رواية الأم – مكسيم غوركي
حين يكتب الكاتب رواية عن قضية ما فيبدع فيها، وينقل وقائعها كأنه جزء منها، يناله المديح والثناء لجهوده في هذا العمل، لكن إن كان الكاتب هو جزءا من الواقع الذي ينقله، فهو لا يكتب بقلم الخيال، بل بقلم الواقع والصلة بعمله. مكسيم غوركي، الثوري حياةً وعملًا، ومؤسس المذهب الاشتراكي في الرواية، ثبّت له بروايات كثيرة ومسرحيات مكانًا بين تلك النخبة الأدبية الذهبية في الأدب العالمي والروسي. حياة حافلة على المستوى الشخصي وعلى مستوى الأدب، كانت رواية الأم واحدة من تلك الأعمال الخالدة والمميزة في تركته للعالم من إرث أدبي. تدور هذه الرواية عن بدايات شيوع الفكر الاشتراكي في روسيا، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، لحماية العمال وطبقة البروليتيارية، التي سُحقت تحت رحى الإمبراطورية وسياسة سلطة القيصر الديكتاتورية، وجلاوزة نظامه، الذين كانوا الحجر الذي يُلقم به كل من يحاول أن يقول لا، أو يقوم بأي ردة فعل ساخطة تجاه نظام الحكم والسيطرة. شكل شخصيات الرواية بذرة مجموعة الصحوة الأول، كبافل وأندريه وساشا ونيقولاي، هذه المجموعة التي كبرت شيئًا فشيئًا، فأصبحت حركة تضم العمال والفلاحين والنساء والرجال بمختلف الأعمار على حد سواء، فكانت هذه الشخصيات محورا رئيسا يدور وينمو بتقدم الزمن وإطالة عمر الظلم الذي يرزحون تحته. شكلت شخصية الأم بيلاجيا، الواجهة والعين التي من خلالها نُقلت أحداث الرواية على مستوى العام بوصف الوقائع والأحداث وعلى مستوى المشاعر والفكر الاشتراكي الذي يتضح خطوة بعد أخرى. استخدم مكسيم كلمة “الأم” فقط في أغلب الأحيان ليضفي على الشخصية بعدا آخر. ولشخصية الأم بيلاجيا في هذه الرواية بعدان، تمثّل الأول ظاهريا وهو الذي عرفه القرّاء وعاشوا معه، بداية من كونها امرأة لعامل يسيئ معاملتها إلى أرملة تعيش مع ابنها الذي بدأت تراقبه كيف تتغير حاله إلى أن أصبح بافل تلك الشخصية القيادية في وسط الناس الذين عمل على تحريرهم من ظلام العبودية والصمت الذي مص دمائهم، ونهش لحومهم، ودور الأم هنا كان المراقبة ومحاولة الفهم وعدم التدخل وتوفير الجو المناسب لابنها وأصدقائه، ثم الاشتراك بعد أن مسكت بعض الخيوط من فكرهم ومن دعوى تحررهم من هذا الوضع الذي اقتات على قواهم لسنين طويلة، أجيال بعد أخرى، ثم أصبح للأم دور في هذه الحركة الجديدة التي تهدف ليحيا العامل والفلاح والإنسان الروسي الكادح حياةً كريمة تضمن له ولأسرته حياة كريمة، والأم شيئًا فشيئًا يزداد إعجابها وتقبلها لهذا الفكر الذي يعمل كمعول يهدم صخور حجزت الحقيقة خلفها، وريحا شتت الغيوم التي حرمت البشر من شمس الحرية. أما الدور الآخر فهو البعد الرمزي للأم، فهي الأم الرؤوم التي ضمت لحضنها الجميع، من تعرفهم ومن لا تعرفهم، فتساعد تارة في العمل، وتداوي الجريح تارة أخرى، وعاملة صاحبة صوت، لا بُدَّ للسلطة أن تسمعه، فكانت امرأة الفكر، بل هي الفكر الاشتراكي، فقد صوّر مكسيم حياة الأم وصفاتها وأعمالها وتأثيرها وتضحيتها تصويره للفكر الاشتراكي، الذي لو كان إنسانًا فسيكون الأم بيلاجيا، فهي لم تكن مجرد أم لبافل بل كانت هي الفكر الذي ينشره بافل هي الأمل والحنان والمستقبل والعدالة التي ينشدها ابنها وأصدقاؤه وكل من سلك طريقهم، فرمزية الأم هي الاشتراكية التي تدور الرواية حول بدايات نشوئها حتى وصولها لمرحلة التصادم مع السلطة، بغض النظر عن النتائج التي كانت سلبية ظاهريًا، وذات مفعول وتأثير قوي في العقول والأفكار، فإن كان الفشل مصاحب لمبدأ التصادم والقوة البدنية والسيطرة على الأجساد لكن المفعول الحقيقي ظهر تأثيره في النفوس، فتكسرت تابوهات الخوف والعبودية، وأضحت الحقيقة التي حارب بافل والأم والرفاق لأجلها جلية وواضحة للجميع كالقمر في الليل البهيم.
ومن الجدير بالذكر فالاشتراكية التي يُصفها مكسيم ليست مجرد فكر ومنهاج حياة، بل هي دين لمن لا دين له، فيعتنقه كل من يؤمن بها، لذلك كانت صفة الاشتراكية الروحانية تجاه الله هي الإلحاد، فهي ليست مناهجًا اقتصاديا واجتماعيا فقط، بل كذلك إيمان وعقيدة نكران لأي إله غيرها، فشخصيات الرواية كلها ملحدة، حتى الأم التي تؤمن بالمسيح في حالة شك دائمة من وجود الله. الرواية ثورية لا تقل عن الروايات التي تصارع قوى الدكتاتورية والنُظم التي تُسيطر على البشر وتستخدمهم لمصالحها، دون أن تكترث للمصير الذي قد يؤولون إليه، عمل متصاعد على مستوى الفكر والتنظيم الذي رتب أركان الرواية أو قدّم على دفعاتٍ تطور الحركة الاشتراكية من اطلاع وقراءة إلى تجمع ونقاش إلى تخطيط ونشر للفكر إلى أن يصل لذروته في الاصطدام المباشر مع الشرطة التي هي الإمبراطورية والقيصر. بعيدا عن الفكر الاشتراكي الذي سيطر على روسيا لقرن من الزمن والذي لم يكن أقل دكتاتورية من الإمبراطوريات القيصرية والذي كان أحد نتائجه سفّاح ومجرم كستالين، وجرائم النظام الشيوعي والتي كان غوركي أحد ضحاياها، فإن المستقبل والفكر والعدالة التي كان يحارب لأجلها بافل والأم والرفاق، أثبتت الأيام فشلها وأنها ليست كما كانوا يتصورون حين تبلورت على أرض الواقع وكان لها القول الفصل في قيادة الدولة والحكم.