نزهة في رواية الحمار الذهبي
هي أول رواية في التاريخ الإنساني تصل كاملة إلى أيدينا، للكاتب الأمازيغي لوكيوس أبوليوس، وعلى الرغم من وجود رواية ستيريكون لغايوس بيترونيوس قبلها فإنها وصلت ناقصة. اعتمد لوكيوس في كتابة قصص الواردة في روايته هذه على المصادر اليونانية، لذلك خرجت من كونها عملًا إبداعيًا إلى عملٍ اقتباسي تقفى أثر أعمالٍ سابقة.
جو الرواية يوناني بسبب اعتماد لوكيوس على الآثار اليونانية، لكن الرواية ليست مجرد ترجمة للآثار اليونانية، لكونه أضاف إليها وغيّر في مسارها بأسلوبه، وأخذت مسارًا مختلفًا عن أحد أعمال لوقيانوس الذي يحمل عنوان لوكيوس والحمار.
بدأ الاهتمام بهذه الرواية في الأدب الإنجليزي والفرنسي والإسباني والعربي، بقصص وروايات وموسيقى وفن التشكيلي والمسرحية وخاصة قصة أمور وبسيشة.
يأخذنا لوكيوس في روايته إلى عالم يلفه السحر والآلهة والمغامرات، فبعد أن يتحول بفعل مرهم سحري إلى حمار؛ تنطلق رحلة الحمار في هذا العالم.
لنبدأ نُزهتنا مع لوكيوس، الرواية مؤلفة من قصص داخل قصة، فتسرد القصص عن طريق الحمار أو ما يسمعه الحمار ممن ملكه. فشخصية الحمار هي الشخصية الرئيسة التي تدور حولها القصة، والحمار هو الراوي والناقل لكل القصص التي كانت اللبنة الرئيسة لهذه الرواية. ومن أهم هذه القصص: قصة بسيشة التي تتزوج إله الحب كوبيدو وما يلحقها من عداء أختيه، ثم غيرة فينوس إلهة الجمال وفقًا للميثولوجيا اليونانية، وقصة بسيشة وأمور من القصص التي اشتهرت بها الرواية أكثر من القصص الأخرى، وفُسرت عدة تفسيرات لا يغني القارئ شيئًا سوى قراءتها والغوص في أحداثها.
إن هذا الأسلوب الروائي المتميز في كونه يجمع ما بين القصة والرواية داخل عمل أدبي روائي واحد، ويزيد تميزه في كونها أول رواية في التاريخ الإنساني.
دور الحمار في الرواية، واستحواذه على مكانة مميزة في الرواية لم يتوقف حيث بدأ، بل استمر هذا الموروث الأدبي ليكون الحمار شخصية مميزة في عالم الرواية، حضر في الأدب العالمي. للاستزادة قراءة مقالتي “الحمار والرواية”.
من خلال أحداث الرواية الكثيرة هناك رسائل واضحة أراد لوكيوس من القرّاء الانتباه إليها والتوقف عندها:
– حقوق الحيوان: إن معاملة الحمار السيئة من بعض من تعاقبوا على ملكيته، وضربه والإسراف في أذيته، هي نقد لعادة اجتماعية متمثلة في التعامل الرديء مع الحيوان، فكان لوكيوس يدافع عن حقوق الحيوان من خلال إبراز مدى ظلم الناس للحيوان وعدم الرأفة به إلى درجة قتله وضربه حتى من دون مبرر، ليكون الحيوان مطية وشريك سفر ولما تنتهي مهمته يُتخلص منه بكل سهولة ودون تردد، بفعل ينافي القيم الإنسانية في التعامل الرحيم مع الحيوان.
الخيانة الزوجية: تناولت الكثير من القصص المذكورة الخيانة الزوجية بطريقة تُندد وتزدري هذا الفعل الفاحش، وكونه مرضًا اجتماعيًا يمزق الأسرة، وعدم صون النفس عن ملذاتها والإنجرار خلف رغبات الجسد وشهواته بطريقة حيوانية غير مسؤولة، وهنا برز دور لوكيوس الاجتماعي، في تسليط الضوء على هذه النقيضة الأخلاقية، وكان عاقبة الخيانة دومًا سوء المآل والنتيجة، ودعوة للحفاظ على الأخلاق الحميدة، ومن يقرأ الروايات التي ظهرت في عصر التنوير وما لحقه مثلًا، ودعواتها الماجنة والخليعة في تزيين هذه الفعلة القبيحة كما في رواية الفرسان الثلاثة لألكسندر ديموس، حيث يصور المرأة العاشقة صاحبة العلاقة مع رجل آخر، بمظهر البطلة والعشيق بزي الخيّرين، هي تمايز واضح بين الانحدار الأخلاقي، والدعوة للرذيلة، وبين محاربة الآفات الاجتماعية والحث على الأخلاق الفاضلة، لتبرز قيمة الرواية ليست في كونها مجرد قصة بل رسالة أخلاقية وتوعوية لكل العصور والمجتمعات.
الشذوذ الجنسي مع الحيوان: تدفع المغامرات حمارنا إلى إجباره إلى ممارسة الجنس مع المرأة، وهذا تصوير واضح ونقل للبعض الانحرافات الجنسية التي مُني بها الإنسان، فتجعله يمارس الجنس مع الحيوان.
العروض الإباحية (البورنوغرافي): يجتمع الناس بعد أن يُذاع صيت هذا الحمار الذكي لمشاهدته يمارس الجنس مع مومس، في مسرح يُجهَّز بكل وسائل الراحة، من آرائك ووسائد وفراش وثير، وهذه أيضا لفتة مهمة عن الانحدار الأخلاقي التي سلّط الضوء عليه، والذي بقي مستمرًا حتى يومنا هذا، ولم يكن هذا العرض الإباحي أمام جموع الناس بين امرأة ورجل بل ما بين حمار وامرأة، وهذا أردى المستويات الأخلاقية التي مارسها الإنسان، واشمأز منها الحمار، وهرب بعيدًا، فلم يشأ أن يدنس نفسه في مثل هذا العرض، خوفًا من مصير مجهول.
التمثيل المسرحي: وفيه يصف الحمار تمثيلًا مسرحيًا، لرجال ونساء يمثلون قصة على المسرح أمام الجمهور، قبل العرض الإباحي المنتظر، وهنا نقل لوكيوس الفن المسرحي، وشيوعه قديما لدى البشر.
فساد القضاء: القضاء الفاسد عدو لوكيوس، إذ يُظلم الناس بسبب قضاة مرتشين، ويفقدون حياتهم، وهنا نقد سياسي واضح، لفساد أهل السلطة والحكم، وتصويرٌ لمدى بشاعة الإنسان وقدرته على الظلم من أجل ثمن بخس، وهو يتولى منصبًا من أشرف المناصب.
إن هذه العبر والوقفات الأخلاقية في هذه الرواية، والتي كُتبت قبل ما يقارب الألفي سنة، ما زالت إلى اليوم منتشرة وبكثرة، وإن دلّ على شيء فهو أن العجلة الأخلاقية البشرية قد تعطّلت وما زالت إلى اليوم بحاجة لمن يصلحها، ويقوّمها، وهنا دور الأديب والروائي في جعل منتوجه ذا قيمة أخلاقية ورسالة اجتماعية بنّاءة قبل أن تكون عملًا أدبيا فنيا، فالأدب بلا هدف أخلاقي لا يعدو عن كونه عملًا بلا تأثير ولا أثر، وكفى بنا شاهدًا، لوكيوس ورواية الحمار.
كُتب بتاريخ 19-9-2017