غارغانتوا وبانتاغرويل – فرانسوا رابليه
حين تتناهى إلى مسامع المرء لفظتا غارغانتوا وبانتاغرويل -بمقاطعهما الصوتية المتعددة- يحسب نفسه أمام ماردينِ جبَّارينِ، أو وحشين من وحوش البحار التي كانت تُهاجم البحَّارة والمغامرين في النصوص القديمة، أو إلاهين أسطوريين كبقية الآلهة التي تعجُّ بها أساطير الأمم الغابرة. لا خطأ في هذا التخمين فإن عتبة العنوان توحي لنا بذلك أو ما هو قريب منه، بيد أنَّ الفرق الأول والرئيس مع غارغانتوا وبانتاغرويل أنهما ليس بالماردين الجبَّارين الظالمين ولا وحشين يلتهمان الكائنات الأخرى بل هما عملاقان طيَّبان مرحان لا يرغبان إلا بالحياة لكن حياة خاصة قوامها البهجة والفرح والسِّلم والمرح والأكل والشراب واللعب والمزاح والضحك والتسالي، حياة سعيدة سعادةً دنيويّة فلا يسع المرء معهما إلا أن يبتهج ويضحك مُقهقهًا، وإذا ما غصَّ بطعامه وشرق بشرابه من فرط البهجة وعدم تمالك النفس من شدِّة الضحك فلن ينزعج مُبدع هذين العملاقين، فقلمه يكتبُ للضحك. لكم أيها السادة الأشراف ولكم أيها الصعاليك معاقري الخمر، للأصحاء والمرضى، للمبتهجين والمكتئبين، نذر رابليه قلمه ليُدخل البهجة إلى القراء، وليقارع بالسخرية المُتعلمين والرهبان والعلماء والقانونيين والفلاسفة والمؤرخين. أين يُوضع رابليه جرَّاء كلَّ هذه الجبهات التي فتحها في كتبه حين سخر من الدين والقانون والعلوم؟ كان رابليه ابن عصره الساخر والمُتندِّر، ففي السخرية تكمن روحه ويسكن قلمه، وفي الإضحاك من الواقع وتعريته يجد نفسه قد أمدَّ القارئ بكل المباضع ليشرِّحه معه ويُبيِّنَ عواره. ولا يعني هذا أنَّ رابليه كان بريئًا تمامًا في مساعيه أو رحيمًا مع خصومه، إذ أبدى في كتبه أقذع أنواع الهجاء والازدراء وما ترك شيئًا يعتب عليه حتى القراء ينالهم شيء من هجائه وسخريته لكنها سخرية حذقة ذكية ذات حمولة لغوية كبيرة وتلاعب بالألفاظ والكلمات. عرف رابليه قوَّة اللغة وما يُمكنها أن تفعل، فوجودنا يقوم على اللغة وباللغة يُبنى ويُدمَّر. ارتبط سلاح اللغة بالضحك والإضحاك، فجاءت كتب رابليه كاشفة عن قوى الكلمة، ومُبيِّنةً فلسفته الحياتية، فالضحك عند رابليه هو سمة الإنسان، وما يميزه عن الحيوان، فإذا ما أراد أن يجرد شخصا من إنسانيته وصمه بالعابس أو الواجم Agelast.
قدَّم رابليه في سيرة بطليه العملاقين غاراغانتوا وبانتاغرويل رؤية مختلفة للواقع، لأنه رسم عالمًا مليئًا بالتضخُّم والجسامة وفي ذات الوقت مضطرب الأبعاد ويكاد المنطق السردي فيه يبدو مفككا لكنه تفكَّكَ بانسجام مع غرائبية النص، فهو لا يبحث عن المعقول بل غير المعقول، لذا فالنص في حد ذاته يحكمُ بأحكامه ويجري وفقًا لمنطقه الخاص الذي ليس بالضرورة أن يكون مقنعًا أو صارمًا في ذاته، وهذا ما يبدو في بعض الفقرات من الكتب ولا يمكننا أن نطلق أحكامًا جازمة على هذه الهفوات السردية (سأمرُّ عليها تاليًا). يصف د. عبد الله إبراهيم في كتاب “الإرشيف السردي” هذا الحال فيقول “المنطق السردي لأفعال غارغانتوا وبانتاغرويل يحقق مضمونه وسط تهريج يقرب من الفوضى الباعثة على تشويش يراد منه السخرية بمزيج من الترحل والتضخيم”. هذه الفوضى المُشوِّشة هي سمة العمل، فثمة غايتان بارزتان من الكتابة عند رابليه هما السخرية والنقد اللاذع، ولا يهم كثيرًا الوسيلة للوصول إلى هذه الغاية ولا الرابط العقلي لجمع أشتات النص وضبطها بما يتوافق مبدأيًا مع إمكانية تحقُّق النص في الواقع. يصل التعارض بين ما صُوّر من أحجام العملاقين على سبيل المثال وبين آلية التواصل السمعي واللفظي مع الآخر والبيئة بكل ما فيها من عمران وآلات ومخلوقات- إلى حد التنافر الذي يجعل النصَّ غير ثابتٍ ضمن عالم محدد الملامح، لكننا رغم علمنا بالفجوة نستمر في التغاضي عن وجودها، فهي موجودة وغير موجودة، لأننا نتعامل مع نصٍ يضرب في عرض الحائط العقلانية تمامًا، فليس هنا سوى الضحك والسخرية والمفارقة والتناقض والتهكم والهجاء، ولا مجال للاكتراث للعقل والواقع إذا ما تعارضا مع الغاية التي كُتبَ النصُّ لأجلها.
*
ترك رابليه وراءه إرثًا أدبيًا ولغويًا كبيرًا جعلت من اسمه واسمي شخصيتيه صفاتٍ لها معنايها في اللغة والاستعمال اليومي فنُسب إلى اسم رابليه، الذي اقترن بالأضحوكة والطُرفة والسخرية والتهكم، صفةُ رابليهيّ الدالة على كلِّ ما يُعبِّر عن الفعل المُضحك والسلوك الساخر أو والأسلوب المتهكم ويشمل الأمر كان الرسوم الساخرة (كاريكاتير). أما غارغانتوا فقد سماه به أبوه بعد أن سمع صراخه أول ما خرج من أذن أمه وهو يقول “تعال اشرب، اشرب” أو “الشراب”، فقال الأب “Que-grant-tu-as” “ما أعظمها!” يقصد حنجرته. وغارغانتويّ صفة تدل على الضخامة وكبر الحجم. وسُمّي بانتاغرويل ابنُ غارغانتوا بهذا الاسم المكون من لفظتين تعنيان معا “الكل عطشى”، فكلمة بانتا من الإغريقية Panta وتعني الكل، غرويل Gruel من الهاجريّة وتعني عطشى. (الهاجريون “نسبة إلى هاجر زوجة إبراهيم عليهم السلام” أو “أبناء الأغيار” اسم أطلق على العرب الذي فتحوا بلاد الرافدين والشام ومصر في الأدب المسيحي، ولم أعثر على لغة تُسمى اللغة الهاجرية، وفي الغالب أنها من اختلاق رابليه). وسبب التسمية أنه وُلدَ حين ضرب العطش إفريقيا بعد أن انقطع عنها الغيث ستة وثلاثين أسبوعا. ومعنى بانتاغرويل الاصطلاحي فقد بيَّنه الراوي في الكتاب الأول “هو أن تعيش في سلام، وسعادة، وصحة، وفي مزاج مبتهج على الدوام ولا تثق أبدا بالناس الذين يحدقون إلى الهاوية (الوشاة أو مراقبو ذواتهم)”.
أبان رابليه عن مقدرة لغوية عالية وملكة مفردات هائلة برزت في التلاعب بالألفاظ ونحت الجديد منها واستخدام دلالات مستحدثة لها، واستخدم أسلوب القوائم في السخرية من عناوين الكتب، وتدوين قوائم عريضة متتالية من الصفات، والأفعال، والشتائم، والتشبيهات، كأن يعدد كل أجزاء جسد بعض الشخصيات الداخلية والخارجية ويشبهها بشيء آخر، كما أحيا الأقوال الكلاسيكية الإغريقية واللاتينية وبعثها في اللغة الفرنسية. هذه عينة من أثر كتاب رابليه في اللغة الفرنسية والتعبير اللغوي عموما، وما تركه فيها من كلمات وصفاتٍ وليتبيَّن ما يُمكن للغة أن تفعله وما بمقدور الأديب أن يُقدِّمه، وعن قوَّة الخيال حين يُخضع الواقع له، ويصيِّره له تابعًا يتحكم به وإنْ في عالم مكتوب على الأوراق بادئ ذي بَدْء ثم يتسرب إلى الواقعِ شيئًا فشيئًا مُشيدًا قلعته المجيدة والراسخة.
*
رابليه عبقري الأدب الساخر
لعبت حياة رابليه دورًا بارزًا في تشكُّل رؤيته الفكرية والأدبية وانصبَّت واضحة في غارغانتوا وبانتاغرويل، بدأ حياته العلمية بدراسة القانون في بواكير القرن السادس عشر، قبل أن يتحول إلى الدراسة اللاهوتية في دير فرانشسكيّ قبل أن يضيق ذرعًا بمنهجهم الضيَّق، ووجدَ في الحركة الإنسانوية، التي تُعنى بالعودة إلى المخطوطات الكلاسيكية الإغريقية واللاتينية ودراستها، تحررًا وجدَّة بعكس ما يراه من حوله. لينتقل بعدها بعفوٍ من البابا إلى الدراسة في دير للبيندكتيين. بحلول عام 1530 قرر رابليه ترك الدراسة اللاهوتية، والتوجه لدراسة الطب في جامعة مونبيليه، وأبدى اهتمامًا بكتابات غالين وهيبوقراطيس وترجم بعضها، وحظي منذ عام 1536 بلقب الطبيب والأب رابليه واشتهر على نطاق واسع ووُقِّر لمعرفته في الطب والقانون. كان لهذه التنوع في المشارب المعرفية والعلمية ما بين القانون واللاهوت والطب وقراءات كتب الفلاسفة والأدباء السابقين- أثرٌ بالغُ الوضوحِ في رابليه وكتاباته وفي نقده لكل ما عاصره وشاهده ومَن اختلطَ بهم وعرفهم، وما وجدَ من بُدٍ إلا تصوير عصره لكن بروحٍ مليئة بالسخرية والهجاء. تأثَّر رابليه بالحكمة والمعرفة والفلسفة الإغريقية، وبإيراسموس، اللاهوتي والفيلسوف الهولندي الذي أطلق عليه “أبي الروحي وأمي الروحية”، كما تأثر بتوماس مور الإنجليزي وكتابه “يوتوبيا”، وبلوقيانوس السميساطي وكُتبه حتى لُقِّبَ بلوقيانوس الفرنسي. ونلاحظ التأثُّر في هؤلاء في كتبه الخمسة سواء بمعارضة الأقوال التي كان يُوردها إيراسموس في كتاباته أو تسمية موطن عملاقيه بيوتوبيا أو اقتفاء أسلوب لوقيانوس الساخر لا سيما في كتابه “تاريخ حقيقي”، الذي يدور موضوعه في السفر بين الجزر كما هو الحال في كتابي رابليه الرابع والخامس.
ظهرَ كتابُ رابليه الأول في عام 1532 بعنوان “الأفعال الرهيبة والشجاعة الفظيعة للمبجل الشهير بانتاغرويل، ملكُ بلاد ديبسودي، وابن العظيم العملاق غارغانتوا. تأليف المحترم ألكوفريباس ناصير Alcofrybas Nasier (إعادة ترتيب لاسم فرانسوا رابليه)”. اضطربت باريس بالشغب الديني عندما كان يكتب رابليه كتابه الثاني، غارغانتوا، وفرَّ إلى ليون عام 1535 بعد نشره بقليل. حظيت كتبه باستحسان العامة لكنَّ شُجبت من كلية السوربون، معقل اللاهوتيين حينئذ، والتمست من البلاط السامي الفرنسي حظرَ كتبه لفحشها، بيد أن رابليه لم يكن بلا رعاة وحماة إذ حظي بحماية وتشجيع ملوكه، ومنحه الملكان فرانسوا الأول وهنري الثاني امتيازا مطلقا، وأهدى رابليه كتابه الثالث إلى مارغريت، ملكة نافارا، وكتب كلمة شكر في مقدمة كتابه الرابع إلى الكاردينال دي شاتيون الذي منحه امتيازا مطلقا في نشر كتاباته، وهكذا ابتدأ صراع طويل بين رابليه وخصومه في السوربون الذين ما ادخرًا جهدًا لمحاربته وحظر كتبه.
انقطع رابليه عن نشر الجديد من مغامرات عملاقيه نحو عقدٍ من الزمن حتى نشر كتابه الثالث في عام 1546، وحملَ عنوان “صنائع النبيل بانتاغرويل البطولية وأقواله”، العنوان الذي ظهر في الكتابين الرابع والخامس أيضًا، أما اسم المؤلف فقد كُتب اسم رابليه الصريح أول مرة على واجهة الكتاب الثالث: تأليف المحترم فرانسوا رابليه، الدكتور في الطب والراهب المبجّل. (كان قد سافرَ مع الكاردينال دو بيلي إلى روما عام 1535، حيث مُنح غفرانًا من البابا وعاد إلى فرنسا ليكون راهبًا علمانيًا وطبيبًا). استمرت معاناة رابليه فاضطُرَّ للفرار إلى ميتز الألمانية بعد نشره الكتاب الثالث عام 1546، في سنواتٍ شهدت تصاعد التعصب الديني ووفاة اثنين من أهم داعميه المتنفذين لكنها كانت أيضًا السنوات التي بلغ فيها رابليه أوج شهرته حتى بواكير العقد السادس 1550. وبفضل الداعمين الآخرين استمرَّ رابليه بالكتابة والنشر، حاولت الرقابة حظر كتابه الرابع الذي نُشرَ في عام 1552 لكنها فشلت. تُوفي رابليه بعد سنة من نشر كتابه الرابع في ريو دو جاردين، باريس عام 1553، بيد أنَّ هذه الوفاة لم تُوقف سلسلة كتبه عن الظهور ولا الرقابة عليها، فصنّف مجلس ترينت Council of Trent رابليه عام 1562 ضمن أصحاب الكتب المحظورة ووصفوه بأنه “مهرطق من الدرجة الأولى”. بقيت كتب رابليه محتفظة بقرَّائها ونهمهم للجديد منها، فظهرَ في عام 1564 الكتابُ الخامس من سلسلة غارغانتوا وبانتاغرويل، وكان إكمالا لرحلة بانتاغرويل ورفاقه في البحر التي بدأت في الكتاب الرابع. يذهب بعض الدارسون إلى أن هذا الكتاب نُسب إلى رابليه، وبعضهم إلى أنه كُتب استنادا إلى أوراق خلّفها رابليه وراءه، رغم أنه لم يوجد ولا سطر واحد مكتوب من هذه الأوراق المزعومة.
*
تكمن أهمية كتب رابليه في أنها قطعت الصلة مع آداب القرون الوسطى وعالم الفروسية، وفي مساهمتها بالتأسيس لفن الرواية الأوروبية الحديث، الذي حُدِّدت انطلاقته الرسمية مع سرفانتس وروايته دون كيخوته المنشورة ما بين 1605-1615، وفي أنها مزجت ما بين نقد المعارف الكلاسيكية والمعاصرة وبين المحاكاة الساخرة اللاذعة المُقذعة والمضحكة والماجنة من الواقع والأدب الفروسيّ والكلاسيكيّ، وفي تبني رؤية دنيويّة مركِّزة على الملذات والشراب والطعام التي تطفحُ بها فصول كتبه جعلت بعض الدارسين يصف رابليه بالملحد بالإضافة إلى تهكمه وسخريته من الدين والكنيسة ورجالاتهما. يتحدث كونديرا عن روايات رابليه واصفا إياها بأنها “معجزة لا مثيل لها، كتبت في وقت كان فن الرواية فيه لم يؤسس بعد بوصفه فنًا قائما بذاته”. وقد تأثَّر بها لفيف من الأدباء اللاحقين ولولا صعوبتها اللغوية وخاطبها الذي قد لا يفهمه حقَّا إلا معاصرو رابليه لكان لها شأن آخر، ونلاحظ صدى رابليه لدى جويس وروايته يوليسيس. ليستحق عن جدارة لقب “عبقريُ الهزل في فن الرواية”.
*
غارغانتوا وبانتاغرويل في خمسة كتب
تدور روايات رابليه حول شخصيتي العملاقين غارغانتوا وابنه بانتاغرويل ومغامراتهما لا سيما بانتاغرويل، وتتبَّعُ حياتيهما منذ الولادة مرورًا بسنوات الطفولة والتعليم والبلوغ النضج ثم المغامرات والوقائع المختلفة التي تجري لهما. تبدأ السلسلة بالرواية الأولى عن بانتاغرويل الذي وُلدَ لأبيه وقد بلغ من العمر 484 عامًا من زوجته باديبيك، ثم سرد طفولته على غرار حكايات الأبطال والفرسان ثم سنوات تعليمه وشبابه وسفره إلى باريس للتعلُّم حيث عاش وتعرَّف على بانورج المحتال، رفيقه ومريده الأمين، ثم مغامراته ومعاركه في أرض العماوريين (ليس العموريين). ينتمي بانتاغرويل إلى سلالة العمالقة التي تعود إلى زمن نبي الله نوح عليه السلام، وأثبت الراوي نسبه فيها منذ الأب الأول مثلما ذُكرَ نسبُ ملوك العهد القديم. والحال نفسه مع أبيه غارغانتوا ابن العملاق غراندغوزيه وغارغاميلا الذي دام حمله في بطن أمه أحد عشر شهرًا ووُلدَ من أُذنها، وقال أول ما خرجَ للحياة “الشراب”. لا تختلف حياة غارغانتوا كثيرا عن حياة بانتاغرويل لا سيما في فصول النشأة والتكوين والسفر إلى باريس للتعلم والمعيشة قبل العودة إلى بلاد أبيه، يوتوبيا، لصد اعتداءات بيكروتشول وهزيمته.
تتنوع المواضيع المطروحة في ثنيات فصول هذين الكتابين، والمحاكاة الساخرة، والهجاء اللاذع، والطرف المُضحكة، والمقالب، والوقائع، والسخرية من الفلسفة ونصوص الأدب القديمة واللاهوت والقانون والعلم ورجالاتها، والتلاعب اللغوي بأقوال الفلاسفة والعلماء وبنصوص الكتاب المقدَّس، إضافة إلى المحاكاة اللغوية المضمَّنة في كلِّ هذا. تندرج هذه الأحداث في عالم قائم على الضخامة والمبالغة في معظم المذكور تقريبًا، لا سيما وهو مرتبطُ بعملاقين كبيرين نهمين للطعام والشراب. تتدفقُ الأعاجيب والأحداث التي تتجاوز حدود المعقول والمنطق في بناء عالمٍ خاص بها كما في الحادثة التي أخرج بانتاغرويل من ضرطته، سببت هزّة أرضية على مسافة تسعة فراسخ ولوّثت الهواء، عشراتِ الآلاف من الرجال والنساء، وانتصاره على الديسبوديّين وهزيمته عمالقتهم وملكهم أنارك، وإغراقه الجيش ببوله الذي سبب طوفانا، أو في إنقاذ بانورج لإيبيستيمون بعد أن انقطع رأسه عن جسده. (زار إيبيستيمون العالم السفلي أثناء موته ورأى شخصيات عديدة وخرج بمغزى أن الأحوال تنقلب على النقيض في العالم الآخر فمن كان شريفا في الدنيا صار رذيلا في العالم الآخر والغني فقيرا والعكس كذلك. سخرية من النزول إلى العالم الآخر في النصوص الملحمية القديمة). أو في نهاية الكتاب عندما ظهر الراوي نفسه والتقى بانتاغرويل ودخل عبر فمه إلى جوفه الكبير حيث وجد عالمًا كاملًا. تبدو بعض الفصول غير مفهومة تمامًا أو إلى حدٍ ما لكنها معروفة المقاصد كما في القضية الغامضة والمستعصية الفهم على القضاة بيد أنَّ بانتاغرويل استطاع أن يحلها ليشتهر بالفلسفة والحكمة، وفي هذه سخرية صارخة من الفلسفة والقانون في عصره، ويبلغ الأمر أوجه عندما أتى العلامة الإنجليزي ورغب بمناظرته فناظره بانورج بالإشارة والجسد، بلغةٍ أشكُّ أنَّ رابليه نفسه لا يفهم ما يكتب فغايته ليست الإفهام بل التندُّر والتفكه من كل ما رآه وعاصره، وهزمَه جاعلًا العلامة يعترف ببراعة بانتاغرويل ومعرفته الجليلة رغم أنه لم يُناظره، استنادًا إلى مبدأ إذا كان المريد هكذا فأكبرْ برفعةِ حكمةِ المُعلم. نرى الضخامة ودورها أيضًا في تشكيل العالم المحيط بها مع غارغانتوا وحجمه الكبير جدًا وأبعاد ثيابه وكميات طعامه المهولة وفي حجم مُهرته الكبيرة التي راح ممتطيًا إياها إلى باريس، أو في المعركة ضد بيكروتشول وكيف أنَّه رأى في كرات المدفع حبَّات عنبٍ قبل أن يُدمِّر صفوف العدو وحصونه، ويكلل رحلة العودة إلى الديار بالنصر في معركة ابتدأت بسبب كيك fouace، الذي ابتدأ بين الفلاحيين والطباخين وانتهى إلى صراعٍ دمويّ بين ملكي البلادين المتجاورتين، حيث عُرضت فيها أطماع بيكروتشول على نحو ساخرٍ جدًا من طموح الملوكِ بالنصر وسيادة الأرض، في حالٍ أشبه ما يكون بحكاية الناسك صاحب جرة السَّمن والعسل.
*
يلتقي بانتاغرويل في الكتاب الأول ببانورج المحتال الذي كان سجينا عند الأتراك، ولقاؤهما واحدٌ من أمتع الفصول حين أراد بانورج أن يعبِّر عن جوعه لكنه يذكر ذلك بلغاتٍ متعددة منها الجرمانية والهولندية والإغريقية واللاتينية والإسبانية والعبرية الدنماركية في ذهول واستغراب بانتاغرويل ورفاقه الذين لم يفهموا منه الكثير حتى تحدَّث بالفرنسية، فتبدأ صحبة الاثنين أو تبعية بانورج لسيده بانتاغرويل. تلعب شخصية بانورج دورًا رئيسًا في السلسلة، وهي بالأحرى الشخصية الثالثة المهمة بعد بانتاغرويل وغارغانتوا. يقع على عاتق بانورج وعلى نحوٍ أقل الراهب فرير جان السيطرة شبه المطلقة على بيئة الضحك والسخرية والفحش اللفظي والبذاءة والتجديف والتهكُّم والتندُّر في أحداث الكتب الخمسة. ووجود بانورج كفيل بأن يفتح باب الضحك على مصراعيه، وهذا ما كان في الكتاب الثالث الذي شغلَته قضية بالغة الأهمية وهي هل يتزوج بانورج أو لا؟ ومدى احتمالية تحوُّله إلى ديوث بعد زواجه وخيانة زوجته له؟ ليبدأ بانورج رحلة البحث عن جواب هل يتزوج مع خوفه من أن يصبح ديوثا فطلب النصح من بانتاغرويل الذي يرشده إلى: استخارة باستخدام النرد وربط الأعداد الناتجة بالأبيات الهوميريّة والفيرجيليّة، ثم استخارة عن طريق الحُلم، ثم استخارة عرافة بانزوست، ثم استنصاح الأصم نازديكابر، ثم استنصاح الشاعر راميناغروبس، ثم استنصاح إيبيستيمون، ثم استنصاح العراف تريبا، ثم استنصاح فرير جان، ثم استنصاح ثيولوجي وطبيب وقانوني وفيلسوف، ثم استنصاح أحمق قبل قرار الإبحار إلى جزيرة القارورة المقدسة والحصول على كلمتها للبتِّ في هذه المسألة. لا تكمن أهمية الكتاب الثالث في الوصول إلى جواب بل في هذا السبيل إلى الجواب إذ يتشعَّب إلى حقول معرفية متعددة من منطق وفلسفة وأخلاق ولاهوت وتاريخ وطب واستقراء لطبيعة النفس البشرية، ولا ينعدم الفحش اللغوي في كل هذا فيضفي على النص الحسِّ الهزليّ والمتهكِّم من كل شيء.
*
يُكمل رابليه في الكتاب الرابع ما قرَّره بانتاغرويل وبانورج في زيارة جزيرة نبوءة القارورة. لتبدأ رحلة طويلة بين جزر البحر مليئة بالمشاهدات الغريبة والعجيبة، في محاكاة لأدب الرحلة والتيهان في البحر على نحوٍ تهكمي في فصولٍ كثيرة ولا يعدم التعريضِ بالكنيسة والبابا كما في جزيرة بابيمانيا التي يظنّ سكانها أن البابا هو “الإله في الأرض” فيكرمون وفادة بانتاغرويل وصحبه لأنهم رأوه فحسب، ثم يستضيفهم أسقف الجزيرة. لا تخرجُ الغرائب والعجائب من الإطار الهزليّ والساخر كما في محاكاة أهوال البحر في الأوديسة، ويظهر بانورج جبانًا بسبب العواصف، وبعد انتهائها ينقلب حاله ويتظاهر بالشجاعة ويتكلم عكس ما وقع متحديا فرير جان الذي قرَّعه توبيخًا، دون أن يفقد حيله ومكره ومقالبه كما في حادثة إغراق الماشية والرعاة في عرض البحر. يبلغ الحدث قمَّته الهزليّة في جزيرة إيلي فاروتش والمعركة مع التشيدلنغ “النقانق” (مخلوقات نصفها بشري ونصفها نقائق)، التي يقتحمها فرير جان والطباخين معه داخل “الخنزيرة الخشبية” على غرار حصان طروادة، وقُبيل القضاء عليهم تماما ينزل من السماء إلههم الخنزير المجنح الذي يشفي الجرحى ويحيي الموتى بالخردل. هكذا تستمر الرحلة من جزيرة إلى أخرى ومن عجيبة إلى أختها، وينتهي الكتابُ قبل أن يصلوا إلى وجهتهم. ليأتي الكتاب الخامس بعد اثني عشر سنة ويُكمل الرحلة في البحر، وهي لا تختلف كثيرًا عن الكتاب الرابع إذ حبكتها في التنقل بين جزر البحر ومشاهدة عجائب المخلوقات لكنها أكثر تفرُّدًا بعجائبها في هذا الكتاب كما في الجزيرة المجلجلة ذات الطيور، وهي بشرٌ متحولون، أو جزيرة أشجار الأدوات والآلات كالسيوف والمناجل وما شابه، أو جزيرة مملكة كوينتيسينس التي تشفي المرضى بالغناء، أو جزيرة الطرق الذكية العارفة بمساراتها ووجهاتها، إذ يكفي المرء أن يقف على الطريق حتى يجد نفسه قد وصل إلى وجهته. يصل بانتاغرويل ورفاقه بمساعدة السيدة السيدة لانتيرن “المشكاة” في الختام إلى جزيرة نبوءة القارورة، ويلتقون بالأميرة باكبوك، التي تأخذهم إلى معبد القارورة المقدَّسة العجيب، ويشغل وصفه عدَّة فصول، قبل أن ينال بانورج الكلمة من النبع داخل المعبد، وكانت الكلمة “شراب”، وهي كلمة في مديح الخمر وأن الغاية هي الشراب (الخمر) لا الضحك. ليغادروا الجزيرة وينتهي الكتاب والسلسلة معه.
*
اعتمد رابليه على راوٍ عليم داخلي في رواياته بيد أنّ العالم السرديّ يختلُّ في بعض الفصول، فنرى أنَّ الراوي يلتقي بشخصياته دون تحديد الكيفية الممكنة لهذا اللقاء، كما حدث في الكتاب الأول حين تحدَّث مع بانورج، وفي نهايته حين يرى الراوي شخصياته على نحوٍ يوضِّح مراقبته إياهم، ثم يقتحم النص بتسلِّقه جسد بانتاغرويل العملاق ودخوله إلى جوفه، ثم حديثه مع بانتاغرويل الذي يُخاطبه باسمه “ألكوفريباس”، مما يعني أنَّه يعرفه سلفا، دون حاجة الراوي ألكوفريباس إلى أن يُعرِّفه بنفسه. يتكرر مثل هذا الحضور في الكتاب الثاني حين يورد الراوي معلوماتٍ في حديثه عن طفولة غارغانتوا استقاها من إحدى مربيات العملاق الصغير. يستقر العالم السردي في الكتاب الثالث. ويعود الراوي في الكتاب الرابع للظهور شخصيةً داخلية بحضورٍ مقتصر على السرد من داخل النص مستخدما الضمير “نحن”، و”نا الفاعل” في سردٍ جماعيّ مثل كنا، غادرنا… أما في الكتاب الخامس فإن الراوي شخصية لها حضورها في الحدث وله حوارات مع بعض الشخصيات، ويصبح النص في أحيان كثيرة سردَ مشاهداته في تغييبِ بقية الشخصيات كأن الرحلة رحلة فردية لا جماعية. كما لا يُعدم الخطاب المباشر للقراء في بدايات بعض الفصول أو تعليقاته على الوقائع، ويعي الراوي في بعض الفصول الفوارق المهولة في حجم عملاقيه التي تمنع أي إمكانية تواصل بالحديث المباشر أو الاجتماع في مكان واحدٍ، كما في الكتاب الخامس حين أشار إلى ضخامة جسد بانتاغرويل وأن من يريد التحدث معه بحاجة إلى سُلّم حتى يصل إليه. كُلُّ هذه الأمثلة تدل على عدم ضبط رابليه للأسلوب السردي الذي اعتمده وتركه غير منضوٍ في أطار فنيّ ثابتٍ، لكنها تدل أيضًا على عمله في إبداعِ أسلوب خاصٍ به يجمع به بين البراعة الفنيّة والموضوعيّة.
*
لماذا نقرأ رابليه
قادني مشروعي في قراءة نصوص التراث الأدبي الإنساني إلى كتب رابليه، لكن على صعيد القرَّاء العام فإن كتب “غارغانتوا وبانتاغرويل” قليلة القراءة، ويُضيِّع القارئ العادي على نفسه هكذا إبداع أدبي. لا تقتصر أهمية هذا النص في قصَّته لأن عالم رابليه يُدخلنا حقولًا معرفية وفكرية وفلسفية ولاهوتية وتاريخية ومنطقيّة. ولا يُمكن تصنيف نص رابليه ضمن الحقل الأدبي فحسب فهو يقدِّم رؤية كاملة لوَّنها بخبراته المعرفية والحياتية، فالقارئ إن لم يُعجبه فصلٌ فلا شك أن ثمة آخرَ سيشدُّه للقراءة. فضلًا عن الطُرف المضحكة والأحاديث الساخرة والشتائم والأوصاف الفاحشة التي رغم كلَّ بذائتها تبقى محتفظة بطرافتها ومقدرتها العالية على إضحاك القارئ، ومن ذا الذي لا يضحك عند القراءة لرابليه؟ ليس إلا ذاك الذي وصفه رابليه بالعابس، قاصدًا تقويض إنسانيته فالضحك كما أشار سمة الإنسان الدالة عليه وملكيّته. إنَّ الحسَّ الفكاهي عند رابليه عالٍ جدًا بل لا تكاد صفحة أو واقعة في كتبه الخمسة لا تضم سطرًا أو قولًا أو وصفًا أو فعلًا يجعل القارئ يبتسم أو يضحك أو يروِّح عن نفسه. ليلتقي هذا الشعور المبعوث في ذات القارئ مع غرض رابليه في الكتابة، إذ بيَّن في مقدمة الكتاب الرابع ذلك فقال إنه “لو أستطيع أن أعالج كل المكتئبين واليائسين والمرضى لما كان من حاجة لكتابة ونشر الكتب”. وفي موضع آخر يقول “أكتب للمرح والترويح لا لطلب المجد ولا نيل الثناء، وكل ما أريده أن أمنح المرضى بعض الراحة”. يجتمع في نصِّه الجِدُّ والهزلُ والفائدة والمُزحة والعبرة والموعظة، فهو نص يقوم على معارضة الواقع على نحوٍ متهكم ساخر وأحيانا فاحشٍ داعرٍ. تمنحنا القراءة لرابليه جُرعات شعورية حاثَّة على الضحك والسخرية والاستهزاء والتهكُّم على كلِّ شيء في هذه الحياة تقريبًا، فهو يُحيي في القارئ الحيويّة الساعية نحو البهجة والفرح والجذل، ولا يعني بالضرورة اقتفاء أثر رابليه في كلِّ أقواله وما فعلته شخصياته في الكتاب فهي تأخذ أحيانا منحنًى منفلتًا عبثيًا تماما هو حقيقٌ بالقراءة فقط. ويثير فينا رابليه تلكَ الروح الشيطانية المتمردة، يزعزع فينا الجمود والعبوس والجديّة المفرطة، فتتحول الطرفة معه من وسيلة إلى غاية ويصبح الضحك متنًا للسلوك لا هامشٌ فيه لكن ضمن حياة بانتاغرويليّة حيث الفرح والبهجة والابتعاد عن منغِّصاتها. ولا تستقيم الحياة البانتاغرويليّة إلا بشرطها الغارغانتويّ متمثلًا بالطعام والشراب، والشراب هنا هو الخمر بالتحديد. تقول الكاهنة السامية، الأميرة باكبوك، بعدما تلقَّى بانورج كلمة القارورة المقدسَّة ’شراب‘: “إنَّ في الشراب ملكيّة الإنسان لا الضحك”، في معارضة لمنهج رابليه في كتبه في إنَّ “الضحكُ ملكيّةُ الإنسانِ”. تلقَّت هذه الحياة البانتاغرويليّة الغارغانتويّة التي بشَّر بها رابليه نقمة الرقابة وكالَ له مبغضوها الإساءات وافتروا عليها بالاتهامات، لكنَّهم وكما يقول “رأيتهم بعيني يقرأونها في السر حين كانوا يهاجمونها في العلن”.
تعليق واحد