا يسري ذلك المسرى إلا بدلالته”. فأي إقرار بالفضلِ إلا إقرار الحريري نفسه لأستاذه الروحيّ الهمذاني الضليع من المقامات، وإنْ كان قول الحريري يأتي من باب التأدب مع الأفاضل والتواضع أمام أئمة الكتاب والبيان، فإن مقامات الهمذاني ذات قدرٍ جليل وبُنية متماسكة وحكاية محبوكة وما خرجَ الحريري عن مواضيعها وبُنيتها إلا قليلا، وما جدَّد فيها إلا يسيرًا. وليس المقام هنا مقام تفضيل بين رجلين عظيمين بالقلم وأديبين كبيرين بالبيان والبلاغة لكننا نُقرِّب صورة هذا الفن الأدبي، ونجمع بين قطبيه على اختلاف زمانهما وتباين مقاماتهما، حتى نُلملمَ الأطراف ونُقرِّب المتباعدات ونُقيم بُنيان المقامات ليتعرَّف القارئ على فضلهما وأثرهما في الأدب معًا دون بخس حقِّ أحدهما أو إسباغ كلَّ الفضل على واحدٍ دون الآخر.   

*

ولدَ أبو محمد القاسم بن علي بن محمد الحريري في قرية المَشان في البصرة سنة 446 هـ/ 1054م، حيث ترعرعَ ونشأ قبيل الانتقال إلى البصرة والسكن في محلة بني حرام وقرأ الأدب فيها على عدة شيوخٍ. اشتُهرَ بالبلاغة والفصاحة، يقول عنه ياقوت الحموي في معجم الأدباء2: “كان غاية في الذكاء والفطنة والفصاحة والبلاغة، وله تصانيف تشهد بفضله وتقر بنبله، وكفاه شاهدا “كتاب المقامات” التي أبرَّ بها على الأوائل وأعجزَ الأواخر”. بلغَ الحريري في البصرة مقامًا رفيعا فصار صاحب الخبر بالبصرة في ديوان الخلافة، وكان هذا المنصب لأولاده من بعده حتى وفاة المستنجد بالله سنة 566 هـ. وللحريري تصانيف سوى المقامات: كتاب درة الغوَّاص في أوهام الخواص، وكتاب ملحة الإعراب، وهي قصيدة في النحو، وكتاب شرح ملحة الإعراب، وكتاب رسائله المدوَّنة، وكتاب شعره. 

عاشَ الحريري حياته في البصرة وما غادرها إلا في مرات معدودة إلى بغداد، كما يروي الذهبي في سير أعلام النبلاء، قدمَ بغداد، وقرأ على علي بن فضال المجاشعي، وتفقه على ابن الصباغ، وأبي إسحاق الشيرازي، وقرأ الفرائض على الخبري. أما قدومه بغداد في المرة الثانية حين أتى بمقاماته الأربعين، ثم بعدها حين أتى بمقاماته العشر الأخرى. رُزقَ الحريري ابنين هما نجم الدين عبد الله، وقاضي البصرة ضياء الإسلام عبيد الله، اللذان كانا يُجيزان مقاماته أبيهما كما يذكر ابن خلكان في وفيات الأعيان. 

كان الحريري رغمَ علمه وسعة معرفته واتساع صيته دميمَ الخلقة قذرًا في نفسه وصورته ولبسته وهيئته قصيرًا بخيلًا مُبتلى بنتف لحيته، كما يقول الحموي وغيره. ومن طريف ما يُذكر الخبرُ الذي رواه الذهبي “وقيل: كان عفشا زري اللباس فيه بخل، فنهاه الأمير عن نتف لحيته، وتوعده، فتكلم يوما بشيء أعجب الأمير، فقال: سلني ما شئت، قال: أقطعني لحيتي، فضحك، وقال: قد فعلت”. وما يرويه ابن خلكان “ويحكى أنه كان دميما قبيح المنظر، فجاءه شخص غريب يزوره ويأخذ عنه شيئا، فلما رآه استزرى شكله، ففهم الحريري ذلك منه، فلما التمس منه أن يملي عليه قال له: اكتب: 

ما أنت أول سار نحره قمر/ ورائد أعجبته خضرة الدمن/ فاختر لنفسك غيري إنني رجل/ مثل المعيدي فاسمع بي ولا ترني. 

فخجل الرجل منه وانصرف”.

وقيلَ إنه كان غنيًا يملكُ ثمانية عشر ألف نخلة في المَشان وانتسبَ إلى ربيعة الفرس، ولقبه الحريري نسبة إلى عملِ الحرير أو بيعه. توفي الحريري في سادس رجب سنة 516هـ/ 1122م بالبصرة، في خلافة المسترشد، عن عمر سبعين سنة تقريبا. 

*

لكتابة الحريري لمقاماته قصّة يُلمحُ إليها إلماحا في مقدمته حين قال “فأشار من إشارته حُكمٌ، وطاعته غُنْمٌ، إلى أن أنشئ مقاماتٍ أتلو فيها تِلوَ البعيد”، ولم تبخلْ علينا كُتب الأدب والسير في ذكر هذه القصة، وما حدث للحريري في ديوان الوزير عندما كُذِّب بكتابته المقامات وأنَّه اشتراها وليس بصاحبها، وفي ذكر نشأة أول مقامة وذيوع صيتها، وما وردَ عن شخصِ أبي زيد الحقيقي الذي جعله الحريري بطلَ مقاماته. 

يُرجّح تاريخ كتابة المقامات ما بين سني 495 و504 هـ، وفي هذه السنوات العشر أخبار متناثرة ومكرَّرة ومتضاربة أحيانا. يذكرُ الحموي في معجم الأدباء أنَّه سُمعَ عن الحريري صاحب المقامات يقول: أبو زيد السَّروجي كان شيخًا شحاذًا بليغًا ومكديًا فصيحًا، ورد علينا البصرة فوقفَ يومًا في مسجد بني حرام فسلَّم ثم سأل الناس، وكان بعض الولاة حاضرًا والمسجد غاصٌ بالفضلاء فأعجبهم فصاحته وحسن صياغة كلامه وملاحته، وذكرَ أسر الروم ولده، كما ذكرناه في المقامة الحرامية وهي الثامنة والأربعون، قال: واجتمع عندي عشية ذلك اليوم جماعة من فضلاء البصرة وعلماؤها، فحكيت لهم ما شاهدته من ذلك السائل وسمعتُ من لطافة عباراته في تحصيل مراده، وظرافة إشارته في تسهيل إيراده، فحكى كل واحد من جلسائه أنه شاهد مِنْ هذا السائل في مسجده مثل ما شاهدت، وأنه سمع منه في معنى آخر فصلا أحسن مما سمعت، وكان يغيّر في كل مسجد زيّه وشكله، ويُظهر في فنون الحيلة فضله، فتعجبون من جريانه في ميدانه، وتصرفه في تلونه وإحسانه، فأنشأت المقامة الحرامية ثم بنيتُ عليها سائر المقامات وكانت أول شيء صنعته. 

ويؤكد الحموي أنَّ ابن الجوزي ذكر في تاريخه مثل هذه الحكاية، وزاد فيها أنَّ الحريري عرض مقامته الحرامية على أنوشروان بن خالد وزير السلطان فاستسحسنها وأمره أن يضيف إليها ما يشاكلها فأتمها خمسين مقامة. 

يوردُ الحموي أيضًا قصة مفادها أنَّه حين انتهى من كتابة المقامة الحرامية أصعدَ بها إلى بغداد، وقصد ديوان السلطان وقد اكتظَّ بالعلماء الذين سمعوا بمقدمه، ولما سألوه عن أي فن من فنون الكتابة يجيده رفعَ قلمه، أي كل ما يُكتب، فلما باحثهم وأجابهم شهدوا له بالفضل والإجادة. ودخل بعدها على الوزير أنوشروان بن خالد فأكرمَ وفادته وأحسنَ إليه، وحدَّثه يومًا الحريري عن أبي زيد والمقامة الحرامية فاستحسنها وأشار عليه بكتابة أُخَرَ غيرها، فاستجاب له ووعده بذلك إذا ما عاد إلى البصرة. كتبَ الحريري بعد عودته إلى البصرة أربعين مقامة وانطلق بها إلى بغداد فاتَّهمه من حسده بأنه اشتراها من إحدى القوافل وأُخذت من جراب بعض المغاربة، لاختلاف المقامات عن رسائل الحريري ولا تشاكل ألفاظه، وطلبوا منه كتابة مقامة أخرى إن كان صادقًا، لكنه عجزَ في بغداد عن كتابة مقامة واحدة، فأقفلَ راجعا إلى البصرة وسوَّد عشر مقامات وأصعدَ بها إلى بغداد فأقروا له بفضله وأنها من عمله. وفي هذه الواقعة يقول ابن حكينا: شيخ لنا من ربيعة الفرس/ ينتف عثنونه من الهوس/ أنطقه الله بالمشان وقد/ ألجمه في العراق بالخرس.

لا يُعرفُ على وجه الدقة لما أرتج على الحريري في بغداد ولم يستطع كتابة مقامة، ولعلَّ السبب نفسيُّ إذ وجدَ الحريري نفسه محصورًا ومضغوطًا فما وسعه كتابة مقامة واحدة تُرضيه. ويورد الذهبي أنَّه كره الإقامة في بغداد، وقال أيضًا “اشتهرت المقامات، وأعجبت وزير المسترشد شرف الدين أنوشروان القاشاني فأشار عليه بإتمامها، وهو القائل في الخطبة: فأشار من إشارته حكم، وطاعته غنم”. وهذا الوزير كما يذكر ابن خلكان “كان نبيلا فاضلا جليل القدر، له تاريخ لطيف سماه صدور زمان الفتور وفتور زمان الصدور، ونقل منه العماد الأصبهاني في كتاب نصرة الفترة وعصرة الفطرة الذي ذكر فيه أخبار الدولة السلجوقية نقلا كثيرا، وتوفي الوزير المذكور سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، رحمة الله تعالى”.

أما ابن خلكان في وفيات الأعيان فيورد القصة بلفظٍ مختلف عن بداية المقامات وأبي زيد السَّروجي إذ يقول “وكان سبب وضعه لها ما حكاه ولده أبو القاسم عبد الله قال: كان أبي جالسا في مسجده ببني حرام فدخل شيخ ذو طمرين عليه أهبة السفر رث الحال فصيح الكلام حسن العبارة، فسألته الجماعة: من أين الشيخ فقال: من سروج، فاستخبروه عن كنيته فقال: أبو زيد، فعمل أبي المقامة المعروفة بالحرامية، وهي الثامنة والأربعون، وعزاها إلى أبي زيد المذكور، واشتهرت فبلغ خبرها الوزير شرف الدين أبا نصر أنوشروان ابن خالد بن محمد القاشاني وزير الإمام المسترشد بالله، فلما وقف عليها أعجبته، وأشار على والدي أن يضم إليها غيرها، فأتمها خمسين مقامة، وإلى الوزير المذكور أشار الحريري في خطبة المقامات بقوله: فأشار من إشارته حكم، وطاعته غنم، إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها البديع، وإن لم يدرك الظالع شأو الضليع هكذا وجدته في عدة تواريخ”. يؤكد في هذا الجزء من الخبر أنَّ الوزير المُشار إليه هو أنوشران بن خالد لكنه يُكمل بعد ذلك ليقول إنَّ الوزير المشار إليه غير أنوشران “ثم رأيت في بعض شهور سنة ست وخمسين وستمائة بالقاهرة المحروسة نسخة مقامات وجميعها بخط مصنفها الحريري، وقد كتب بخطه أيضا على ظهرها: إنه صنفها للوزير جلال الدين عميد الدولة أبي علي الحسن بن أبي العز علي بن صدقة وزير المسترشد أيضا، ولا شك أن هذا أصح من الرواية الأولى لكونه بخط المصنف، وتوفي الوزير المذكور في رجب سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، فهذا كان مستنده في نسبتها إلى أبي زيد السروجي”.

أما أبو زيد السَّروجي فذُكرت أكثر من قصة عن شخصه سوى تلك الواردة آنفًا عن كونه متسول ظهر في مسجد بني حرام، فيروي ابن خلكان في وفيات الأعيان “وذكر القاضي الأكرم جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف الشيباني القفطي وزير حلب في كتابه الذي سماه إنباه الرواة على أنباه النحاه أن أبا زيد المذكور اسمه المطهر بن سلار، وكان بصرياً نحويا لغويا، صحب الحريري المذكور، واشتغل عليه بالبصرة وتخرج به، وروى عنه القاضي أبو الفتح محمد بن أحمد بن المندائي الواسطي ملحة الأعراب للحريري، وذكر أنه سمعها منه عن الحريري وقال: قدم علينا واسط في سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، فسمعتها منه، وتوجه منها مصعدا إلى بغداد فوصلها وأقام بها مدة يسيرة وتوفي بها، رحمه الله تعالى [وكذا ذكره السمعاني في الذيل والعماد في الخريدة وقال: لقبه فخر الدين، وتولى صدرية المشان، ومات بها بعد سنة أربعين وخمسمائة]”.

يذكر الحموي في معجم الأدباء عن هذه الصحبة بين الحريري وأبي زيد “يروى أيضًا عن أبي الفضل جابر بن زهير يقول: كنتُ عند أبي محمد القاسم بن الحريري البصري بالمشان أقرأ عليه المقامات، فبلغه أن صاحبه أبا زيد بن المطهر بن سلام [الحموي يذكره سلام وليس سلار كما ذكرَ ابن خلكان] البصري الذي عمل المقامات عنه قد شرب مسكرًا، فكتب إليه وأنشدناه لنفسه: 

أبا زيدٍ اعلمْ من شرب الطِّلا 

تدنس فافهمْ سرَّ قولي المهذبِ

ومن قبل سميت المطهَّر والفتى 

يُصدِّق بالأفعال تسمية الأبِ 

فلا تَحْسُها كيما تكون مطهرا 

وإلا فغيّر ذلك الاسم واشربِ 

قال: فلما بلغه الأبيات أقبلَ حافيا إلى الشيخ أبي محمد وبيد المصحف، فأقسم به ألا يعود إلى شرب مسكر، فقال له الشيخ: ولا تحاضر من يشرب”. 

*

طبَّقت شهرة مقامات الحريري الآفاق بعد كتابتها، والأخبار السابقة تؤكد الاهتمام بأدق تفاصيلها وبداية كتابتها وأسبابها وحقيقة شخصياتها، وتعاهدها العلماء بالدرس والشرح وهي أكثر المقامات شرحًا. ويروي الشريشي عن ابن جهور الأندلسي، وهو أحد رواة المقامات عن الحريري شخصيا، وقد رواها عنه سنة خمس وخمسمئة، أن الحريري كتب في الأصل مئتي مقامة لا خمسين، وإنما اختار من المئتين خمسين فقط هي التي أعجبته، وأتلف البواقي3. ويروي الحموي قصةً طريفة عن فضل المقامات وعلو شأوها أنَّه ورد آمد، مدينة في ديار بكر، سنة 593 هـ، وبلغه فيها أنَّ علي بن الحسين بن عنتر المعروف بالشميم الحلي رغم علمه ومكانته كان لا يقيم لأديب وزنًا لا من المتقدمين ولا المتأخرين. ذهب الحموي إليه وسأله: أما كان في من تقدم على كثرتهم وشغف الناس بهم عندك قطُّ مُجيد؟ فقال لا أعلم إلا أن يكون ثلاثة رجال: المتنبي في مديحه خاصة ولو سلكتُ طريقه لما برز عليَّ ولسقتُ فضيلته نحوي ونسبتها إليَّ، والثاني ابن نباتة في خُطَبه وإن كان خطي أحسنَ منها وأسيرَ وأظهرَ عند الناس قاطبةً وأشهر، والثالث ابن الحريري في مقاماته، قلت فما منعك أن تسلكَ طريقته وتُنشئ مقاماتٍ تُخمدُ بها جمرته وتملك بها دولته؟ فقال يا بني الرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل، ولقد أنشأتها ثلاث مرات ثم أتأملها فأسترذلها، فأعمد إلى البركة فأغسلها، ثم قال: ما أظن الله خلقني إلا لإظهار فضل الحريري. وشرحَ مقاماته بشرحٍ قُرئ عليه وأُخِذَ عنه. 

الحريري بين التقليد والتجديد

انتهجَ الحريري نهج أستاذه الهمذاني في فن المقامة، وسار على خطاه في كتابة مقاماته، وتقلَّب في مقاماته ما بين التقليد والتجديد، فهي السمة البارزة في مقاماته إذا ما قُوبلت بمقامات الهمذاني. كان الحريري على إدراكٍ تامٍ ومعرفة شاملة ومتغلغلةٍ بمقامات الهمذاني ومواضيعها وبُنيتها وشخصياتها، وهذا ما تكشفه مقاماته ولا يعني ذلك أنَّه فهم كلَّ تفاصيل مقامات الهمذاني إذ في يظهر أحيانا تقليده دون أن يكون قد فهم تمامًا تطوُّر مقامات الهمذاني حتى وصلت إلى المثال الأعلى المِعياريّ. وهو على سعة تفحُّصه وإدراكه لما أتى به الهمذاني واتباعه له فقد جدَّد في مقاماته وتجديده بارزٌ محسوب له، إذ وسَّع تخوم المقامات وأعلى بُنيانها وزخرفَ حُجراتها وشذَّب حدائقها، وأخرجَ مقاماته على مستوى واحدٍ متقارب على عكس مقامات الهمذاني المتباينة المستوى. ويستحق الحريري بفضل ما شيَّده من مقامات وترسيخٍ لبُنيتها لقبَ كاتب المقامات الأرفع بعد الهمذاني. 

يتنوع التقليد عند الحريري ما بين بُنيويّ وموضوعيّ وأسلوبيّ. نبدأ من بُنية المقامة فهي في أغلب المقامات تتكون من توطئة الراوي الحارث بن همَّام لذكر حاله وأيامه ثم الحدث الرئيس المتمثِّل في حديث أبي زيد السروجي سواء في كدية أو حيلة أو خداع ثم التعرُّف والفراق. وتكون بعض المقامات مرافقة ما بين الحارث والسروجي، كما الحال مع عيسى والإسكندري، في المقامات: البكريّة، التبريزيّة، العمانيّة، التفليسيّة. وكذا الحال مع سنِّ الحارث والسروجي فالمقامات تجري في أزمان متباينة فالحارث أحيانا شابٌ وأخرى في سنِّ متقدمة والأمر ينبطق تماما على السروجي، ولا يختلف عن عيسى والإسكندري. وما أبان لي عن تقليد أعمى ما كان في المقامتين المكيّة والنجرانيّة، وهما مختلفتان عن بقية المقامات التي تلت المقامة الأولى “الصنعانيّة”، حيث تعرَّف الحارث على السروجيّ أول مرة، ففي المقامة المكيّة لا يعرف الحارث السائلَ وابنَه، ويجيبه السائل أنه من بلدة سروج، فهل هو السروجيّ أو غيره فهذا ما لا يُعرف. والغالب أنه ليس هو وإلا لعرفه الحارث مع أن الحريري يُشير إلى سائلٍ وابنه وبلدته سروج وذي بلاغة وبيان يسأل الناس، وهذه صفات أبي زيدٍ السروجي. وفي هذا يقتفي الحريري أثر الهمذاني حين غاب عن بعض المقامات أبو الفتح الإسكندري وحضر من ينوب عنه وأصله من الإسكندرية ويمتاز بالبلاغة والفصاحة. ويبدو أن الحريري لم يفطن إلى أن تلك المقامات التي غاب عنها الإسكندري هي إرهاصات تولد منها الإسكندري. والقصيدة التي ينشدها ابن السائلِ من سروجٍ شبيهة بالقصيدة التي أنشدها أبو فتح الإسكندري لعيسى بن هشام في المقامة الساسانيّة. يتكرر الأمر مرةً أخرى في المقامة النجرانيّة حيث يغيب عنها معرفة الحارث للسروجيّ، مع أن الشيخ يقول في شعره إن نسبه إلى سروج، لكن ليس في ذلك إشارة إلى أنه أبو زيد صاحبه لأنه لم يعرفه. نجد التقليد أيضًا حين يكون السروجيّ، مثل الإسكندري، الراوي الأول للمقامة إذ يقصُّ على الحارث، الراوي الثاني، ما جرى له كما في المقامة الفرضيّة. وقلَّد الحريريُّ بعضَ مواضيع مقامات الهمذانيّ دون تجديد أو تجديد طفيف: الدمشقيّة (ح) والحرزيّة (هـ)، القطيعيّة والعراقيّة، التبريزيّة والشاميّة، الكوفيّة والكوفيّة، الفراتيّة والحرزيّة، الساويّة والأهوازيّة، الساسانيّة والوصيّة، السنجاريّة والمضيريّة، السمرقنديّة والخمريّة. وقلَّد بعض عناوين مقامات الهمذاني، وهي الحُلوانيّة، الديناريّة، الكوفيّة، البغداديّة، الشعريّة، الشيرازيّة، الساسانيّة، البصريّة. وتوزَّعت مواضيع الحريري بين التقليد والتجديد في خديعة السروجي للناس بموعظته والشعر، في الإحسان للناس والإساءة لهم، صنعة السروجي الأدبية واللغوية، كدية السروجي، خداع القاضي، مسائل فقهية ولغوية، مرض السروجي، في فضل الكتَّاب وأهل الحساب ألغاز لغوية، سرقاتِ السروجي، رفقة الحارث والسروجي. وهذه المواضيع التي توزَّعت في المقامات الخمسين وبعضها تكرر الموضوع لا سيما خداع القاضي والألغاز اللغوية وألاعيبها. أما الأسلوبية فالحريري هو الآخر اعتمد على اللغة المسجوعة والمحسَّنات اللفظية والمعنوية والشعر في بناء المقامة كما فعل الهمذاني، وأكَّد أن لغة المقامة لا بد أن تكون لغة سجع ولم يخرجْ عن ذلك، وما خرجَ اللاحقون عن ذلك. والسؤال المطروح أيمكن كتابة مقامة دون لغة مسجوعة بسجعة تتبع سجعة ثم سجعة أخرى تتبع أختها وهكذا دواليك؟ إنَّ موضوع المقامة الرئيس في سؤال الناس أو الكدية وبُنيتها القائمة على الملاحقة والفراق جعلت من اللغة المسجوعة سمة أسلوبية بارزة للنص مرتبطةً بالموضوع من جهة، بما للسجع من تأثير ساحرٍ في الأسماع تجعل المستمع يُسلم قياده للمتكلم ويتأثر بقوله ويمنحه ما يريد، ومرتبطة ببُنية الحدث من جهة أخرى فإن ملاحقة شخصية الراوي لشخصية الحدث الرئيس الفاعلة شبيهة لتتابع السجع لشبيتها في الجملتين. تُشكل كل سجعتين دورة كاملة لتحرك عجلة المقامة إلى الأمام. هذا يجعل من اللغة المسجوعة ضرورة في نوع المقامة التقليديّ لكن لا يمنع التجديد في ذلك لكنه تجديد يدخل في البُنية والموضوع وليس تجديدًا أسلوبيًا لغويًا فحسب.    

أما ما جدَّده الحريريّ فهو متوزِّع ما بين البُنية والموضوع والشخصيات والصنعة. إنَّ مقامات الحريريّ في بُنيتها تمتازُ بأنَّ راويها واحدٌ هو الحارث، وبطلها الرئيس واحدٌ هو السروجي، عدا مقامتين لم يُذكر فيهما هل هو السروجي نفسه أو لا. يبرزُ في المقامات الحريري فصلٌ ما بين وظيفتي الحارث والسروجي، فوظيفة الحارث مربوطة بالرواية أكثر ووظيفة السروجيّ مربوطة بالفعل والحدث دوما. ويُكثِّف الحريري أيضًا داخل المقامة الواحدة وجودَ الراوي المجهول الذي يروي عن الحارث مُستخدمًا جملًا مثل قال المخبر بهذه الحكاية، قال الراوي، قال الحارث بن همَّام. وهذا ما لم يكن موجودًا لدى الهمذاني إذ الراوي المجهول تقتصر وظيفته على الجملة الاستهلالية “حدّثنا عيسى بن هشام قال”. 

تتمتَّع مقامات الحريري بأنها ذات مستوى واحد في حجمها وأحداثها فهي أكملُ وأجود، وهذا ما لم يكن مع الهمذاني الذي كتب مقاماتٍ متنوعة قبل أن يهتدي إلى بُنية المقامة المثاليّة. انتفعَ الحريريّ مما وصل إليه الهمذاني وجعلَ أفضلَ بُنيةٍ بلغها الهمذاني هي المثال الذي كتبَ بناء عليه كلَّ مقاماته، فجاءت متماثلة ومتساوية كأنها لؤلؤ في عقد. أخذَ هذا المستوى الثابت في البُنية وظيفته عند الحريريّ فاتَّسقَت أحداث المقامات على اختلافها، واتَّسع المجال للحريري أن يُضيف وينوَّع في داخل البُنية التقليديّة حتى وصل بها إلى مقامٍ سامٍ، لا سيما في المقامات التي يترافق بها الحارث والسروجي. من الأمثلة على هذا الرُّقي في البنية والأحداث وحبكتها المقامةُ الواسطيّة فهي ذات حبكة رصينة في منتهى الإبداع، والصُوريّة تُصوّر طبقةً من عالم المتسوِّلين السفلي كاملة الأركان حيث الاجتماع وعقد النكاح والطعام والشراب وإقامة الأفراح، والمقامة العمانية سفر بين الجزر وأهوال البحر، وهو موضوع عالميّ قديم مُتجدّد. 

جدَّد الحريري في خواتيم بعض المقامات إذ من يكتشف حقيقة السروجيّ ليس الحارث بل آخرون في المقامة كما في المقامة المعريّة والزبيديّة، ويكون كشفُ الحارثِ للسروجي دون إفصاحٍ بإيماءة طلبٍ من السروجي حتى تكتمل حيلته، أو أن يعود الحارث إلى أصحابه ويخبرهم عن حقيقة السروجي بعد أن يفترقا كما في المقامة الملطيّة. وفي ذات الجزء المتعلق بخاتمة المقامة فإنَّ السروجي في مقامات كثيرة يهربُ من الحارث أو الذين خدعهم، لا نرى لدى الهمذاني هروبُ الإسكندري من عيسى لأن الأمر مقتصرٌ على الفراق، وهذا الفرار خوفًا من أن يُمسكَ به ولا تنجح خديعته. لذا فالتعرُّف والفراق أخذَ مع الحريري نمطًا جديد وصار التعرُّف والفرار، وفي هذا إظهار أكثر واقعيّة للطبيعة الإنسانيّة الكارهة أن تُسرق أو تُخدع، ومعرفة السروجي لشناعة فعلته وطلبه الأمان بعد ارتكابها. كما إنَّ مقامات الحريري الخمسين غير مرتبطةٍ ببعضٍ فهي مثل مقامات الهمذاني بعددها الواصل إلينا، لكنَّ مقامات الحريري فيها سمة رئيسة أنَّ المقامة الأولى الصنعانيّة حيث يتعرف الحارث على السروجي أول مرة، وأنَّ المقامة الأخيرة البصريّة حيث يتوبُ السروجي توبة نصوح، وهي خاتمة لبداية، وما المقامات بينهما إلا صورًا وضروبًا من حياة السروجي من مبتداها إلى مُنتهاها. 

كرر الحريري بعضَ المواضيع أكثرَ من غيرها إذ وجد في حبكتها ما يستأثر بإعجابه مثل موضوع خداع القاضي أو الأمير، وهذا الموضوع وردَ مرةً واحدة مع الهمذاني في المقامة الشاميّة وورد نحو خمسَ مراتٍ مع الحريري، ويرجح لديّ أنَّ أهميّة هذا الموضوع عند الحريري كامنٌ في أنَّه خداع الحقير للشريف، وحيلة الضعيف على القوي، وأخذ العاميّ مال السلطان، في انقلاب للحال الاجتماعي المتمثل بقوَّة السلطة وسيطرتها على العامة. ظهرَ السروجي ليس محتالا فقط بل مناهضًا للسلطة ولو بالحيلة، وخادعها وليس مخدوعها، وظالمها وليس مظلومها، فأخذ وظيفتها رغم بقائه في درجته المتدنيّة في طبقات الناس. شمل التجديد في المواضيع مرافقة الحارث والسروجي فهو كما في المقامة الواسطيّة والعمانيّة والصوريّة، وكان لأخذ السروجي مساحة أكبر في الحدث فلم يقتصر دوره على الحديث والبلاغة فثمة مقامات يكون موضوعها مرض السروجي أو توبته أو مسائل فقهية يجيب عنها ورسائل ذات صنعة كتبها، ويعتمد الحريريّ أيضًا على إظهار ماضي السروجي في خطبته حين يسأل الناس معونة ومساعدة.   

أما أهم تجديد في مقامات الحريري فهو ظهور شخصيات ثانوية تُعين السروجي في كُديته أو حيله. أبرز هذه الشخصيات فهي ابنه زيد وزوج السروجي، ودور زيد أوضح وحضوره أدوم لا سيما في المقامات التي يُخدع فيها القاضي، ومقامات ظهور زيد: الدمياطيّة، المعريّة، الرحبيّة، النصيبيّة، الشعريّة، الواسطيّة، الزبيديّة، الصعديّة، الحجريّة، الساسانيّة. وظهرت زوجه أو ما يُدَّعى أنها زوجه في المقامات الإسكندرية، التبريزيّة، الرمليّة. كما ظهرت شخصية ضديد السروجي في المقامة البكرية، وهي مقامة مقسمة على ثلاثة أجزاء، يروي اثنين منها السروجي، وشخصية الضديد تغلب السروجي في بلاغتها وحكمتها وهي على ثلاثة أنماط الغالب الذي يغلبُ السروجي باعترافه، والمكافئ للسروجي في بلاغته وفطنته، والأقل وهذا الضديد رغم غلبته للسروجي فإنه أقلُّ منه إذ خُدع السروجي بقوله دون إرادة الأقل لأنه لم يفهم مغزى كنايات الأقل لطمعِه في نيل ما يملك. طال التجديد في شخص السروجي في كرمه أو وجود بيت له أو حتى خسَّته في سرقة صاحبه الحارث، كما أنَّ بلدته معروفة وهي سروج، في شمال بلاد الشام، مع أنَّه كان يتهربُ في بعض المقامات من الإجابة عن هذا السؤال. وهو في هذا يختلف كثيرًا عن الإسكندري الذي كان لا ينتمي إلى بلدٍ بعينه وينتمي إلى كل ديار الإسلام في حين واحد. 

ختامًا تمتازُ مقامات الحريري بالصنعة والدقة والإكثار من المحسنات اللفظيّة والمعنويّة والشعر والألغاز اللغوية والحيل والكنايات والتوريات، وهذا من الأسباب الرئيسة للاحتفاء بهذه المقامات واقتفاء أثرها الأسلوبيّ، وإن كان على حساب الموضوع والحبكة والحكاية. 

يُمكن جردُ أهم تجديدات الحريري في مقاماته في: 

1- مقاماته أكمل وأجود والقصة فيها أوضح، وهي ذات صنعة ودقَّة. 

2- من يكتشف حقيقة السروجي ليس الحارث، أو لا يكشفها بطلب من السروجي، أو أن يعود الحارث إلى أصحابه ويخبرهم بحقيقة السروجي. 

3- هروب السروجي بعد خديعته الناس. 

4- لكتاب المقامات بداية ونهاية، ويجعله هذا أشبه ما يكون بنصٍ واحدٍ مُنتظم. 

5- بنية المقامات ثابتة براويها وبطلها الرئيس. 

6- إضافة مواضيع جديدة أو تركيز على موضوع ذكره الهمذاني مرة وتكراره.

7- تغيير في صفات السروجي فكأن يكون له بيت معلوم، وكريمًا، وبلدته سَروج معروفة. 

8- ظهور شخصية ضديد السروجي، الغالب والمكافئ والأقل. 

9- ظهور شخصيات ثانوية مساعدة للسروجي مثل ابنه زيد وزوجه.

أبو زيد السروجي والحارث بن همَّام 

تقوم مقامات الحريري على شخصيتي الراوي الحارث بن همَّام والبطل الرئيس أبو زيد السروجي. ولكلِّ شخصية سماتها وسلوكياتها، وهما على طرفي نقيض وإنْ تشاركا في سمة التجوال والسفر والتنقل بين البلاد. سُمِّي الحارث بن همَّام بهذا الاسم من حديثِ “كُلكم حارث وكلكم همَّام” والحارث هو الكاسب وهمَّام الكثير الاهتمام الذي يهمُّ بأمرٍ تلوَ آخر. وبنظرةٍ على حياة الحارث بن همَّام نراه يسعى في البلاد متجولًا، ويطلبُ الأدبَ واللغةَ وفنونها محبًّا لها، فقد يخرج في سفره إلى أهل البادية لتعلُّم الإباء واللسان العربي، وهو يهتم بأمرِ السروجيّ في كلِّ مرة يصادفه فيها، ويتابعه ويلاحقه دائما، وتقوم المقامات على هذا التلاحق والتعارف والالتقاء والفرار. وبلادُ الحارثِ العراقُ إذ يقول في المقامة الدمشقيّة “فعادني عيد من تذكار الوطن، والحنين إلى العطن”، قاصدًا العراق، وهو ذو أخلاق ودين واجتناب المنكرات. وتبقى سمته الأبرز هو رواية أخبار السروجي، فهو الوصلة ما بين القارئ والسروجيّ إذ يروي ما عاشه وعاينه بعينه، وليس من مصدرٍ لأخبار السروجي سوى الحارث. أما الشخصية الرئيسة في المقامات فهو أبو زيد السروجي، ذكرَ في أكثر من مقامة بشعره عن سابقِ أيامه وغناه وسعة عيشه في سروج، بلدة قرب حلوان في شمالي بلاد الشام، لكن تنقلب حياته وتُسبى ابنته بعد أخذ الروم لبلدته [في الأخبار التي تُروى عن أبي زيد الحقيقي أنَّ المأسور ابنه، كما يورد الحموي في معجم الأدباء قولَ الحريري  نفسه “أسر الروم ولده، كما ذكرناه في المقامة الحرامية وهي الثامنة والأربعون”. لكن الوارد في هذه المقامة قول السروجي: استباء ابنتي التي/ أسروها لتُفتدى]، فيهيم بين البلاد متسولا ومحترفًا الكُدية. يمتازُ السّروجي بصفات أهمها إنَّه: بليغ فصيح وعلَّامة في اللغة وشاعر مُجيد. محتال كثير الخداع، لا يثبتُ على حالٍ فساعة في الصلاة وساعة في الخمر، له في كل بلد حال ولكل مقامٍ مقال. يقول: لبست لكل زمان لبوسا/ ولابست صرفيه نُعمى وبُوسى/ وعاشرت كل جليس بما/ يلائمه لأروقَ الجليسا/ فعند الرواة أدير الكلام/ وبين السقاة أدير الكؤوسا. متلون في أساليب الاكتساب والانتساب إلى ساسان وغسَّان. جشع وانتهازي ولا يتورَّع من الكسب من أصحابه أو حتى سرقتهم. يفضل السياحة في البلاد على المكوث لدى السلطان: لجوب البلاد مع المتربه/ أحبُّ إلي من المرتبه/ لأن الولاة لهم نبوةٌ/ ومعتبة يا لها معتبه. ويقول: أنا أعجوبة الزما/ ن وأعجوبة الأمم/ وأنا الحول الذي احـ/ تال في العرب والعجم. ويقول: كم قد قمرتُ بنيه/ بحيلتي وبمكري/ وكم برزتُ بعُرفٍ/ عليهم وبنُكر/ أصطاد قومُا بوعظٍ/ وآخرين بشعر/ وأستفز بِخَلٍّ/ عقلا وعقلا بخمر/ وتارة أنا صخرٌ/ وتارة أختُ صخر.  

أما أكثر ما يلفتُ الانتباه أنَّه تجنَّب ذكرَ نسبه ويهرب من الإجابة عن هذا إذا ما سئل عنه، يجيب في المقامة الكَرَجيّة: تبًا لمُفتخرٍ بعظم نخر، إنما الفخر بالتقى والأدب المُنتقى ثم أنشد: لعمرك ما الإنسان إلا ابن يومه/ على ما تجلى يومه لا ابن أمه/ وما الفخر بالعظم الرميم إنما/ فخارُ الذي يبغي الفخار بنفسه. لكنه كذلك لا يتهرب من هذا السؤال إذا كان في الإجابة نفع. يقول: مسقط الرأس سروج/ وبها كنت أموج/ بلدة يوجد فيها/ كل شيء ويروج/ وردها من سلسبيل/ وصحاريها مروج. يتوبُ السُّروجي في آخر حياته مما اقترفه في خالي الأيام توبةً نصوحًا، ويعيش حياته ما بين عبادة ووعظٍ، ويبلغُ هذا الخبرُ صاحبه الحارث.  

المقامة الإطارية 

يُشيرُ د. عبد الله إبراهيم إلى عنصرٍ فنيّ وردَ في المقامات وهو غيابُ الإسناد الطويل والاكتفاءُ براوٍ واحد، وهو حسبُ خلاصته، أدَّى إلى خلخلة الإسناد وتجاوز وظيفة القديمة فجاءت الأخبار طليقة من القيود التي كانت تحبس المتون في أطر مغلقة. مما يعني أننا نشهد في بنية المقامة تحرَّرًا من الأعراف السائدة بروايةِ الحديث لا سيما الحديث النبوي، وما للإسناد من أهمية في ضبطِ الحديث ورجاله وبيان درجته، لكن ما نقفُ قُبالته هو ضربٌ آخر للسند متمثلًا بسؤال مَن الذي يروي عن عيسى؟ إذ تبدأ مقامات الهمذاني مثلا جميعًا بصياغة واحدة تقريبًا وهي “حدَّثنا عيسى بن هشام قال”. نجهل من الذي يروي هنا هل هو الهمذاني أو شخصٌ غيرُه، الراجحُ هو الهمذاني لكن كونها مقاماتٍ مُتخيَّلة فإنَّ حقيقة الراوي هنا مثارُ شكٍ وتساؤل، وهي الضرب الأقوى لبُنية السند إذ الخبر يرويه مجهول لا يُعرف مما يجعل الخبرَ برمَّته عُرضة للتكذيب فلا يُعرف راويه ولا أخلاقه ولا صدقه من كذبه. وفي هذا يقول الحريري في خطبة مقاماته ” وعزا إلى أبي الفتح الإسكندري نشأتها، وإلى عيسى بن هشام روايتها، وكلاهما مجهول لا يُعرف، ونكرة لا تَتَعرَّف”. إذ يؤكد مجهوليّة عيسى بن هشام وأبي الفتح الإسكندري. والحريريُّ واعٍ أيضًا بخطورة ذلك في عصره، وفي اختلاق الحديث المكذوب فيقول في خاتمة كتاب المقامات “فأي حرج على من أنشأ مُلحًا للتنبيه لا التمويه، ونحا بها منحى التهذيب لا الأكاذيب؟ وهل هو في ذلك إلا بمنزلة من انتدب للتعليم أو هدى إلى صراطٍ مستقيم؟”. فهو يبرِّر لنفسه بأنَّ غايته من المقامات هي للتنبيه والتهذيب في منزلة المُعلِّم أو الهادي. بيد أنَّ السؤال المعارضَ هل نحن بحاجة إلى معرفة حقيقة هذا الراوي المتواري في فعلٍ واحدٍ “حدَّثنا” الذي يفسح المجال كلَّه لعيسى بن هشام كأنه هو الراوي الأول، وما المتلقِّي إلا واحدٌ من الجماعة التي كان يُحدّثها عيسى بن هشام. وهنا نجد أنَّ ثمة مقامة خفيّة، يجوز لنا تسميتها بالمقامة الإطارية تضم المقامات الأخرى أشبه ما تكون بالحكاية الإطارية. لا يدلُّنا شيء إلى المقامة الإطارية سوى جملة “حدَّثنا عيسى بن هشام قال”، والمقامة الإطارية تأخذ معنى “الحديث في الجماعة أو المجلس”، والمتحدِّثُ هو عيسى بن هشام والمستمعون هم من يروون عنه أو مِن بينهم مَن يروي عنه في حدَّثنا، وتضمُ هذه المقامة الإطارية المقامات التي رواها عيسى بن هشامٍ سواء في مجلسٍ واحد أو مجالس عدَّة. وهنا يبرزُ لدينا معنيانِ للمقامة المعنى القديم وهو الحديث في الجماعة والمعنى الاصطلاحي الذي شرعَه الهمذاني في مقاماته، وكلاهما موجود في كلِّ مقامة، إذ مقامات الهمذاني أولًا حديثٌ في مجلس، وثانيًا قصةٌ مسجوعة عن الكُدية براويةٍ وبطلٍ يتعارفان في نهايتها ثم يفترقان.

هذا مع الهمذاني، ولا يختلف الأمر كثيرًا مع الحريري إذ هو الآخر اتّخذ راويًا مجهولًا في رواية الحديث عن الحارث بن همَّام، وبدلا من جملة الاستهلال الواحدة تقريبًا “حدَّثنا عيسى بن هشام قال” عند الهمذاني، أخذت عند الحريري صيغًا مختلفة متنوعة بالأفعال “حكى، أخبر، روى، حدَّث، قال الحارث بن همَّام”. لمن حكى وأخبر وروى وحدَّث وقال الحارث؟ لا نعلم. لكن هذا المستمع هو الراوي الثاني بعد الحارث، وما يرويه يجري في مستوى سردي وزمني مختلف عن مستوى السرد والزمن الذي روى فيه الحارث أحداث مقامته، وهي الأخرى تجري في مستوى سردي وزمني آخر. يقول عبد الله إبراهيم4: “فإن الأفعال ’حدث، روى، حكى، أخبر‘ تحيل جميعها على الماضي، وتحمل في طياتها صوت راوٍ ينبعثُ منه موجِّها روايته إلى مرويّ له غائب لا يعرفُ أمره، وهذا يؤكد أنَّ الاستهلال إطار لا غنى عنه ينظم عملية الرواية والتلقّي معا، وهو في الوقت الذي يحيل فيه على راوٍ مجهول يُلمِّح أيضًا إلى مروي له مجهول يقع في مستواه نفسه في البنية السردية للمقامة […] وتؤكد صيغة الاستهلال التقليدية في المقامة “حدثنا… قال” التي رسخ وجودها الهمذاني، أنّ الراوي ينسب إليه حق رواية ما قال به راوٍ آخر، وفيما يغيب الراوية المجهول يظهر ذلك الراوي بوصفه شاهدًا على وقائع والأحداث التي يرويها… وصيغة الاستهلال تفتح أفقَ انتظار لنمط الوقائع التي تقترن بشخصية محددة الصفات، محددة الأفعال”. ويقول5: “تستدعي الجملة الاستهلالية كلَّ شيء من الماضي: الصيغة ماضية، والجملة الأولى على لسان الراوي المعروف تأتي بصيغة الماضي، والواقعة المستحضرة تاتي من الماضي. وهكذا يكشف ثلاثة مستويات زمنية في بُنية السرد، إذ تندرج كل رواية في سياق أخرى، فتتعدد درجاتها بداية من مستوى الراوي المجهول، مرورا بالراوي المعلوم، وانتهاء بفعل الشخصية” ويقول6: “وما صيغ الاستهلال التي ذكرناها إلا أقنعة يطلون على المروي له من ورائها ثم سرعان ما يختفون…” 

نستفيد من كلامه السابق ثلاث نقاط رئيسة: الأولى إنَّ الاستهلال إطار لا غنى مُنظم لعملية الرواية والتلقّي، والثانية يكشف الاستهلال عن وجود مستويات مختلفة على مستوى زمن الرواية ووقوع الحكاية (المقامة)، فالرواية تجري في زمن مختلف عن زمن الحكاية التي تجري أحداثها في زمن سابق لزمن روايتها، والثالثة اختلاف الرواة لأحداث الحكاية نفسها. (يصل عددة الرواة قي بعض المقامات التي يرويها السَّروجي إلى ثلاثة وهم السروجي والحارث والراوي المجهول، وتصل مستويات السرد والزمن إلى أربعة وهي زمن الحدث، وزمن رواية السروجي، وزمن رواية الحارث، وزمن رواية الرواي المجهول). 

تدعم هذه النقاطُ الثلاثة فكرة المقامة الإطاريّة التي تضمُّ في داخلها المقامات، إذ لها سمات الحكاية الإطارية التي تتميز، كما في كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة وقصص كانتربيري والديكاميرون، بأنها: 

١- الحكاية الإطارية مجرد حكاية تطغى فيها الغاية الفنية التجميعية الإطارية على باقي غاياتها، فيظهر دورها  كأنه التجميع لا أكثر. ولا ينفي ذلك غاياتها الموضوعية أو أو خصائصها الفنيّة أو السردية. 

٢- الراوي ليس جزءا من قصصه. إن من يقص هذه القصص مفارق لقصصه، فهو لا ينتمي إليها زمنًا ولا مكانًا وليس جزءًا من الحدث حتى. ووظيفته القص فقط.  

٣- القصص الداخلية هي الأساس. إن المقصد مثلا في كليلة ودمنة هي قصص الحيوان لا قصة الملك وبيدبا، لذا فإن مادة العمل الرئيسة تتمثل وتتركز في القصص المروية. 

ولنا في مقامات الحريري ما يعضدُ هذا على شقين موضوعي وأسلوبي. إنَّ مقامات الحريري الخمسين لا يوجد بينها رابطٌ يربطها فهي مختلفة الموضوع، وإنْ كان لها مقامة افتتاحية حيث التعارف بين الحارث والسروجي، ومقامة ختامية حيث توبة السروجي، لكن المقامات البقية هي قائمة بحالها ويُمكن قراءتها دون الحاجة إلى قراءة غيرها حتى نفهمها. أما أسلوبيًا فإنَّ الحريري في معظم المقامات يُعلي صوت الراوي المجهول ويُثبِّت وجوده، على العكس من الهمذاني الذي حصر صوته في الجملة الاستهلالية، فنقرأ في مقامات الحريري صوت الراوي المجهول بصيغٍ ثلاث: قال المخبر بهذه الحكاية (المخبر: هو الحارث)، قال الراوي (تكرارها أكثر من مرة كما في المقامة النصيبيّة)، قال الحارث بن همَّام. في هذه الصيغة الثلاثة المبثوثة في جسد المقامات، ما عدا الاستهلال، تأكيدٌ أنَّ الحارث كان في “مكانٍ ما” يروي “مقاماته” أي إنَّ روايته هي المقامة الإطاريّة التي روى فيها لسامعين مجهولين، ينتمي إليهم الراوي المجهول، مقاماته الخمسين، ولا نعلم إن كان في مجلس واحد أو مجالسَ عدة. لا يهمنا كثيرًا ذلك أكثر من وجود هذه المقامة الإطارية الخفيّة التي تضم بين لابيتها المقامات الأخرى، وإن لم يكشف الحريري والهمذاني عنها في النص فإن في الجملة الاستهلالية وإعلاء صوت الراوي في داخل المقامة تأكيدَ وجودها.

  

هوامش: 

1- فن المقامات في الأدب العربي – ص221.

2- معجم الأدباء، الأديب رقم 906، القاسم بن علي بن محمد الحريري. 

3- فن المقامات في الأدب العربي – ص228.

4- موسوعة السرد العربي – عبد الله إبراهيم. ج2، ص 282.

5- المصدر نفسه – ص280.

6- المصدر نفسه – ص279. 

 

المصادر والمراجع: 

 

المصادر: 

1- مقامات الحريري

2- مقامات الهمذاني 

3- سير أعلام النبلاء – الذهبي

4- معجم الأدباء – ياقوت الحموي

5- وفيات الأعيان – ابن خلكان 

 

المراجع: 

1- فن المقامات في الأدب العربي – عبد الملك مُرتاض 

2- موسوعة السرد العربي، ج2 – عبد الله إبراهيم 

    

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى