قصة إبداعية تخيَّلية كتبها لوقيانوس دوَّن فيها مشاهد رحلته العجيبة في البحر والسماء بين الجزر الغريبة التي لا مثيل لها وما واجه من أخطار ومُلمَّات مثل الحوت ومعارك القمريين والشمسيين. يُمهِّد لوقيانوس لقصته هذه بما يُوضح فيه سبب كتابته لها ويكشف عن استخدام ما بات يُعرف اليوم بما وراء القص (Metafiction)، فهو ساخط وناقم على السابقين من مؤرخين وشعراء وفلاسفة ممن كتبوا عن أشياء لم يَرَوْها وكأنها حقائق دامغة وأحداث وقعت بما لا يقبل الشك ولم يقولوا لقرَّائهم أو مستمعيهم إنَّ هذه الحكايات الخرافية والقصص الأسطورة أكاذيبُ فقط، وإنَّه في قصته هذه يكتب بدافع الدعابة والتهكم والمحاكاة الساخرة لمواضيع أولئك فهو وإن يكتب الأكاذيب فهو يعترف للقارئ منذ البداية أنَّ ما يكتبه أكاذيب محضة لا أكثر ولا أقل. فيذكر من هؤلاء الذين يخصُّهم بالكذب العمد المؤرخ هيرودوتس وستيسياس ولامبولوس وأوديسيوس بطل هوميروس وما قصه من أكاذيب على ملك الفياكيين، ألكينوس. يقول لوقيانوس “إني، وبفضل غروري، كنت متحمسًا لترك شيء للأجيال القادمة حتى لا أكون الوحيد المُستثنى من امتيازات الإجازة الشعرية، وبما أني لا أملك شيئًا صحيحًا لأقوله، وليس لي أيُّ مُغامراتٍ شائقة، فقد شرعت بالكذب. لكنَّ كذبي أصدق كثيرًا من كذبهم، فمع أني لن أقول الصدقَ في الآتي فسأقرُّ في الأقل هنا صادقًا أني كاذب. وحسبي أن بمقدوري الفرار من رقابة العالم باعترافي الذاتي بأني لن أقول كلمة واحدة صادقة. وليكن معلومًا إذًا بأني أكتب عن أشياء لم أرها قط ولا علمتها من الآخرين، وهي في الواقع، غير موجودة على الإطلاق، ووفقًا لطبيعة العالم فلا يُمكن أن تُوجد. لذا فواجب على قرَّائي ألا يصدقوا بأي شكل من الأشكال بما كتبته”.
تُجلي هذه الكلمات الصدأ عن حقيقة أنَّ تقنية ما وراء النص، التي استخدهما كتَّاب ما بعد الحداثة في النصف الثاني من القرن العشرين، قد استخدمها من سبقهم لكن الفرق أنَّه عاش في القرن الثاني للميلاد. فهم كما لوقيانوس يشددون فيما يكتبون على حقيقة أنَّ ما يكتبونه خيال فحسب وليس له ارتباط بالواقع بأي شكل ولا صلة له بالحقيقة بل هو خيال محض.
إنَّ الهدف يتضح هنا هو تسلية القارئ بقصص مُختلقة وحكايات مكذوبة، كما تبرز لدى لوقيانوس غاية النقد والتهكم والسخرية ممن كتبوا ولم يُقرِّوا بأن ما يكتبون هو محض خيال غير موجود. فهو لا يريد التماهي مع الواقع وأن نصه منفصل عن الحقيقة انفصالا تامًا. يرى بعضهم أنَّ هذا النص رواية قصيرة أو نوفيلا لكنها لا تكشف عن أي بُنية روائية ولا براعة فنية فهي تدوين مشاهدات في رحلة بين جزر البحر وما حصل للبطل ورفاقه في هذه الرحلة، وتجري بخط زمني تصاعدي واحد، والسرد بضمير المتكلم في الزمن الماضي، وليس ثمة صوتٌ سردي آخر في النص، ولا نرى تطورًا في شخصية السارد، ولا نكاد نشعر بوجود برفاق السارد، لوقيانوس نفسه، وحتى الشخصيات التي يلتقون بها في الجزر التي يصلون إليها لا تكشف عن عمق نَفْسي ولا حضور شاخص فالشخصيات جميعا أشبه بصور متحركة ومتكلمة فقط، والنص مُقسَّمٌ إلى فقرات متصلة تمثل كل فقرة جزيرة أو حدث يمر به السارد ورفاقه، ثم يتكرر أسلوب الفقرات التي تفرق إحداهما عن الأخرى في التفاصيل تقريبًا فحسب، لذا فيمكن وصفها بأن مجموع مشاهدات أو مجموعة قصص لرحلة واحدة، كما أني قرأت مكتوبًا في غلاف الترجمة العربية، ترجمة عادل داود، لهذا النص “أول رواية في تاريخ الخيال العلمي كتبها في القرن الثاني الميلادي لوقيانوس السميساطي” وأرى أنَّ هذا الوصف غير حقيقي بتاتًا ولا نرى في النص أي خيال علمي بل خيال بشري إذ لا دور للعلوم في نص لوقيانوس وكل ما يصفه من عجائب الطبيعة حتى الرجال المشاة الذي يستطيعون الطيران باستخدام ثيابهم كأشرعة لا يذكر شيء عن هذا الطيران مرتبطٌ بالعلم. لكن هذا لا يقلل من قيمة النص وما يصفه من عجائب وصنائع بديعة لم يعرفها البشر، فالنص عجائبيّ وقوَّته في جموح خياله وإن كانت بعض المخلوقات أو الأحداث يعتمد فيها على ما ذكره سابقون ويستحضره بإحالة هازئة أو محاكاة ساخرة. ومن العجائب التي يذكرها لوقيانوس في نصه جزيرة ذات نهر ماء وآخر خمر، وأشجار ذات جذع امرأة، ومخلوقات العملاقة وهو أكثر ما تميَّز به النص، إذ كبر الحجم المخلوقات يُضفي عليها العجب فتوجد النسور الكبيرة الحجم المستخدمة خيولا، والنمل الكبير الحجم، والطيور الضخمة جدًا، والبراغيث العملاقة، والبعوض بحجم مهول، ورجال بوجوه كلاب، والخيول المجنَّحة والدلافين الكبيرة، وعن جنس لا نساء فيه ويتكاثرون بزواج الرجال لبعضٍ ويلدون الأطفال بعد أن يحبلوا بهم في عضلة الساق، ورجال يُولدون بالزراعة لا يموتون بل يتحولون إلى دخان يتلاشى في الجو، وحيتان ضخمة لا سيما ذلك الحوت العملاق جدًا الذي يبتلع سفينتهم ويجدون بداخله جزرًا وغابات وناسًا، ورجال شُعورهم ألسنة لهب، ورجال أقدامهم من الفلين لذا فإبمكانهم السير والجري على الماء، ونساء البحر، وغير ذلك من العجائب. ومن الجزر التي يصل إليها جزيرة النعيم الأبدي التي يلتقي فيها رجالًا سابقين من شعراء وأبطال حقيقين وخياليين فيلتقي بهوميروس وأوديسيوس وألكسندر المقدوني وهيلين الجميلة فيحاورهم بعد أن يمكث في الجزيرة سبعة شهور، فيسأل هوميروس عن اسمه الحقيقي وأصله، ويطلبُ أوديسيوس منه أن يُوصل رسالته إلى الإلهة سيرسي في جزيرتها سائلًا إياها إن كان عرضها ما زال قائمًا بشأن زواجهه ومنحه الإلوهية والشباب الخالد، وما تزال هيلين الخائنة على عادتها لم تتبْ منها. ويصل بعدها إلى جزيرة العذاب وجزيرة الأحلام قبل أن يصل في آخر المطاف إلى عالمه الذي جاء منه مع عددٍ من رفاقه الذين نجوا في هذه الرحلة.