استعمر الجنس البشري الأرض بعد ملايين السنين من التطور -كما يؤمن يوفال- وبلايين السنين من نشوء الكون بطريقة لم يُتفق عليها في الإجماع بعد، لكنها اكتملت في النهاية وتكونت الأرض كبقية الكواكب في المجموعة الشمسية ولحسن حظها فقد كانت بيئة مناسبة لنشوء الحياة عليها، من سلف مشترك كما يقول هراري في بداية كتابه:
قبل ٦ مليون سنة، أنثى قرد وحيدة، أنجبت ابنتين، الأولى أصبحت سلف كل أنواع الشامبانزي والأخرى أصبحت جدّتنا. هكذا إذن، فقد جاء الإنسان! والطاقة والمادة والفراغ شكّلت الكون من دون مسبب، ودون الخوض في منطقية وصحة ودرجة قبوله لدي كوني قارئا لا محاكما للنص مؤمنًا بعقيدة دينية، لم يكن مقنعا البتة، وبما أن يوفال مختص في التاريخ فإن الخوض في البيولوجية والفيزياء ليس من اختصاصه، لذا تبدو المقدمة يشوبها نوع من اللا منطقية وقلة الإقناع على العكس من بقية كتابه. يقول في الصفحة الأولى من كتابه موضحا هدف الكتاب ومشروعه وفصول سيره في فهم الثورات التي حددت شكل تاريخ هذا النوع البشري الهومو سبيانز :Homo Sapiens
١- الثورة المعرفية The Cognitive Revolution والتي بدأ التاريخ معها قبل ٧٠ ألف سنة.
٢- الثورة الزراعية The Agricultural Revolution: والتي تعود لـ١٢ ألف سنة خلت.
٣- الثورة العلمية The Scientific Revolution: والتي حصلت قبل ٥٠٠ عام فقط.
ومن المحتمل جدا نهاية التاريخ الإنساني وبداية شيء مختلف كليا عن سابقه.
ووفقا لهذه الثورات الثلاث يرتكز الكتاب، إضافة إلى فصل يتوسط فصلي الثورة الزراعية والعلمية- هو فصل توحيد النوع البشري والذي تمثل بثلاثة روابط رئيسة هي: الدين والاقتصاد والسياسة التي مثلتها(الإمبراطورية) والحركات الإمبريالية التوسعية.
وبعد استعراض لبدء الحياة على ظهر المعمورة، يشرع في الحديث عن الثورة المعرفية، إذ مع بدء تشكل وعي الإنسان الأول بما يحيط به من طبيعة ومخلوقات وسماء وظواهر طبيعية، ومع هذا الوعي بدأت مرحلة جديدة من خلق الأساطير والأديان والآلهة والخرافات، وتكون أنظمة عيش في مجاميع أو أفراد، والتي غالبا ما يقابل ما بين هذه الأنظمة الحياتية التي عاش بداخلها وأسسها الإنسان العاقل مع الشامبانزي أو كائنات أخرى مستخدما إياها دليلا على السلف المشترك الذي جِيء منه، ولم يتناول الثورة المعرفية بأنها ثورة معرفية خاصة بالإنسان العاقل الأول في الأزمنة الغابرة، هذا من أهم مزايا الكتاب، لكن في الربط ما بين تشكل الوعي الأول وما تأتّى عنه إذ إن الوعي والإيمان الجمعي بأشياء غير موجودة كان لها الدور الكبير في خلق إيمان جماعي بإله ما أو أسطورة ما، ويعلل قوله بأن الإنسان بطبيعته يتحدث عن أشياء غير موجودة فعلا. ويضيف ساخرا لا يمكنك أن تقنع قردًا بأن يعطيك موزته بوعدك إياه بأعداد كبيرة جدا من الموز بعد الموت، وفي صوته تغليب واضح لكل ما هو مادي، أما الجانب الروحاني أو الأخلاقي فهو قائم على “خيال مشترك”. لعب الخيال المشترك دورا مهما في صنع كثير من الأشياء، وأسميها أشياء مجازًا إذ لا وجود لها في الواقع وهكذا يوضح رؤيته للموضوع، كالأخلاق وحقوق الإنسان، ومفهوم الدولة والدفاع عنها والتضحية لأجلها، والدستور، والقانون، كل هذه وأي شبيه آخر فهو أمر خيالي، ما عزز وجوده وأثبته هو الخيال المشترك بين الناس وإيمانهم الفعلي بوجوده، أما في عالم المادة الملموس فهي أمور غير حقيقية ويعزو هذا الأمر في فصل الثورة الزراعية إلى ثلاث نقاط أو ما سماها جدران السجن هي:
١- الأمر المتخيل جزء لا يتجزأ من عالم المادة.
٢- الأمر المتخيل يُشكّل رغباتنا.
٣- الأمر المتخيل هو بين – ذاتي. ويعرّفه بأنه شيءٌ ما موجود في شبكة تواصل مرتبطة بالوعي الذاتي لعديد من الأفراد.
إن الوعي الإنساني هو المرحلة الأولى من تاريخ البشر على الأرض، وهذا الوعي الأول دعّم تفوق علاقة البشر الأوئل مع الطبيعة إذ يشير لهذا في كتابه، فقد كانوا في تواصل دائم مع الطبيعة والنباتات وبقية الكائنات، ومعرفة الضار من النافع، ومعرفة الخطر على العكس من إنسان المصانع في عصرنا الحالي. إضافة إلى القوة الجسمانية التي كانوا يمتلكوها نظرا لسعيهم الحثيث خلف الطعام والأمن والانتقال من مكان إلى آخر. ويعرج يوفال إلى الانتقال ما بين القارات وما نتج عنه من استيطان أماكن جديدة غير مأهولة. ويعزو يوفال الفضل في سيطرة الإنسان على الأرض وباقي المخلوقات هو لغته الفريدة، وكيف تشكّلت اللغة الأولية التي لا يُعرف عنها شيءٌ أكيد لكنه يحاول استخدام أمثلة توضيحية قائمة على آلية استقراء الطبيعة والتحذير من الخطر. ومن نتائج وعي الإنسان اكتشاف النار التي منحت الإنسان القوة ومكنته من حرق غابة كاملة بشعلة صغيرة.
الفصل الثاني من الكتاب والذي خُصص للثورة الزراعية أو ما يسميها أكبر مقلب بتاريخ البشرية أو فخ فخم فيقول: الثورة الزراعية خلّفت المزارعين في حياة عموما أكثر صعوبة وأقل رضا من حياة سابقيهم. الصيّادون وجامعو الثمار يقضون وقتهم بتحفيز أكبر وطرق منوعة، وكانوا أقل عرضة للمجاعة والأمراض. الثورة الزراعية بالتأكيد جعلت كمية الطعام المجموع الصالح للأكل أكثر، لكن الفائض من هذا الطعام لن يتحول إلى نوع أفضل أو يمنح وقتا للراحة. بالأحرى، سيؤدي إلى الانفجار السكاني وظهور نخبة مدللة. معدل الجهد الذي يبذله المزارع أكبر من الجهد الذي بذله السابقون (الصيادون وجامعو الثمار)، ويحصلون في المقابل على وجبات غذائية أسوأ. الثورة الزراعية كانت أكبر مقلب في تاريخ البشرية.
من كان المسؤول؟ ليسوا الملوك ولا الرهبان ولا التجار. الجُناة كانوا حفنة أنواع من النبات، تتضمن القمح والرز والبطاطا. هذه النباتات دجّنت الإنسان بدلا من العكس.
بعد عرض لكيفية بداية الزراعة، وعملية تدجين الحيوان أو ما سماها بضحايا الثورة الزراعية واستخدامها في الزراعة، وما نتج عنها عن تغييرات تمثل أهمها في استقرار الإنسان في مكان واحد وترك حياة التنقل والاعتماد على الزراعة وقيام مجتمعات معروفة وثابتة وما تأتى عنها فيما بعد ممالك وإمبراطوريات. إن الزراعة خلقت حياة جديدة للإنسان، ومن أهم ما قدمته كانت السبب في اختراع الكتابة وكانت أولى الأبجديات هي السومرية في أرض وادي الرافدين ووضع القوانين لتنظيم الحياة كما في مسلة حمورابي: أول مسلة قوانين في تاريخ البشرية. يعود سبب اختراع الكتابة ارتباط بذاكرة الإنسان وقدرتها المحدودة على خزن المعلومات؛ وكون الإنسان يموت غير خالد، لذا فالمعلومات التي يحفظها معرضة للزوال مع وفاته؛ وأخيرا إن العقل البشري معد لحفظ ومعالجة أنواع محددة من المعلومات. وأول لوح كتابي عُثر عليه سُجلت عليه معلومات خاصة بمحاسب! وكما يقول متعجبا إنها لم تكن متعلقة بنبي أو أديب أو شاعر أو غازٍ عظيم بل بالاقتصاد. ويُنهي الفصل بجزء عنوانه لا عدالة في التاريخ، يتحدث فيه عن العنصرية والتمييز العرقي والفرق بين الأجناس والذكور والإناث والرجال والنساء وهو وهي، وبعض أسباب هذه الفروقات التي ميزت الذكور عن الإناث يجيب عنها بلا أعلم أو لا أحد يعلم أو يسبق جوابه بـربما. ويستغل حديثه في هذه المواضيع من أجل تمرير أفكارٍ ترويجية للمثلية الجنسية والشذوذ.
بعد أن وعى الإنسان ذاته والعالم المحيط به، وعرف الزراعة، الأمر الذي أدى إلى عدة تغييرات اجتماعية وحياتية وتطورية، كتابة، زراعة، تدجين الحيوان واستخدامها في الحقول، ممالك، ضرائب، أنظمة حكم، كان لا بد أن يدخل البشر مرحلة جديدة، وكانت هذه المرحلة هي مرحلة التوحيد، وتوحدت البشرية من خلال ثلاثة عوامل، يفصّل في الحديث عنها: السياسة (الإمبراطورية) والتي سببت في خلق الحروب والتوسع، والمال، فما هي الإمبراطورية وأخير هي أم شر؟ وصراع النحن والهم؟ وكيف كانت الإمبراطوريات وحركتها التوسعية التطورية السبب في تداخل المجتمعات والثقافات والتأثير الناتج عن بعضها في بعض، لينتهي بخلاصة أن الاستعمار له وجهين سلبي وإيجابي، لا يمكن التغاضي عن أي منهما، وأن الإرث الذي يخلفه المستعمر يبقى بعد رحيله، ويتمسك به المستعمَر ويضرب مثالا عما ما قام به الإنجليز من بناء بقي شاهدا على وجودهم بعد رحيلهم. ويعد موضوع المال، من المواضيع المهمة التي يستفيض في الحديث عنها، ابتداء من الأسباب الملحة لإيجادها، إلى تاريخ تطورها واستخدامها وأنواعها، والأهم من كل هذا قيمتها، والتي لا يخرج في الإجابة عن هذا السؤال عما وضحه سابقا حول الخيال الجمعي المتوافق على قيمة واحدة ويفقد قيمته إذا اختلف التوافق في هذا الخيال، ويقول إن فرقها عن الدين في إنّ الدين يطلب منا أن نؤمن بشيء ما، في حين المال يطلب منا أن نؤمن بأن الآخر يؤمن بشيء ما! أما العامل الثالث والأخير فهو عامل الدين، وما قام به من توحيد البشرية والأقوام بغض النظر عن أجناسها وأعراقها وثقافتها وموروثها الإنساني.
الفصل الأخير من الكتاب والذي تناول موضوع الثورة الثالثة المهمة في تاريخ البشري؛ الثورة العلمية، هذه الثورة التي ارتبطت بها بعد أقل من ثلاثة قرون الثورة الصناعية في أوروبا ودخول عصر جديد، لذا فلا يمكن الفصل بين الثورة العلمية والصناعية إذ الثانية هي ما تأتت عنها الأولى. والثورة العلمية كما يقول يوفال: ما الذي اختلف ما بين الثورة العلمية التي ابتدأت في القرن السادس عشر، وبين كل الإرث المعرفي السابق واكتشافاته القديمة، يحصر يوفال الأمر بثلاثة أسباب حاسمة:
أ- الرغبة بالاعتراف بعدم المعرفة: العلم الحديث تأسس على الحكمة اللاتينية “نحن لا نعلم”. والتي تفترض بأننا لا نعلم كل شيء، وعلى نحو أكثر انتقادية، تقبّل بأن الأشياء التي نعتقد أننا نعرفها قد يبرهن على خطأها بتقدمنا في تحصيل المعرفة. لا يوجد مفهوم، أن الفكرة أو النظرية مقدسة أو وراءها تحدٍ.
ب- مركزية الرصد والحساب: بعد الاعتراف بالجهل، العلم الحديث يهدف إلى تحصيل معرفة جديدة. والتي تجري وفق آلية جمع الملاحظات المرصودة ثم استخدام حسابات رياضية لربط هذه الملاحظات المرصودة لأجل نظريات شاملة.
ج- اكتساب قوى جديدة: العلم الحديث ليس فقط خلق نظريات بل استخدام هذه النظريات من أجل كسب قوى جديدة، وأكثر تحديدا لتطوير تقنيات جديدة.
ووفقا لهذه الحكمة اللاتينية عمل الأوروبيون ليس فقط في مجال العلوم، بل إننا لا نعلم، كانت دافعا، لبدء الحملات الاستكشافية لما يقع فيما وراء هذا البحر أو هذه الأرض، وهذا ما اختلف به الإنسان في عصر النهضة عن سابقيه الذين اكتفوا بالتمدد والتوسع في الأراضي المجاورة، لكن هذا الإنسان في العصور المتأخرة أكثر نهما للمعرفة والاكتشاف.
إن الحملات الاستكشافية التي جابت البحار بحثا عن أراض جديدة، قد حصلت على نتائج لافتة كاكتشاف الأمريكيتين وأستراليا وجزر كثيرة في آسيا، هذه الحملات التي اصطبغت بالدم والإجرام والإبادة لملايين البشر. لكنها استمرت، وانتشرت هذه الحملات في دول كثيرة كبريطانيا وإسبانيا والبرتغال وهولندا، وكانت بحاجة إلى دعم مالي، هذا الأمر الذي نتج عنه، تحولها إلى تجارة وبحث عن مصادر للثورة، لهث خلفها الأغنياء وتحالفوا مع الملوك وجهزوا الجيوش لترافق الحملات وتحميها. وكذلك تأتى عنها ظهور البنوك وفيما بعد الرأسمالية، إن الاستكشاف الجديد لهذا العالم وما سبقه من رغبة الإنسان بتعلم المزيد عبر اتباعه قاعدة “أنا لا أعلم” أدى إلى استثمار كل الجهود الفكرية للإبداع، وأهم ما قام به هو اكتشافه مصادر للطاقة، أولها الطاقة البخارية، التي استخدمها في تحريك الأشياء، ليصنع القطار مستثمرا القوة الحركية الناتجة من البخار في تحريكه. وهكذا توالت الاكتشافات والإبداعات العلمية. ويطرح يوفال سؤالا مهما لماذا تقدم الأوروبيون وتأخر غيرهم؟ فيجيب حين صنع الإنجليز القطار واستطاعوا تحريكه وبنوا السكك الحديد، فإن الفرنسيين والأمريكيين لحقوهم في صناعة القطار وبناء السكك، وهكذا تواليا مع بقية الإنجازات والاكتشافات سرعان ما تنتقل بينهم في القارة الأوروبية أو حتى تنتقل لأمريكا، في حين لا تجد لها أثرا في إيران أو الصين، والسبب أن الفرنسيين والإنجليز والإمريكيين يملكون قيما مشتركة، وعادات، ومعتقدات، أديان، وأساطير، ونظم اجتماعية، في حين الفرس أو الصينيون لديهم نظمهم الاجتماعية وقيمهم الخاصة بهم التي وقفت مانعا أمام استخدام هذه الإنجازات الفكرية والصناعية وتبني الأفكار الجديدة إلا أن لهذه الثورة العلمية جانب مظلم وسيئ أيضا، تمثل في ضحايا المجازر في الأمريكيتين وأستراليا، وكذلك هناك ضحايا الثورة القديمة الجديدة، الحيوانات، إذ كانت الثورة الزراعية ضربة لاستغلال الحيوانات المدجنة، في الحراثة والتجارة عبر استخدام وسائل قاسية أو وحشية في دفع الحيوانات كالماشية لإنتاج أكبر كميات من الحليب، جاءت الثورة العلمية لتزيد من معاناة هذه الحيوانات التي تعيش في ظروف قاسية داخل مصانع وتتلقى جرعات طبية أو كيميائية لتزيد من نسب الإنتاج، أو استخدامها في المختبرات لتطوير أو تجريب أدوية جديدة، وهكذا.
وأهم منعرجات الثورة العلمية أو المحطات التي غيّرت وجهها ألا وهو الدعم المالي الذي ارتبط بالرأسمالية فيما بعد، إذ تطورت البحوث العلمية وارتبطت بالسياسة، ومثالا على هذا استخدام النازيين التطورَ للحديث عن تفوق العرق الآري ثم استعباد وقتل بقية الأعراق كما فعلوا ضد اليهود والأقليات، وكذلك تطوير الأسلحة كما في القنبلة النووية التي ألقيت على هيروشيما وناجازاكي، هذا الاتحاد بين العلم والسياسة جعل كثير البحوث ترتبط ارتباطا وثيقا بالسياسة سواء على مستوى الدعم والأسباب أو على مستوى النتائج، مما دفع يوفال إلى التساؤل متى يتم الفصل بينهما أو حتى إمكانية هذا، خاصة وأن البحوث أضحت داخل حدود كحقوق الإنسان والمساواة وعدم الأفضلية بين البشر التي قد ينفيها العلم التطوري. وهذه الثورة العلمية وزواجها من الرأسمالية تتلخص في مبدأ إذا دعمتك ماذا سأجني وعلى ماذا سأحصل، إذ البحوث تحتاج إلى تغطية التكاليف ومصدر مادي، تكفلت بها رؤوس الأموال مقابل رد الدين عبر الاستثمارات ونتائج هذه البحوث، لذا فالرحلات الاستكشافية سابقا ومنها حملة نابليون على مصر عام ١٧٩٨ جلبت معها علماء آثار وتاريخ واجتماع ولغة وغيرهم كل باختصاصه لدراسة طبيعة الأرض والسكان والحيوان والنبات. وهكذا تطورت العلاقة بين العلم والرأسمالية والسياسة.
تناول يوفال موضوع الرأسمالية في الكتاب، وتتبع نشوءها وما وصلت إليه من نتائج، يُطرح بطريقة لافتة للاهتمام حيث التحليل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والفلسفي والعلمي والنظم التركيبية للمجتمع متداخلة مع بعضها، وهو ما يعطي لموضوع الرأسمالية أبعادا مميزة ومثيرة للاهتمام، ومزجت بأسلوب يوفال الذكي، حيث سيطرت الرأسمالية في بادئ الأمر على العلم عبر دعمه، ثم دخلت بعد ذلك في سحب البساط من تحت العائلة والمجتمع وأعادت تركيب اللبنة الأساسية لقيام الدولة، الرأسمالية التي تمثلت في السياسة والاقتصاد (الدولة والسوق). إن هذين العاملين شكّلا المجتمع الرأسمالي الحديث الذي شجع ودعم الفردانية والتفرد، كاسرا قيود الأسرة القديمة وتكفل بالقيام بكل وظائفها. قد يلمس القارئ عداءً ما تجاه الرأسمالية، إلا أن الكاتب قام بتحليلها وإظهارها على حقيقتها وكيفية سيطرتها على العالم، عبر الأسواق الحرة، قروض البنوك، الضمان، إلخ. ينتهي فصل عصر الثورة العلمية، بحديث عن التكنولوجيا والإنسان والطفرة الهائلة في العلوم والهندسة البيولوجية والسيبورغ Cyborg وصناعة الأعضاء والذكاء الاصطناعي، ودخول التكنولوجيا في مجال الطب، التي فتحت أمام البشرية آفاقا جديدة قد تنذر بنهايته. وبعد هذه الثورات والتطور في مجال العلوم والتكنولوجيا يسأل يوفال هل تحققت سعادة الإنسان؟ إلا أن السعادة ومن المنظور البيولوجي قائمة على هرمونات مسيطرة على نسبها ومختلفة من إنسان إلى آخر، وهذه التغييرات في حياة الإنسان لن تجعله أسعد ولا أتعس، قد تكون أحيانا خيارا شخصيا نابعا من الذات، وهي في الأخير تعتمد على هرمونات السعادة في جهازنا الحيوي. وفي النهاية يتساءل تحت عنوان الحيوان الذي أضحى إلها، هل يوجد شيء ما أشد خطرا من الآلهة غير المسؤولة والساخطة التي لا تعرف ما الذي تريده؟
يوفال عقلية فذّة في معظم المواضيع التي طرحها في كتابه، إذ ما يميز كتابه ليس ما طرحه من مواضيع تاريخية، بل في تتبعها وكيف أثّر بعضها في بعض، ويربط بين أحداث رغم الفوارق الزمنية للوصول إلى الفكرة التي يريدها، فنراه يقارن ما بين مسلة قوانين حمورابي وبيان الاستقلال الأمريكي. وحين تحدث عن موضوع السعادة وما هي السعادة وكيف نصل إلى السعادة؟ فالموضوع ارتبط في شرحه ما بين النظرة المادية وأسبابها الملموسة كالمال أو العلاقات، والنظرة الدينية للسعادة كما في البوذية، والنظرة العلمية البيولوجية! ويذكر معلقا على أسلوب كتب التاريخ المتشابه، فبدلا من الحديث عن الإمبراطوريات والحروب والأبطال والسير، يجب البحث والكتابة عن تأثير هذه الحوادث في سعادة الإنسان وقتئذ! والإنسان ذاته غالبا ما يقابل ما بين حالته قبل الزراعة وبعد الزراعة، بعد الثورة العلمية وقبلها؟ أيما أكثر سعادة نحن أو أسلافنا؟ لماذا؟ كيف؟ أسئلة تقود إلى أسئلة، وأجوبة تقود إلى أجوبة، وفي متاهلة من الأفكار التوليدية لأفكار أخرى يغوص القارئ معه، لكنه يبقى فوق مركبه العائم في بحر التاريخ البشري. وبالرغم من كل هذه العبقرية والعقلية الفذة في البحث والعرض والتحليل والنقد والدراسة فإن هفواته وبعض الأحيان انزلاقاته الفكرية والتحليلية أو كذبه مثيرة للسخرية والاشمئزاز، لكن هذا لا يُنقص من قيمة الكتاب أو كاتبه، بل يعطينا إيعازا في التعامل بدقة مع هذا الكاتب وأفكاره ولا سيما أنه اُتّهم بمعاداته للمجتمع الحديث والحياة العصرية وأنظمتها، ولا يمكن ألا نلحظ هذا حين نقرأ ما كتب عن الرأسمالية والدولة والأسواق، لكنها آراء تسلط الضوء على أجزاء من الصورة الحقيقية لهذا العالم التي لا يذكرها أغلبية الناس ومنهم من لا يعرفها رغم كونه يعيش في داخلها ووفقا لها. ولا تعني عبقريته أنه يعطي جوابا لكل شيءٍ، على العكس تماما فهو يجيب عن بعض ما يطرحه من تطورات فكرية أو اجتماعية بـ لا أعرف أو لا أحد يعلم لماذا، أو يسبق جوابه بـ ربما. ويبدو كأنه ينطلق من مبدأ الثورة العلمية التي تقوم على الأثر الفلسفي اليوناني القائل بأننا لا نعلم. هذا الكتاب سيُغيّر نظرتك لهذا العالم ولن تراه بذات العين مجددًا.