إن الحركة النقدية الأوروبية الحديثة شهدت في القرن التاسع عشر توسعا ونموا وتفرعا كبيرا لا يمكن الإلمام بكل حركاته وسيرورة تطورها وصيرورتها بسهولة، بل الأمر أقرب إلى المستحيل بمكان، إذ لا بد من التفرغ الكامل لأدب أمة من الأمم بشكل كامل حتى يستطيع الباحث السيطرة على مادته وعرضها بالشكل المناسب والمفيد للقارئ، لكن ويليك في هذا الكتاب فهو يحاول الإلمام قدر الإمكان كما في كتابيه الأوليين بأبرز النقاد والحركات النقدية في الأرباع الثلاثة الأولى من القرن التاسع عشر، فيوزع كتابه على الأدب الفرنسي، والإيطالي، والإنجليزي والألماني، ويتناول لأول مرة الأدب الأمريكي متمثلا بشكل رئيس بإدغار الآن بو وصاحب النزعة الصورية الكلية والفلسفة المتعالية إيمرسون والأدب الروسي متمثلا بالناقد الشهير بيلنكسي والواقعية الاجتماعية. تناول ويليك في كتابه الثاني الحركة الرومانسية وأشهر روادها ونقادها وهي التي امتدت تقريبا حتى ثلاثينات القرن التاسع عشر، لكن في ذات الوقت كان هناك أدباء آخرون ونقّاد لم يكونوا رومانسيين أو وقفوا بالضد من هذه الرومانسية، وشهد هذا القرن في آخره الوصول إلى ذروة القومية التي صعدت شيئا فشيئا في هذا القرن وكان لها تأثيراتها على الآداب القومية، وإعلاء الروح الوطنية، والذاتية الأممية، والتأكيد على قيمة الرواية التي تتناول القضايا الاجتماعية أو الواقعية الاجتماعية كما لدى بيلنسكي في الأدب الروسي، وكان من أبرز الحركات الأدبية التي ظهرت في هذا القرن الواقعية (لا تجعلوا الأشياء أفضل مما هي عليه لكن لا تجعلوها أسوأ كما يقول الناقد الفرنسي سانت-بوف.)، والرمزية، والنزعة الصورية الكلية (دعوة إلى الدين الانفعالي الحدسي غير القطعي الذي يبحث عن تعزيز فلسفي بقدر ما يحتاج إلى فلسفة الإيمان كما يعرفها ويليك)، والكلاسيكية الرومانسية (فضائل الاعتدال والتنظيم والكلية والحس الحسن هي محورية في قائمة أفضلياته، ومحاولة التوفيق ما بين العقلانية التنويرية والعاطفة والنزعة الانفعالية.)، وعداء الرومانسية (كما عند الناقد الألماني أرنولد روج الذي وصف الرومانسية بأنها هي اللا مسؤولية، والخيال، والانغماس في التأمل، الانغماس في الحلم، الانغماس في الرغبة المرادة المتركزة حول الذات، إنها العالم مقلوبا رأسا على عقب. يتوسع ويليك في كتابه في تناول أبرز النقاد على حدة وطرح رؤاهم النقدية وآرائهم في الأعمال المعاصرة والسابقة لهم، الأسلوب الذي يجعل الكتاب فصولا منفصلة بعضها عن بعض وتحولها إلى بحوث في دراسات استعراضية للحركات النقدية والنقاد. ليقف القارئ فيها على عدد كبير من الآراء والرؤى النقدية الأدبية التي تشكلت، والتي كانت أغلبها قائمة على ذات الناقد أحيانا أو تأثره بالنقّاد وآراء السابقين له، لكن لا يمكن الإقرار إلا للقلة ممن تحدث عنهم ويليك بأن لديهم رؤاهم ومناهجهم النقدية كما لدى سانت-بوف وبيلنسكي، أو أصحاب رؤى أدبية غير متبلورة بالكامل كما لدى ماركس وأنجلز، في حين عند آخرين تجد أنها آراء تعتمد على الفهم الخاص والتحليل الشخصي المعتمد على القراءات والإدراك لمفهوم الأدب والفن ودورهما في تغيير المجتمع أو تصويره أو الانبعاث منه فيقول رسكين على سبيل المثال في كتاب “محاضرات عن الفن” محددا غرض الفن بأنه 1- فرض الدين على الناس. 2- تحسين حالتهم الأخلاقية. 3- تقديم خدمة مادية لهم.، كما تبرز بصورة واضحة الكتابات النقدية لبعض النقاد ومحاولتهم في تعريف النقد كما يقول سانت-بوف “إن فن النقد يتألف من معرفة كيف نقرأ مؤلَّفًا قراءة مشروعة، وتعليم الآخرين كيف يقرأونه بالطريقة عينها”، وتبيين مهمة الناقد كـ “أن يكون الناقد الحقيقي سابقا للجمهور يوجهه ويرشده”، و”أن الناقد ليس سوى إنسان يعرف كيف يقرأ ويعلم الآخرين القراءة أيضا”.
هذا وأكثر يرسم لنا الطرق التي شُرعت في بدايات النقد الأدبي الأوروبي الحديث وما نتج عنها من حركات فرعية أو جديدة، والتي دائما ما تقوم على نقد القديم وتجديده أو حتى الثورة عليه، وفي الأساس فإن النقد قائم على الإنتاجات الأدبية للشعراء والمسرحيين والرواة، ففهم هذه الحركات النقدية لا بد أن يسبقه قراءة وسبر غور هذه الأعمال ومواضيعها المعالِجة أو المطروحة، لتبرز لنا أهمية النقد كمصفاة تغربل الأعمال مخلصة الأدب من الأنواع الرديئة ورافعة الأعمال الجيدة، لكن هذا غير مضمون دائما، فالمعايير النقدية هي معايير شخصية وذاتية ولا يعني أبدا أنها معايير فوقية أو راسخة أو حتى صالحة لكل مرحلة أدبية، لكن بذات الوقت لا بد للناقد أن يكون مطلعا ومتمما للحركات التي سبقته بدون ضرورة الالتزام بها أو الثورة عليها، كما في الرومانسية الكلاسيكية التي حاولت التوفيق بين الاثنين.