التراث الأدبيالتراث العالميالتراث العربيمقالاتمقالات أدبية

الفرس الطائر من شهرزاد إلى تشوسر 

تتأثر آداب الأمم المختلفة ببعضها، وترتحل النصوصُ بين البلدان مكتوبةً أو على الألسن، فتتلاقى الأفكار وتتلاقحُ مُبدعةً أخرى جديدة أو مقلِّدة الأصل ومعيدةً إنتاجه في قوالبَ وصيغٍ جديدة. ولا يغيِّر ذلك من أهمية النصوص الأصلية، أو تلكَ التي أضحت أصليةً بفقدان الأصل الحقيقي، في كونها نصوصًا أدبية مؤسِّسة ساهمت في إنضاج المِخيال الأدبي الرفيع والشعبي على حدٍ سواء، وإنْ توارتْ قليلًا خلف النصوصِ المُقلِّدة. من بين هذه النصوص التأسيسيّة الأصلية قصصُ ألف ليلة وليلة. تعود أقدم مخطوطات قصص ألف ليلة وليلة بنسخها المتداولة اليوم إلى النصف الأول من القرن الخامس عشر (1440م) لكنها أقدم بذلك بكثير، ويرجعُ تاريخُ أولُ إشارة للقصص في كتب العرب إلى القرن العاشر الميلاد (النصف الأول من القرن الرابع الهجري). وبفضل دولة الإسلام في الأندلس فقد أضحتِ الأخيرة بوابةً لأوروبا تصل منها وعبرها العلوم والمعارف والآداب، فانتفعت بها كثيرًا في العصور اللاحقة ابتداءً من عصر النهضة الأوروبية. تُشير كاثرين جيتز، في ورقة بحثية لها بعنوان “حكايات كانتربري والإطار العربي التقليدي”، إلى أنَّ كتاب القصص “التربية الكهنوتية” لبطرس ألفونسي كان حلقة وصلٍ رئيسة ما بين الأدب العربيّ والأوروبيّ، وساهم في تكوين نصِّ تشوسر فأخذ منه عدة سمات عربية قصصيّة من أبرزها الإطار القصصي أو الحكاية الإطارية، التي أبدعها ابن المقفع عندما نقل كليلة ودمنة من الفهلوية إلى العربية، إضافة إلى سمات أخرى مثل النهاية المفتوحة، والرواي الملازم لمرويه، والتجميع القصصي والموازنة في مواضيعها، والغاية الوعظية. بيد أنَّ تأثُّر تشوسر بالأدب العربي والشرقيّ يبدو أكثر من سماتٍ سردية وفنيّة حسب بل وموضوعيّة كذلك. كتبَ تشوسر في أواخر حياته، في العقد الأخير من القرن الرابع عشر، حكايات كانتربري الشعرية، يروي فيها رحلة حجيج يجتمعون في خان تابارد قبل التوجُّه إلى كاتدرائية كانتربري. يتفق الحجيج على رواية حكاياتٍ في الطريق يُمضون بها الطريق ويروِّحون عن أنفسهم، ويتناوبُ الحجيجُ على رواية حكاياتهم. ويُورد تشوسر في كتابه أربعةً وعشرين حكاية، بعضها تامٌ وبعضها ناقصٌ. أعاد تشوسر صياغة معظم حكاياته من مصادر مختلفة منها رومانية قديمة أو شعبية معاصرة له أو أوروبية، ولم يقتصر على أخذه من هذه المصادر بل وتأثر بأساليب أدبية فحذى حذو الحكاية الإطارية لبوكاشيو في الديكاميرون في تنظيم أحداثه حكايته الإطارية ورواته في كانتربري.          

تبرزُ حكايةُ الفرس النحاسي الطائر، وهي واردة في ألف ليلة وليلة بعنوان حكاية فرس الأبنوس الطائر، من بين الحكايات التي اقتبسها تشوسر في الغالب وأعاد صياغتها في كتابه، مما يَجعلُ احتمالَ اطلاعه على نسخة من هذا القصة مترجمة إلى إحدى اللغات الأوروبية أو معرفته بمحتواها واردًا جدًا. لا يُكملُ تشوسر حكايته في كتابه إذ تنقطع في جزئها الثالث، ومن المرجَّح أنَّ سببَ عدم اكتمالها وفاةُ تشوسر في عام 1400، السبب الذي يعلل نقوصات وتناقضات في أجزاءٍ أخرى من كتابه. لكن عدم اكتمال القصة لا يقف عائقًا في وجهنا عند تحليل نص تشوسر، وتبيان تأثير حكاية فرس الأبنوس الطائر في حكاية الفرس النحاسي الطائر. 

غاية هذه المقالة هو البحث في بُنية الحكايتين وأغراضهما، واستقراء دلالاتهما وحبكتيهما، والوقوف على وجوه التشابه بينهما، والكشف عن التبادل الأدبي بين الثقافات المختلفة، وكيف يُنتجُ هذا التبادل والتأثر نصوصًا أدبية تُعزز التلاقي ولا تلغي الاختلاف.

تروي شهرزاد للملكِ شهريار في الليالي 357-371 حكايةَ ملكٍ من ملوك الفرس، له من البنات ثلاثٌ والبنين واحدٌ، يدخلُ عليه ذات يومٍ ثلاثة حكماء يحملُ كل واحدٍ منهما هدية عجيبة. جاء الأول بطاووس ذهبي يُصفِّق بجناحيه بمرور كلِّ ساعة من ليلٍ أو نهار، ومع الثاني بوقٌ نحاسي حين يوضعُ على باب المدينة فإنه يزعقُ إذا دخلَ عدو المدينة فيُمسكُ بالعدو، أما الأخير، فجاء بفرسٍ نحاسي يطير ويأخذ راكبه إلى حيثُ أراد. قبلَ الملكِ الهدايا الثلاث لكنه رفضَ أن يُنعمَ على الحكماء حتى يجرب هذه الآلات، فجرَّب الطاووس ثم البوق فوجدهما كما قيلَ له فزوَّج الحكيمينِ اثنتينِ من بناته، ولما أراد الثالث أن ينال نصيبه مثل صاحبيه طلبَ ابن الملكِ أن يُجرِّب الفرس بنفسه، فركبَ الابنُ الفرس الأبنوسي، وعلَّمه الحكيم بتحريكِ لولبِ الصعود في عنقه ليطيرَ الفرسُ وعليه ابن الملكُ وانطلقَ في البلاد حتى وصلَ إلى مملكة صنعاء حيث التقى بابنة الملكِ. جرت لابن الملكِ في تلكِ البلاد مغامراتٌ، بعد أن تعلّم كيف يصعد بالفرس بلولب الصعود وينزلُ به بلولب النزول، انتهت بزواجه ابنة ملكِ صنعاء بعد أن أنقذها من ملكِ الروم. وتنتهي القصة بتوليه مُلكَ فارس.   

ويروي لنا ابن الفارس، في الحكاية الحادية عشرة من حكايات كانتربري، حكايةَ الفرسِ النحاسي. وهي حكاية عن ملكٍ للتتر اسمه كامبوسكان، له من البنين اثنان هما الجارسيف وكامبالو، ومن البنات واحدة هي كاناسي. دخل على الملكِ يومًا فارسٌ غريبٌ رسولًا من ملكِ العرب والهندِ ومعه أربع هدايا عجيبة، الأولى فرسٌ نحاسي بمقدوره أن يأخذ الملكَ أنّى شاء ويطيرَ به في السماء مثل النسر، والثانية مرآة تُمكِّن من يُمسكَ بها معرفةَ الأخطار القادمة على مملكته وتكشف الصديق من العدو وتُمكِّن المرأة من معرفة إخلاص الرجلُ لها من عدمه، والثالثة خاتم خصَّه ملكُ العرب والهند للأميرة كاناسي يُمكنها إذا وضعته في إبهامها فَهْمَ ألسنة الطيور، ومعرفةَ كنه كل عشب وفوائده في شفاء الجروح، والرابعة سيف يخترق كلَّ أنواع الزُّرُود والدروعِ ولن يُشفى رجلٌ جُرحَ بهذا السيف. تعجَّب القومُ من هذه الهدايا، وأكرمَ الملكُ الفارسَ الرسولَ وأحسنَ وفادته، وراقصَ الفارسُ الأميرة كاناسي. حين طلبَ الملكُ من الفارس أن يُعلِّمه كيف يستخدمَ هذا الفرس النحاسي أخبرهَ بأن عليه أن يلوي دبوسا مثبا في أذن الفرس وإخباره بالمكان الذي ينوي الذهاب إليه، وإذا أراد الهبوط فعليه أن يلوي دبوسًا آخر ويأمره بالهبوط إلى الأرض. وزاد عليه أن بإمكان أن يخفي الفرس عن الأنظار بتدوير دبوس آخر وطلبه ليعود إليه من جديد. تنتقل الحكاية في جزئها الثاني إلى كاناسي حين خرجت مع وصيفاتها تتنزه فرأت أنثى الباز تُغقغقُ وتضرب بجناحيها في مشهدٍ يوحي بالأسى والشفقة فلبست الأميرة خاتم فهم ألسنة الطيور، وحدَّثتها أنثى البازي بخبرها وكيف تركها ذكرها وذهبَ مع الحدأة. 

تنتهي إلى هذا الحد حكاية تشوسر ولعلَّه لو قُدِّر له إكمالها أن يضعَ لها أحداثًا متعلِّقة بطيران الأميرة رفقة الرسول الفارس على الفرس النحاسي لمساعدة أنثى البازي وإعادتها إلى ذَكَرِها، وإنِّي بهما يواجهانِ أخطارًا ومغامراتٍ تنتهي بزواجهما ورحيلها مع الفارسِ إلى بلاده.   

تواجهنا بادئ ذي بدْء حكايةُ عن ملكين من الملوك لهما ذرية من البنين والبنات، يعيشُ في الأول في فارسٍ والآخر في مملكة التتر، أي أنَّ الملكين عاشا في منطقة جغرافية واحدة (آسيا)، للأول من البنات ثلاث وولد واحد، وللثاني له ابنان وبنت واحدة. لعبَ الأخ الوحيد والأخت الوحيدة دور البطولة في الحكايتين، فيظهر دورُ ابن ملكِ فارس عندما أرادَ الأب تجريب الفرس الطائر. وتنتقل بؤرة الحدث في الحكاية نحوه في مغامراته على الفرس الطائر حتى وصل إلى مملكة صنعاء، والتقى الأميرة وسط جواريها وأحبها قبل أن يسقطَ في يد والدها، وينجو منه ومن جيشه عائدًا إلى فارسِ في مغامرته الأولى على متن الفرس الطائر. في المقابل فإن حكاية تشوسر تمنحُ البنت دورًا مباشرًا سريعًا في الحكاية حين خصَّ ملكُ الهند والعرب الأميرةَ كاناسي بهديّة الخاتم الذي يُمكّن لابسه من معرفة لغة الطيور وفوائد الأعشاب، وتنتقلُ بؤرة الحدث في الحكاية بعد وصول الرسول إلى الأميرة كاناسي في تماثل واضحٍ مع الحكاية الأولى. 

يدخلُ على ملكِ فارس في الحكاية الأولى ثلاثة حكماء مع كلِّ منهم آلة عجيبة لها فائدة محددة لا تستطيع آلة غيرها أن تُشابهها، وهي آلات أقرب ما تبدو كأنها خيالٌ علميّ. طاووسُ يصفق بجناحيه على رأس كلِّ ساعة من نهارٍ أو ليل وهو أشبه ما يكون بساعة رَقْمية ناطقة أو منبه آلي، وبوق يكشف الأعداء بزعيقه عليهم وهو نموذجٌ أولي لكاميرا مراقبة تكشف وجوه المطلوبين أو آلة مراقبة حراريّة تقيس حرارة الأجساد لمعرفة أيّ اضطرابات جسدية تُعبِّر عن حالة نفسيّة مغايرة لفردٍ عن بقية الجموع، وفرسٌ آلي طائرٌ. ونحن هنا لسنا بحضرة حصان طائر، مثل بيغاسوس في الأساطير الإغريقية، بل آلة أيّ أنَّها تفضلُ المخلوقَ بعدم حاجتها إلى استراحة أو طعام أو نوم بل تعملُ على الدوام وقتما اُحتيجَ إليها، والعلمُ مع تطوره في عصرنا لم يصل حتى الساعة إلى وسيطة للنقل مُستغنية عن مصدرٍ للوقود أو الطاقة فلا بدَّ لكل السيارات والطائرات والقطارات إلى وقود لتعمل به، وتنقل ركَّابها من مكان إلى آخر. الفرسُ الطائر آلة لم يصل البشر بعد إلى صنع مثيلٍ لها، فهي أقرب ما تبدو إلى الخيال السحري الذي لا يُمكن تحقيقه، لكنها في ذات الوقت تكشف عن رغبة إنسانية في وسيلة للتنقل في الجو، وهي في ذات الوقت ذات مظهر مرتبطٍ بالبر، إذ كان بمقدور مؤلف الحكاية أن يجعلَ حصان الأبنوس طائرًا من الطيور لكن لزيادة العجب ولمنح آلته نوعًا من التخفِّي جعلها حصانًا آليًا طائرًا. لا يختلف الأمر كثيرًا مع ملكِ التتر لكن الفرقَ يكمن في قدوم رسولٍ من ملكِ العرب والهند حاملًا أربعَ هدايا عجيبة معه. الأولى فرس نحاسي طائر لا يختلف ألبتة عن فرس الأبنوس وغرض استخدامه، بيد أنَّ لهذا الفرس مزيّة جديدة في كونه قابلًا للاختفاء والاستدعاء من صاحبه. والثانية مرآة تكشف الأعداء ومعرفة أخطار المستقبل، وهي لا تختلف وظيفيًّا كثيرًا عن البوقِ في الحكاية الأولى مما يجعلها آلة متفرعة من الآلة الأولى، فالغرض الأساسي من الآلتين معرفة الخطر ومصادره والسعي لتجنُّبه وإيقافه قبل وقوعه. والثالثة خاتم يمنحُ لابسه معرفة لغة الطيور وفوائد الأعشاب. قد تبدو هذه الآلة مختلفة عن آلة الطاووس لكنها تبدو لي متقاربة فلطاووسِ فائدة في معرفة الوقتِ والتصفيق على رأس كلِّ ساعة، وهو ما يمنحُ مستخدمه إمكانية التواصل مع العالم الخارجي بمعرفة ساعات النهار والليل، أما الخاتم فهو يمنحه لابسه معرفة بلغات الطيور والأعشاب، وهو أيضًا اتصال بين اللابس والعالم الخارجي. تبرزُ غاية الآلتين في ربط المستخدم بالعالم الخارجي وجعله جزءًا من الطبيعة لا يغفل عن أحوالها، وهي رمزٌ للسعي وراء المعرفة الطبيعيّة. كما أن الخاتم بفهمه لغة الطيور إما لأنه جزءٌ متفرعٌ من الطاووس في الحكاية الأولى وإما منبثقٌ من القصص والأساطير الإسكندنافية حول سيغورد ومعرفته لغة الطيور بعد أن ذاق دم قلب التنين فافنر، لكن هذا لا يُخرجنا من دائرة تأثُّر تشوسر بالآداب الأخرى. والهدية الرابعة سيفٌ يخرقُ كل أنواعِ الزرود والدروع، وهو آلة زائدة في هذه الحكاية لا ترد في الحكاية الأولى، ولعلَّ السبب في إضافتها فضُّ التشابك بين القصتين استدعت لها ضرورة بُنية الحكاية الجديدة وبُنيتها كما رأينا في اختلاف عدد ونوع ذريتي الملكين وفي الحكماء والفارس.           

يشملُ النطاقُ الجغرافي للحكاية الأولى منطقة تمتدُ من فارسٍ شرقًا إلى مملكة الروم في الشمال الغربي (بيزنطة) إلى الجنوب في صنعاء. لدينا ثلاث أقوامٍ مختلفون هم الفرس والعرب والروم، ولكلٍ منهم دوره في الحكاية، وتنتهي بزواج ابن ملكِ فارس ابنةَ ملك صنعاء، ثم وفاة ملكِ فارسِ وخلافته ابنه من بعده، وابنة ملك صنعاء وحيدة أبويها أيّ أن وراثتها المُلك بعد أبيها حتميّة، لتُبيِّن نهاية الحكاية عن وحدة دم وتوسُّع رقعة ملكٍ من فارسٍ إلى اليمن تحت سلطانِ ملكِ فارس. ويورد تاريخُ هذه المنطقة عن حكم ملكاتٍ في اليمن وكذلك امتداد سلطان الأكاسرة إلى هذه البلاد. تبقى الأحداث في الحكاية الثانية داخل مملكة التتر في شرق آسيا، لكنَّ مبعوث ملكِ الهند والعرب يُدخلُ الحكاية في نطاق جغرافي ثلاثي رئيس (أرض التتر والهند وأرض العرب) وهي مساحة كبيرة تُغطي قارة آسيا بأكملها تقريبًا. لا نعلمَ السبب وراء هذه الهدايا العجيبة وغاية هذه البعثة الملكية، لا تُوجد هدايا بدون غايات، ولماذا خصَّ ملكُ الهند والعرب الأميرةَ كاناسي بهديّة دون أخويها، ومن الراجح أنَّ وراء هذه الهدية عرضُ زواج وتقوية أواصر بين مملكتين وملكين عظيمين، أيَّ أن وحدة الدم والمُلكِ تبدو هي الغاية والنتيجة النهائية لهذه الحكاية غير المكتملة. لذا يتراءى لنا غرضٌ واحدٌ من الحكايتين على المستويين السياسيّ والجغرافيّ، اتحادٌ عبر الزواج، تمَّ في الأولى ولم تتضحُ ملامحه جليًا في الأخرى. 

يمنعنا عدمُ اكتمال حكاية تشوسر من التوغل كثيرًا في استقراء نصِّه وارتباطه بحكاية فرس الأبنوس، ومن الوقوفِ على علاقة النصِّين ببعضٍ سواء على المستوى الأدبي والبنيويّ أو على مستوى الدلالات والغايات، لتبقى قراءتنا للنصين محدودة، ولو أُكملت حكاية تشوسر لتعزَّزت قراءتنا أو شَرَعتْ قُبالتنا أبوابًا أخرى تأخذنا إلى أبعد مما نتوقع. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى