نصوص

قابيل في المدينة

يهبُّ عاصفا رعدُ المدينة، وتنير شمعته عتمةَ الوجوه الحزينة

يَنزُّ المطرَ من ثدي غيمة عاصرا إياه بشبق

قطرةً قطرةً قطرةً، يقف وبيده الإناء 

يصرخُ فتصيحُ السماء ويرشف الناسُ ثمالةَ كأس الخوف

ترقدُ حكاية الأطفال المخنوقة في المهود

تزاحمُ ببؤسها الذَماء في الرُّموس

كلابُ الحي تعوي، وحميرنا تنهق مجيبةً النداء

سريةٌ، مرسولةٌ من أبولو حارس المدينة الجبان

مسروقةٌ، من شفاه عشتار الحزينة 

مطموغةٌ، بالدم الذي نزفته الريح الرهينة

مسدولة، فوقنا، كتاريخٍ ما عدنا نفهمه

يخبو سنا البرق، ندجو في بطن الرحى

طحينا، تنثرنا الأقدام فوق سجادةِ قابيل!

****

قابيلٌ في المدينة

 يهمسُ أخي في أذنُ صاحبته

يلمس كفهُ كفّها آخر مرة ويقبله آخر مرة

وتغمزُ أصابعه لأصابعها قبل أن يُضحّى بها لضبعِ قابيل

يمدُّ رأسه فتدعسه القدم الطويلة 

تتدحرج أفكارهُ التي لم يخبرنا بها 

كراةً بحجم الأرض، فُقّاعية الكينونة

بإظفره ينغزها ويتداعى عليه الماضي 

بوجه هابيل الذي تمزّق من كثرة وصفِ الشعراء

ما عاد يذكره، ويمضي الرأس المتدحرجُ إلى بِركةِ الجماد

يُنير المدينة همسهُ في أُذنه التي تُسقط الصوت 

تَحمله أسيرًا مئات السنين وتُكسّر بالقيد صداه

فوق مدينة ما عَرفت قبل اللحظة قابيل

****

يمدُّ وجهه ومن شاربه الكثِّ تتسلل قطةٌ

نحو الكتف تركض أياما كثيرة

ثُمَّ تهوي في جيب يرقد فيه الهاربون

تموء القطة

يسمعها قابيل

ويضحك

يمشي وعْينا الضبع تجولان حول الخندق

تحت القُبة موعدنا، سيأتينا قابيل

فأسه الكبيرة تقطر منيًا سلبَ طُهرَ البكارة

في الظلمة ينهضُ الجنينُ مسروقةٌ من وجهه البراءة

ويحثُّ الخُطى إلى المَجْمع مخلوقا جديدا 

يُقسم بالدم والخبز والنار والماء

 لا تنكثه الصراعات بين الأرض والسماء 

يُقبلُّ ظفره الذي سقط على رأس عابدٍ، يوما، ففجّه!

****

نحنُ البُغاةُ في حضرة الغياب المستديم

نتعرّى فتتساوى الأنواع في منظار النجوم

أعمى بحِضْنِ أعمى في عربة يجرها حمار هزيل

تمضي بنا ليُردَّ لنا أفئدة سلبها الانتظار شعلة الإبصار

والطُرقُ الطويلة تغض الطرف عنا 

بلا تذاكر نمرُّ إلى وسط الشيء الممزقِ بطعنات اللا شيء

نقاوم بفراغ الظُلمة سُعالَ دربٍ يخطفُ السَمعَ

  وفي الجانب الآخر تنام حبيباتنا 

تتدلى من نهودهن مصوصةِ المَغير

 مرارةُ أجيال بلا ظلال

بؤس آمال تحاصرها الآجال

وترجُّ خُطاه كهفًا ما خرجنا منه يوما 

تخضّنا ضحكته من آخر الدرب 

ترفعنا وتطيّر أفئدتنا خوفا وهلعا

 تنخلع الأعين المُطفأة من عظام وجه مسحوق

لترطمنا بعتبة الباب الكبير

حيث الكل هُنا

عراةٌ

خُطاةٌ

ينتظرون رؤية قابيل

****

تنادي عفاريت المدينة 

من شُرفة السرمد المطعون بسنان حجارة صحراوية

سيصلُّ؛ عجّلوا 

عجّلوا جميعا

بتلك الخيرات التي يراها بخطواته الثقيلة المستقيمة

 ****

ما بقي إلا الأنفاس فخذها

يكلمُّ أحدنا نفسه 

أكبر من أن نراه 

وأصغرُ نحن من كل شيء ينفعه 

****

وقع أقدام جبارة 

تدوس الأحلام قبل النفوس 

تُعمِّدها بالفشل المتدلّي من ثوبه

حفيفُه يغلبُ الريحَ فتسكن 

وتلحقُ طائعةً بلاد الأسلاف القديمة

لتموت بين أجدادها

خطوة تلو أخرى تقترب الساعة التي ما عرفناها

نهار مُظلم أو ليلٌ هذه الحُلكة 

الوقت في المدينة قد غاب مع الوجه الصاعد إلى كهفنا

 بعيدًا عن مأمنٍ لا يقبلُ بنا 

يجرُّ كلَّ ما مرَّ به من الشرق إلى الغرب 

تركضُ خلفه الجدران والأبواب والغيوم والبساتين 

في مسيرةٍ ترقصُ 

وتغرقُ في آثاره وتزول 

طويل لا ليس طويلا بل نحن القصار

قوي لا ليس قويا بل نحن ماذا؟ 

لسنا هنا ولا هناك 

ذبابة تطنُّ حول ذيل ضبعه 

وننتظر…

****

ليلٌ هو الإنسان 

بلا قمر أو نجوم 

تائه في حيرته والتيه الذي بنيناه بالصخور

لا نسمع وقع خطواته 

مرَّ كأن لّمْ يمرْ 

نبحث في الأعين فلا نرى فيها سوى السواد 

يلفنا 

وقابيل ما عاد هنا 

يرحلُ مثل رحّالة يسيحُ ويصيح في منامه: 

هل من مزيد؟ 

 لكن الليل ما زال 

يطوي صفحات النفوس

ما أخوفنا منه 

الليل، قابيل، ما نبصره

نشربُ الظلمة وتتشرّبنا 

نتوحّد في صمتنا 

وطول مكثنا في الانتظار 

مضى لن يعود 

نكذب أنفسنا وما نبصره

نعتنق دين قدومه 

وارتطام الحجارة فوق الرأس

لا لن نكفر بالرحيل 

سيأتي بل هنا 

الليل، قابيل، ما نبصره

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى