رواية بطعم الهزيمة والانكسار، بمرارة العربي المخذول في حرب الكبار التي لا يملك الرأي في تغيير مجرياتها، رغم أنه يرى أن الخيار الصحيح لم يُتخذ. وكما يُعرف عبدالرحمن منيف، بثوريته ضد الحكومات العربية، واعتزازه بعروبته، يُرجّح البعض أن هذه الرواية تصور مرحلة ما بعد الانهزام للعرب في حرب ٦٧ ضد العدو الصهيوني.
البطل زكي نداوي، يمثل العربي المنسحق والمنكسر نفسيا، بعد أن كان جنديا، يعود خائبا بعد الهزيمة، ويصوّر منيف النقطة المحورية في الحرب هي “الجسر” وترك الجيش لهذا الجسر، الذي له أكثر من دلالة قومية ونفسية ووطنية، فالجسر هو الأمل الذي كان يتشبث به زكي وبرفقة الآخرين الذين معه، بنوه، وتعاملوا معه، إنه سر النصر الآتي أو النصر يأتي منه، فتأتي الخيبة مصحوبة بمرارة الهزيمة والفرار، تاركين الجسر لمن؟ هذا السؤال الذي لم يُجب عليه لا منيف ولا زكي نداوي، يبقى الجواب مفتوحا ويمكن للجميع أن يجيب عنه، وبذات الوقت يعطي منيف الصبغة التغيرية لهذا الجواب فمن يدري من سيعبر بعد أن ترك الجيش العربي هذا الجسر، بلا حماية، خطة بديلة للكل الحالات، من سيأتي فوق هذا الجسر سيجعل الطرف الآخر الفار معرضا لشتى أنواع الخُذلان الدائم والعيش بمرارة الماضي وصعوبة حاضر لا يُمكن أن يُغير بسهولة فقد تركنا الجسر الذي بنيناه بأيدينا. ويظل السؤال الذي يلاحق زكي نداوي لمَ لمْ ننسف الجسر، الجسر لم تركناه وحيدا، وبقينا ننتظر الأوامر وحين جاءت الأوامر كانت أمرا بالانسحاب وليُنقذ كُلٌّ نفسه، وهنا إشارة واضحة لرداءة التخطيط وقلة التدبير قبل خوض حرب مصيرية تهدد مصير أُمة وأجيال. زكي نداوي الذي يعود أو يمتهن مهنة الصيد -ليست هناك إشارة واضحة عن عمله السابق-، يبقى حبيسا للماضي، ويدور في متاهاته لا يحرى جوابا، وتبقى التساؤلات مضطربة في فكره، تقضُّ مضجعه، وتهدد راحة، وهنا يُبرز منيف أزمة الهوية المتصدعة التي يُعاني منها زكي، فهو أضحى بلا هوية، لا شيء يربطه بالواقع، وبنفسه، وغارقًا في بحار التردد الذي سيّطر عليه وجعله شاكًا بكل شيءٍ ولا ينفك يذكر الجسر.
الشق الآخر من الرواية، هو طابعها في تصوير الصراع بين الإنسان والحيوان، زكي الذي يجوب الأراضي ليصيد ما تطوله يداه، هذا الصراع المستمر بينه وبين فرسيته التي ينتظرها كل يوم، ويسعى بكل جهده، حتى يُنهي عمله مكللا بالصيد، نحن هنا في حضرة أدب البراري. الطيور تلك العدو التي يحاول زكي نداوي أن يُنهي هيمنتها على عالم السماء، ويصبح هو السيد الذي يتحكم بهذه البقعة من الأرض أو هذه المنطقة من السماء، ببندقيته التي لا يريد أن تُخطئ، فخطأه هنا هو جسر آخر لا يُريد تركه، إصرار الإنسان في السعي خلف الطريدة الشريدة، ما بين صبر وخبرة في الصيد والمهنة، وسعي دائم في معرفة أوقات نزول الطيور للأرض وأماكن وجودها، كل شيء هنا يجري بدقة، كل شيء منتظم، إلا زكي الذي يجد نفسه في عالم غريب عنه، رغم كل محاولته أن يتناغم وينسجم مع الطبيعة ويتوحد معها، ليصل إلى طرائده بكل سهولة، لكن ثمة ريح مستمرة تعصف بجسره، بجسره الذي لم يعد موجودًا.
زكي نداوي هو الشخصية الرئيسة الوحيدة في الرواية رغم ظهور شخصية الشيخ في بعض الفصول فإنها تبقى ثانوية التأثير، فهي رواية الإنسان الواحد، لكنها الإنسان الذي يمثل جيلا بكامله، جيل يكره الماضي الذي خسر بسببه هويته التي يفتخر بها، وأصبح الشرخ كبيرًا ولا يُرقع، فكان الملجأ الوحيد هو الخلود إلى العزلة، أن تكون منعزًلا عن الآخر، حتى وإن تواصلت معه إلا أنك وهو في عالمين مختلفين، تجلسون تحت ظلال الجسر، الذي لا وجود له إلا في ذاكرة أصحابه. رغم مصائبه وتشتته النفسي وضياعه في ماضٍ ظلَّ حبيسا لجسره فإن زكيا كان مليئًا بالحكمة، فكثير ما ينطق بكلامٍ قيّم، بلسان من عركته الحياة وسبر غورها.
من بعض حكمه:
“الإنسان عندما يكون وحيدًا يتملكه برد أزلي، برد بدائي لا يُقاوم”.
“نحن نستحق الموت… الموت أكبر منا ولا يمكن أن نصله بسهولة”.
“فقد الناس القدرة على البكاء.. لا.. إنهم يبكون بدموعٍ تتساقط إلى الداخل.. إنهم يبكون كل وقت.. حتى أثناء النوم!”
زكي لم يكن وحده في براريه، هناك آخر رغم صمته الدائم فإن دوره لا يقل عن دور زكي نداوي، ألا وهو الكلب وردان، يُعطي منيف للحيوان دورًا يقوم بمقام الخليل والرفيق، فكما كان الحمار هو ذلك الرفيق الذي يسمع كلام صاحبه بأذان صاغية في رواية الأشجار واغتيال مرزوق، فإن وردان الكلب الوفي كذلك لم تقل أهميته عن أهمية أي صديق صدوق، يُشاركه زكي أفكاره وحياته وماضيه وقصصه وأخباره، وبالتأكيد يُشاركه الجسر الذي تركناه، يُقاسمه الألم ومرارة الهزيمة. علاقة زكي مع الكلب أو في حديثه لنفسه، تكشف صدعًا عقائديا، فزكي لا يؤمن بالرب، فهو ما بين ضفة الكفر وضفة الحيرة من يختار، يبقى يعوم، وهذا الخلل العقائدي والنفسي، هو واحد من أسباب ترك الجسر، فترك الجسر كما يُريد منيف ليس تأثيره نفسي وواقعي فقط، بل كذلك يجعله منيف عائق بين الإله والعبد، فهذا العبد بعد ترك الجسر لم يعد يؤمن بشيء ولا يريد شيئا من الإله.