الملحمة الثانية للشاعر الإغريقي هوميروس التي يقص فيها رحلة عودة صاحب فكرة حصان طروادة الخشبي أوديسيوس ابن لايرتيس إلى موطنه في جزيرة إيثاكا وكيف تمددت الرحلة ذات الشهر الواحد إلى عشر سنوات كاملة تحمّل فيها ورفاقه شتّى صنوف المخاطر والأهوال في البحر قبل وبعد انتقام إله البحر بوسيدون.
لا نملك معلومات كثيرة عن أصول الأوديسة أو زمن نظمها (أو حتى هل ثمة نوع التدوين استعان به هوميروس) أو هل هي فعلا لهوميروس. أسئلة عديدة تدور حول الأوديسة ولا تفرق كثيرًا عن تلك التي ما زالت مُثارة حول الإلياذة ويتفرَّق الدارسون لها على ملل ونِحل في تضارب وتعارض في الآراء. فمنهم من قال إنَّ شاعر الأوديسة مختلف عن شاعر الإلياذة، وإنَّ في الأوديسة إضافات كثيرة سواء في الأناشيد التليماكية (الأربعة الأولى) أو في النشيد الرابع والعشرين، إضافة إلى تغيَّر العادات الاجتماعية والطقوس التي استُدلَّ عليها مع تطور علم الآثار وتوسع إمكانيات البحث فيه، مما يجعل الأوديسة مادة خصبة للدراسة والمقارنة مع الحقب التاريخية التي ترد أو محاولة الربط مع كتابات اللاحقين لعصر هوميروس رغم أن عصره من العصور المظلمة التي لا يُعرف عنها إلا القليل القليل. وتؤدي كل هذه الاختلافات وقلة المصادر التي يمكن الرجوع إليها والاستناد عليها في إطلاق الأحكام إلى الأخذ بأن هذا العمل وسابقه هما لهوميروس والأساس في هذا هو الدراسات والأبحاث اللغوية والنقدية المبنية على ذات العمل، كالبحث الذي كتبه العالم الأمريكي Milman Parry ونشره في باريس باللغة الفرنسية في عام 1928 وتُرجم إلى الإنجليزية من قبل ابنه في عام 1971. عمل باري في البحث على دراسة الأوديسة لغويًا واكتشف أن هوميروس عمل على “إبداع” جملة من التراكيب والعبارات الوصفية لكي تلائم الأوزان الشعرية التي يكتب فيها وعمل حتى تغيير اسم أوديسيوس ولفظه بأنماط صوتية مختلفة لتحقيق التوازن والتناغم الشعري. وكذلك أثار باري العديد من الأسئلة من أهمها، كما يذكر بيرنارد كنوكس في تقديمه للأوديسة بالترجمة الإنجليزية لروبرت فاغليس، أن هوميروس قد يكون أو لا يكون إميًّا مثل سابقيه لكن في وقت ما قد دُوِّنت الإلياذة والأوديسة. لكن متى، ومِنْ قبل مَنْ، وما الغرض، وما الظروف التي كُتبت فيها؟ تبقى أسئلة بلا أجوبة.
يلاحظ في الأوديسة اختلافات أسلوبية وبنيوية وموضوعية واجتماعية عن الإلياذة مثل زمن المادة المروية ما بين القصر في الإلياذة وبين التمدد الطويل في الأوديسة، ودور الآلهة ما بين الحضور الفاعل ذي التماس الكبير مع الفانيين وبين تقلص دور الآلهة على نحو كبير ويكاد يغيب لولا بعض التدخلات العلوية التي تتحكم بمصير أوديسيوس، والوجود الأنثوي ما بين شبه المنعدم في أحداث الإلياذة والحضور الشاخص للشخصيات الأنثوية ودورهن الفاعل في الحدث سواء بشرًا كنَّ أو إلاهات أو غير ذلك، والتنوع في مكان الحدث الأرضي فثمة أماكن متعددة في رحلة العودة وإيثاكا في الأوديسة في حين تقع الإلياذة فوق أرض طروادة فحسب، وتعدد مسارات الأحداث ففي الأوديسة لدينا (مسار رحلة عودة أوديسيوس، تيليماكوس والخطَّاب ورحلته للتقصي عن أخبار أبيه، بينيلوبي والخطَّاب) أما الإلياذة فهي تدور حول حرب وحصار طروادة فقط، وتعدد الشخصيات الرئيسة الموجِّهة للأحداث في الأوديسة (أوديسيوس وبينيلوبي وتيليماكوس) أما الإلياذة فهي عن غضبة آخيلوس وهي منظومة في مجده. وربما مصداق هذا الافتتاحية التي يطلب فيها الشاعر من ربة الشعر في الإلياذة أن تُحدِّثه عن غضبة آخيلوس، في حين يترك المجال مفتوحًا لها أن تُحدِّث من حيث تشاء. وهذا الطلب يفسِّر لنا كذلك البدء في الأناشيد التليماكية ثم العودة إلى أوديسيوس (حيث يتحرر من جزيرة الإلهة كاليبسو -اسمها يعني غطاء أو إخفاء- التي تحتجزه مدة سبع سنوات ثم يصل إلى جزيرة الفياكيين، حيث يقص عليهم فيها ما وقع له في السنوات التسع الماضية) ثم يلتقي مسار الحدثين في النشيد الثالث عشر فوق أرض إيثاكا بعد أن يصل أوديسيوس. فثمة هنا مساران زمنيان وعجلتا أحداث يجتمعان ليشكلا مسارًا زمنيًا وحدًا وعجلة أحداث واحدة. لكننا لا نرى هذا الأمر في الإلياذة التي تأخذ تقدما نحو الأمام في عجلة أحداث واحدة وإن بدأ الشاعر بروي الأحداث ابتداءً من السنة التاسعة لا الأولى ولم يتلاعب بالزمن ما بين الزمن الآني والزمن الاسترجاعي.
تُثير هذه الاختلافات الأسلوبية الأسئلة المشككة حول شاعر الملحمتين فمثلا هناك من يشكك بوجود الأناشيد الأربعة الأولى وأنها جزء من الأوديسة. وعلى الرغم من كون هذا التشكيك ليس بمحله إذ البحث عن الذات عند تيليماكوس والمتمثلة في البحث عن أبيه جزء رئيس من العمل يتهاوى جزء كبير منه ويخرِّب العودة بالكامل لو لم توجد هذه الأناشيد مما يجعل الملحمة فاقدة لتلك القوة العاطفية لشخصياتها والتصوير النفسي لتليماكوس الذي يلعب دورا في الأحداث أو التآمر عليه أو علاقته بأمه التي لم تكن بالمثالية بعدما شبَّ وبدأ مرحلة البحث عن الذات والتوجيه والإشارد المتمثلة في أبيه ملك إيثاكا. يقدم روبرت كنوكس تفسيرًا لهذه البداية بالأناشيد التليماكية “في كونها تقديما مهما للعمل وتحضيرا لعودة البطل دون قطع التسلسل الزمني ومسار الحدث المتزامن مع عودته لو لم يقدم له هوميروس ويهيئ الأحداث التي تلي عودته لمستمعه، وبذلك فإن هذا الابتداء بالأناشيد التليماكية يعطي خلفية للمستمع بالحال التي تنتظر أوديسيوس في إيثاكا، إضافة إلى تقديم تيليماكوس وبينيلوبي والحالة النفسية لكليهما”. ويكتمل تقديم الصورة الشاملة عن إيثاكا أو الاستباقية لما سيحدث من خلال ما تعرَّض له أوديسيوس في رحلة العودة، إذ يبتدئ الأمر بدعاء السيكلوب العملاق ذي العين الواحدة، بولوفيموس، ألا يعود أوديسيوس إلى موطنه إلا بعد أن يعاني، وبلا رفاقه، وعلى متن سفينة أجنبية، ويلاقي المحن في وطنه، ثم بنبوءة طيف العرّاف الضرير تايريسياس الطيبي الذي يلتقيه أوديسيوس في منزل الأموات (هاديس) ويحكي له ما سيجري في غيابه في إيثاكا من استنزاف الخطّاب لخيراته وشرب خمره ومغازلة زوجته وطلب يدها وما سيلاقيه من محنة هناك ثم يرشده لطريقة فكِّ لعنة بوسيدون الذي ينتقم منه بعد أن فقأ عين ابنه السيكلوب بولوفيموس مستجيبًا لدعائه. إذن فلدى المستمع/ القارئ معرفة مبدأية بحال إيثاكا من خلال التقديم لها عبر الأناشيد الأربعة الأولى وكذلك لدى أوديسيوس معرفة مبدأية عن حال الوضع في منزله وما ينتظره وأنَّ رحلته الشاقة لن تنتهي بمجرد أن يطأ سواحل إيثاكا بل إنَّ ما ينتظره لا يقل خطرًا عمَّا مرَّ به في رحلة العودة. كل هذا يجعل من الأناشيد الأربعة الأولى أصيلة وجزءًا من الأوديسة ولا يمكن بحال من الأحوال أن تكون مضافة إذا ما اقترنت مع محتوى الأناشيد اللاحقة. وقد يمكن أن يكون تسلسلها في موقع آخر لا البداية إلا إن الشاعر سيواجه إشكاليتين: الأولى في قطع سلسلة أحداث عودة أوديسيوس ثم تلو الأناشيد الأربعة ثم العودة مجددًا إلى سلسلة أحداث العودة، وهذا يعمل على تشتيت المتلقي لا سيما وأن المتلقي هنا مستمع وقد يجري الإنشاد للأوديسة على أوقات مختلفة لا مرة واحدة. والأخرى إنَّ الشاعر يفقد المزية الأسلوبية لجمع حدثين رئيسين منفصلان زمنيًا ومكانيًا- في زمن واحد ومكان واحد دون الإخلال في نقطة الالتقاء زمنيًا ومكانيًا التي ينطلقان إليها في وقت واحد تقريبا -(إذ يتزامن تحرر أوديسيوس من قبضة كاليبسو ثم عودته إلى إيثاكا مرورا بجزيرة الفياكيين [يروي لهم قصة عودته بأسلوب الاسترجاعية] مع ذروة الأحداث ما بين تيليماكوس والخطَّاب في إيثاكا التي يغادرها من أجل استقصاء الأخبار عن أبيه في الأناشيد الأربعة ثم عودته إليها في النشيد السادس عشر)- لو لم يستهل الملحمة بالأناشيد الأربعة إذ سيتوجب عليه إيقاف الزمن وأوديسيوس في إيثاكا ثم تلو الأناشيد التيليماكية، ليعود الشاعر بعدها إلى أوديسيوس ولقائه مع ابنه في إيثاكا. ثمة في الإشكالية الثانية عقبة ستشوش المستمع والقارئ وحتى الشاعر نفسه إذ عليه أن يتعامل مع حدثين منفصلين زمنيا في مكان واحد فمن غير المستساغ أن يعود أوديسيوس إلى إيثاكا ليوقف الشاعر زمن الأحداث في إيثاكا ثم يعود إلى أحداث ما قبل وصول أوديسيوس في إيثاكا لا سيما أننا نعرف أنَّ الغرض الرئيس هو عودة أوديسيوس إلى إيثاكا. لذلك فإن الأناشيد التي تخص أوديسيوس متسلسلة عكس لو قطعت بالحديث عن تيليماكوس ثم الالتقاء بين الاثنين والانتقام من الخطَّاب سيبدو أن أحداث ما بعد العودة متعلقة بتيليماكوس أكثر من ارتباطها بأوديسيوس إذ سيبقى حضور الابن مستمرًا عكس حضور الأب الذي تتمحور حوله الملحمة. ويوضح هذان المخططان ما سيقع لو افترضنا روي الأناشيد الأربعة الأولى بعد وصول أوديسيوس إلى إيثاكا:
مخطط الأحداث مكانًا وزمنًا كما رتبها هوميروس.
مخطط مفترض للأحداث زمانًا ومكانًا، والذي سيفقده هوميروس لو لم يبتدئ بالأناشيد التيليماكية
من الإضافات الأخرى التي تُثار حول الأوديسة أنَّ النشيد الرابع والعشرين مضاف إليها كما يكتب أمين سلامة “هي ختام الأوديسة وهي أنشودة ضعيفة وأغلب الظن أنها أضيفت إلى الأوديسة…” لكن هذا الرأي لا يُمكن الأخذ به كليا وإن كان الجزء الأول منه الخاص بمشاهد وحوارات من منزل الأموات (هاديس) تبدو خارج موضوعات وسياقات الأوديسة، ولقاء أجاممنون بأشباح الخطَّاب الذين قتلهم أوديسيوس في ساحة منزله انتقاما منهم على ما فعلوه في غيابه. وقد يُقبل هذا الرأي جزئيا في كون الجزء الأول من النشيد مضافًا لا سيما وأنَّ فيه تعارضًا مع الإلياذة فيما يخص دفن الجثث وعبور نهر ستيكس إلى العالم السفلي، ويذكر روبرت كنوكس أنَّ طيف باتروكلوس جاء إلى آخيلوس وطلب منه حرق جثمانه حتى يتمكن من العبور إلى منزل الأموات وهذا يتعارض مع عبور إلپينور صديق أوديسيوس إلى منزل الأموات ولمَّا تُدفن جثته بعد حين التقى أوديسيوس بشبح صديقه في هاديس بعد رحلته من أجل لقاء العرَّاف الضرير تايريسياس، وطلب شبح إلپينور من صديقه أن يعود ويدفن جثَّته التي تركوها في جزيرة سيرسي، وكذلك في عبور أشباح الخطَّاب إلى منزل الأموات وجثثهم ما زالت مكومة خارج منزل أوديسيوس لم تدفن. وهنا كما يذكر روبرت ثمة فرق بين التصوير لهذا العالم مما يشك بصحة نسب هذا الجزء من النشيد الرابع والعشرين إلى الأوديسة أو حتى الأوديسة إلى هوميروس أو أن الأمر يعتمد على تطوِّر التصورات الاعتقادية عن عالم الأموات ولا سيما أن هذه الملحمة نُظمت بعد الإلياذة كما يُرجَّح. لكننا نواجه إشكالية فيما يخص هذا الجزء المتعلِّق بمنزل الأموات، وتتمثل الإشكالية في مدح شبح أجاممنون لزوجة أوديسيوس بعد أن يلتقي أشباح الخطَّاب حين تصل إلى منزل الأموات يتقدمهم رسول الآلهة هرمس، إذ كان أجاممنون حين التقى أوديسيوس في هاديس قد حكى له كيف تآمرت عليه زوجته كليتمنسترا وعشيقها إيجيسثوس ونحروه كما تنحر الخِراف وحذَّره من زوجته التي قد تفعل مثل فعلة كليتمنسترا. وبعدما يخبره شبح أمفيميدون بقصِّة الخطّاب كاملة وكيف خدعتهم بينيلوبي بذريعة النسج على المنول ثم انتقام أوديسيوس منهم؛ تزداد أحزان أجاممنون على حاله فيمدح بينيلوبي ليبدو هذا المديح كأنه اعتذار عن سوء الظن في البداية الذي بدر منها بحقها بحقها. فإن كان هذا الجزء مضافًا فإن الذي أضافه قد درس نشيد منزل الأموات بإتقان مما جعل الإضافة المتعلقة بالخطّاب مترابطة موضوعيًا ودفاعًا وثناءً على بينيلوبي.
أما الجزء الثاني من النشيد الرابع والعشرين لا يمكن أن يكون مضافًا إلى الأوديسة وذلك لسببين مهمين:
– الأول متمثل في لقاء أوديسيوس بأبيه وهو لقاء ضروري بل وكما يشير كنوكس ثالث أهم لقاء بعد العودة إلى إيثاكا إذ يسبقه لقائي تيليماكوس وبينيلوبي، وما تحكيه أم أوديسيوس عند لقائها بابنها في هاديس وكيف ساءت حال والده وانعزل عن الجميع. إذ يصبح هذا اللقاء ضروريًا وإلا فثمة شيء ناقص سيبقى دون أن تُسدَّ فجوته.
– الثاني متمثل في ردة فعل ذوي الخطَّاب بعد أن يشيع خبر قتل أوديسيوس لهم ونقرأ في النشيد الثالث عشر بعد أن عرضت أثنيا خطة الانتقام؛ تفكيرَ أوديسيوس بحال ذوي الخطَّاب وكيف له أن يواجههم وحده، لتبرز له معضلة مرحلة “ما بعد المذبحة” التي تتدخل فيها أثينا وتُحلُّ السلامَ في إيثاكا. ويشير كنوكس هنا إلى ضرورة ختم الأحداث دون ترك أي حدث دون نهاية وإلا فثمة شيء ناقص سيبقى دون أن تُسدَّ فجوته.
لا يخفى على القارئ التشابهات والاختلافات الموضوعية والفنية والأسلوبية ما بين الإلياذة والأوديسة، وأرى أنَّ ملحمة الأوديسة متطورة وناضجة فنيًا وأسلوبيًا أكثر من الإلياذة وغنية بمواضيعها الرئيسة المتنوعة أكثر. وقد يتسنى لي المقارنة والحديث مفصلًا ما بين الملحمتين في مقام آخر.
تيليماكوس يبحث عن أبيه
(البحث عن الذات)
تبتدئ الأناشيد الأربعة الأولى من الأوديسة أو كما تُسمى الأناشيد التيليماكية بالحديث عن تيليماكوس ابن أوديسيوس الذي يبلغ ويبدأ بالبحث عن أبيه لكنه في الحقيقة بحثٌ عن الذات أكثر من البحث عن أبيه، إذ بحثه عن ذاته ومعرفة الدرب الذي يجب عليه أن يسلكه ابن الملك الغائب عن وطنه يُغلِّفُهُ السؤال عن أبيه. هذا السؤال الذي يبدأ تيليماكوس بطرحه بصيغة “ابن من أنا؟” لكنه ليس سؤال شكِّ بأمه لكن سؤال البحث عن التأكيد والوثوقية في النسب التي ستبقى مجهولة حتى يظهر أبيه حقًا قُبالة ناظريه، أما القول إنه ابن ملك إيثاكا أوديسيوس الغائب لا يستطيع تقبُّله، فكلما تقدَّم به السن ازداد شكّه بنفسه وأصبحَ البحث عن الذات ضرورة ملحَّة لا يمكن أن يتماشى معها دون الوقوف على مصير أبيه المجهول. يُقدم لنا هوميروس هذا الجو النفساني والتصوير الخارجي لسلوكيات تيليماكوس راسمًا صورة كاملة جوانيًّا وظاهريًا لأحد الركائز الرئيسة الثلاثة في العمل، فهو الابن الضال للمحارب القديم الذي مخرت سفينته مع رفاقه قبل عشرين عامًا تلبية لطلب الملك أجاممنون وإعادة الهاربة هيلين زوجة ملك إسبارطة مينيلاوس. ينشأ الابن على أمجاد أبيه فيكرم الإيثاكيون وفادته لا سيما بعد أن تنتهي حرب طروادة ويعود الآخيون إلى بلادهم حاملين معهم خبر مجد صاحب فكرة حصان طروادة الذي دمَّر الآخيون عبره المدينة ذات الأبراج الحصينة وسلبوا ذهبها ونهبوها عن بكرة أبيها قبل إحراقها. لكن هذا المجد يزيد من تشتت الذات التيليماكية ويقع بين حجري رحى “هل يعيش حياته على أمجاد أبيه أوديسيوس، وأن يكون ابن أوديسيوس فحسب؟ أم هل يعيش حياته في كونه تيليماكوس قبل أن يكون تيليماكوس ابن أوديسيوس؟” توضِّح الأوديسة ضمنيًا أنه يختار الخيار الثاني في أن يكون تيليماكوس ويتمثل هذا الاختيار في علاقته مع أمه التي تبدو أنها سيئة نوعا ما بل أنه لا يفهمها كذلك فيعاملها بنوع من القسوة لا سيما فيما يخص أسلوب تعاملها مع الخطَّاب الذين يحتلون بيته “في غياب المالك الأب” وينهبون خيراته ويذبحون ماشيته ويغازلون أمه طالبين يدها للزواج. يحاول في ظل هذه الظروف التي هي حجر الاختبار الحقيقي الذي تُحكُّ فوقه ذاتُ تيليماكوس- أن يواجه الخطَّاب بكلام مفاده أنه ربُّ البيت ومالكه وعليهم أن يطيعوا أمره وينهوا هذا الاحتلال لمنزله لكنهم يواجهونه بالسخرية والضحك لحداثة سنه وكثرة عددهم فهو لا يستطيع مواجهتهم وحده. ونرى من السلوكيات الأخرى أنه ينهر أمه حين تخرج للحديث مع الخطَّاب ويطلب منها العودة إلى غرفتها وعملها فهو رجل البيت ولا حديث للنساء ما دام الرجال حاضرين. يرى تيليماكوس نفسه رجل البيت والسيد المطاع في بيت أبيه الغائب، ويريد إثبات نفسه في بيته لكن هذا الإثبات متعلق بالشطر الأول من السؤال هل يعيش على أمجاد أبيه؟ لا يريد تيليماكوس العيش على أمجاد أبيه وحدها بل يريدها مزية تضاف إلى حفيد لايرتيس وابن أوديسيوس لذا فإن الخطوة الأولى لإزاحة هذا الثقل ذي المجد الأوديسيوسي عن كاهليه هو الذهاب إلى الملوك المحاربين في طروادة والسؤال عن مصير أبيه. تتدخل الإلهة أثينا في هذا الأمر وتنصحه متجسِّدة بشخصية البطل مينتور بالذهاب إلى بولوس حيث الملك الآخي الشهير نسطور والذي حارب في طروادة ثم الذهاب إلى لاكيدايمون للقاء الملك مينيلاوس لكونه آخر العائدين من طروادة والتقصي عن أخبار أبيه.
ثمة أمران بعد ذهابه إلى زيارة الملكين يعززان ذاته التي يبحث عنها: يتمثل الأول في إكرام الملكين له وتحميله بالهدايا الثمينة ويتوسمان فيه سمات الملوك قبل معرفته فيكرمونه ويزيد الكرم والوفادة بمعرفتهم هويته، ويتمثل الآخر في الخبر الذي يعرفه تيليماكوس عن أبيه إذ يخبره مينيلاوس عن طريق عجوز البحر أن أوديسيوس محجوز في جزيرة كاليبسو راغبًا بالعودة لكنها تمنعه ويفكر كل يوم بالعودة إلى الوطن إيثاكا باكيًا وحزينًا. يهطل الأمل بعودة أبيه على ذات تيليماكوس، لتصبح مسألة الأمل بعودة الغائب جزءًا رئيسًا في تعزيز ذاته الآن بعد أن كانت تزيد شكه وحيرته. إذن فالأب عند تيليماكوس هو الذات، هما وجهان لعملة واحدة، فإما أن يتخلص من قيود مجد أبيه وإما أن يعود أبيه ويتأكد من نسبه ويعرف ذاته فعلًا أنه ابن الملك أوديسيوس مدمّر المدن وناهبها وملك إيثاكا.
تعود أثينا لتتدخل فتجيئه في المنام وتحثّه على العودة عاجلًا إلى إيثاكا فأوديسيوس سيعود قريبًا، يُسرع تيليماكوس بالإبحار راجعًا إلى إيثاكا وهناك في مأوى راعي الخنازير يومايوس يلتقي بأوديسيوس المتخفي الذي يُكشف له بفضل أثينا عن هُويته، ليلتقي الابن الضال بأبيه المنفي العائد إلى تربة إيثاكا. يدعم هذا اللقاء الذات التيليماكية ويبدأ تيليماكوس بمرحلة جديدة، مرحلة الرجولة والبطولة التي كانت متوقفة على عودة أبيه أو طوي صفحته. يشرع بعدها الأب وابنه في التخطيط للانتقام من الخطَّاب الذين دنَّسوا منزله وأهانوا شرفه ملكًا ورجلًا فكان تيليماكوس أحد الأربعة الذين قضوا على الخطَّاب الذين بلغ عددهم ثمانية عشر ومئة رجلا ومن ضمنهم الخدم، وبهذا يبدأ تيليماكوس الذي بلغ العشرين من عمره مرحلة الرجولة بحدث مهم ومفصلي في حياته متمثلًا بالانتقام ممن سخروا منه وهزأوا ضاحكين منه وطلبوا يد أمه في عقر داره آكلين شاربين من خيراته وخيرات أبيه. وثمة موقفان يؤكدان أن تيليماكوس قد بدأ هذه المرحلة التي ستشكل الأساس الانطلاقي في حياته:
– حين يشفع للمنشد فيموس وكذلك النذير ميدون اللذين كانا مع الخطَّاب مُكرَهين. هذه الشفاعة التي ينالانها من تيليماكوس ليعفو عنها أوديسيوس من الموت المحتَّم على جميع من في ساحة البيت تدل على مكانة تيليماكوس الآن عند أبيه وكذلك على ثقة الأب بابنه فحين قال إنهما لم يسيآ إليه ولا يستحقان الموت؛ يستجيب الأب لقول ابنه، ويوجه الخطاب للنذير (ترجمتي عن الإنجليزية):
تشجََّع!
الأمير من أنجاك من هذه المعمعة،
وأنقذك الآن، فخذ الأمر بقوة
وأخبر الرجل الآخر:
إنَّ فعلَ الخيرات يبزُّ المنكرات 22:400
– حين يجتمع ذوي الخطَّاب في نهاية الملحمة ويريدون الانتقام من أوديسيوس الذي كان عند أبيه فيتأهب أوديسيوس وابنه وأبيه ومن معهم لقتالهم؛ يوجِّه أوديسيوس الخطاب لابنه (ترجمتي عن الإنجليزية):
[“تيليماكوس،
ستتعلم قريبًا بما فيه الكفاية،
عندما تتقدم إلى القتال-
الموضع الذي تتوق الأبطال فيه إثباتَ أنهم أفضل،
فلا تُخزينَّ والدك من جانبك لحظة،
في شجاعة الوغى التي برعنا فيها لعصور
عبر كل العالم”
تيليماكوس يطمِّنُ نفسه
“سترى الآن، إن كنت مهتما بالمراقبة يا أبي،
إنني أتقدُ حماسًا الآن، خزيٌّ، تقول؟
لن أخزينَّك من جانبي!”] 24:560
يوضح هذا الخطاب الأبوي والاستجابة البُنُوَّيّة عن حلف جديد لكنه حلف الأبطال المقاتلين في ساحة الوغى. وعلى الرغم من أنه الاختبار الثاني بعد وقعة المذبحة فإنَّ أوديسيوس كان يعرف في الأولى وقوف الآلهة ونصرتهم له لكن في الوقعة الثانية ثمَّة أعداد كبيرة ونصر الآلهة قد لا يكون حاضرًا كما في الأولى لذا فقد أراد التأكيد على رفيق القتال الجديد وبثَّ الحماس فيه واستفزاز شجاعته ليخرج أفضل ما عنده أو قد يكون محض تشجيع الأب لابنه!
بينيلوبي الزوجة الوفية
الشخصية الرئيسة الثانية في العمل هي بينيلوبي، زوجة الملك الغائب، التي بقيت تنتظر زوجها عشرين عامًا. مثَّلت بينيلوبي كما سيخطر في ذهن القارئ أولا الزوجة المخلصة لزوجها، والمرأة الآخية الشريفة إذا ما قُوبلت بكليمتسترا زوجة أجاممنون أو هيلين زوجة مينيلاوس، لكن السؤال الذي يطرح نفسه لماذا انتظرت بينيلوبي أوديسيوس كل هذا المدة تعيش على أحزانها متآكلة ذاتها بالدموع والأسى وانتظار الغائب علَّه يعود هذا الانتظار الذي لطوله تحولت فيه العودة إلى أمنية مُستحيلة الوقوع، فما من أوديسيوس حيّ ولا أمل بعودته أبدًا؟ تفقد بينيلوبي الأمل شيئًا فشيئًا وحين عاد أوديسيوس كانت أكثر ذويه شكًا بهويته الحقيقية ولم تستطع وهي الأكثر حزنًا ولوعةً على غيابه أن تصدق أنه عاد، فعودته أكبر من قدرتها على التصديق. ما الذي أخضع بينيلوبي لانتظار أوديسيوس؟ هذا ما يمكن أن يُفسَّر بدايةً أنها ليست زوجة رجل عادي بل زوجة ملك إيثاكا فالانتظار مفروض أكثر مما هو خيار متاح بيديها تقبل به أو ترفضه. وعلى الرغم من أنَّ هوميروس يركز على حبها له وإخلاصها لكونها زوجته وأن دافع الانتظار هو حبها فإن أكثر ما يبدو دافعًا له هو خلق شخصية مثالية شبيهة بالآلهة مجسِّدة للإخلاص والفضيلة والزوجة الصابرة أكثر من كونها امرأة حقيقية. وحتى لا يطغى على شخصها صفة المثالية اللا معقولة بعيشها متفانية في أحزانها ومكرِّسة وقتها وحياتها في انتظار المجهول فحسب فقد وضع هوميروس شرطًا لإنهاء هذا الرابط بينها وأوديسيوس الذي يطلب منها قبل الرحيل إلى طروادة أنه إذا تأخَّر بعودته كثيرًا ونبتت لحية ابنه فلها أن تتزوج من يعجبها من الرجال.
تبتدئ الملحمة بالحديث عن الأحداث التي سبقت عودة أوديسيوس بقليل لذلك فنحن لا نعرف الكثير عن حياة بينيلوبي في السنوات العشرين الماضية إلا ما يرد في متن الأحداث، مما يجعلها أكثر الشخصيات غموضًا. يُبرزُ هوميروس لنا من شخصية بينيلوبي المرأة الحصيفة والحذِرة والحكيمة وأشهر الإيثاكيات ومن أشهر الآخيات قاطبة- ذاك الجزء المرتبط بحبها وحزنها وانتظارها لزوجها الغائب لكن لا يرد ما فيه الكفاية عن هذا الجزء بل ويزيد على ذلك تصوير الأناشيد التليمياكية ضعفها قُبالة ابنها وحتى قُبالة الخطَّاب إذ تطلب قبل إعلانها للمسابقة أن تحضر معها وصيفتاها لأنها لا تستطيع فعلها وحدها. إذن فبينيلوبي تسير بخطًى وئيدة نحو أفول نجمها في سماء الانتظار في منزل زوجها (ومنزل ابنها في غيابه)، وليس لها سطوة على ابنها أو سلطة وكما يبدو واضحًا جرأة تيليماكوس عليها وضعف حضورها وشخصيتها أمامه ودومًا ما استجابت لأوامر ابنها فيما يتعلق بالخطَّاب حين يطلب منها العودة إلى وغرفتها والانشغال بأعمالها. إنَّ الانتظار لأوديسيوس طغى عليها فأنساها نفسها وأنساها ابنها لتغدو كتلة من الانتظار الحزين فتقطَّعت علاقتها بمحيطها فهي مجرد خيال زوجة وذكرى أم، وطيف امرأة تحاول بكل جهد أن تثني وتؤخر زواجها الجديد من أحد الخطَّاب الذين تجمَّعوا في منزل زوجها. لكنها وتحت إصرار ذويها وابنها تخضع في السنة الأخيرة لهذه الضغوط وتقرر الموافقة بعد كل الممانعات والصد الذي ابتدأ أولًا بحيلة نسج ثوبٍ على المنول لأجل اليوم الذي يموت فيه والد زوجها العجوز لايرتيس، وجعلت من وقت نهاية النسج موعدًا لزواجها من أحدهم. استمرَّت خلال ثلاث سنوات كاملة تنسج نهارًا وتفك نسجها ليلًا قبل أن تدلَّ إحدى خادماتها الخطّاب على حيلتها ولم يبقَ أمامها خيار إلا مواجهة الأمر الواقع. هذا الواقع الذي تواجهه الآن بينيلوبي هو الواقع الذي كانت تتهرب منه لسنوات، إذ بتقدم السنين وعدم عودة أوديسيوس يزداد يقينها بهذا القدر المحتوم المتمثل بخروجها من المنزل الذي زُفَّت فيه وتركها للدار التي تضم غرفة عرسها وسرير الزوجيّة. هل كانت بينيلوبي ترفض الزواج وتؤخره لأنها تحب زوجها أو ثمة أسباب أخرى لا تريد الإفصاح عنها؟ هل رفضها الزواج والخروج من المنزل هو صورة من العودة إلى الوطن الأودسيوسيّة، وصورة من البحث عن الذات التيليماكية؟
لا بدَّ من الإشارة إلى الفكرة بكون بينيلوبي انتظرت زوجها بدافع الإخلاص والحب فحسب تبدو غير مقنعة فثمة علاقة نشأت بينها وبين بيت أوديسيوس حيث عاشت، إذ أضحى هو وطنها الذي لا تريد أن تبارحه ولا مفارقة حياتها فيه. فإن كان أوديسيوس يخوض في البحار ويواجه المصاعب من أجل العودة إلى وطنه فإن بينيلوبي تخوض صراعًا في مواجهة الخطَّاب لكيلا تترك وطنها، فهذا البيت هو وطنها وحياتها متعلقة بالانتظار و الآمال التي تخبو شعلتها باستمرار. إضافة إلى ذلك فإنَّ بينيلوبي لا تعرف هُوية لها غير هُويتها المرتبطة بأوديسيوس زوجة الملك الضائع والغائب لسنوات طوال، فهي الأخرى تعيش على أمجاد زوجها لكنها لا تبحث عن هويتها في زوجها عكس تيليماكوس الباحث فيه عن ذاته، وهي متأكدة من أنَّ ذاتها موجودة في هذا الزواج المعلَّق أو ذكرى الزواج الغابر المرتبط بهذا البيت. لذا فإن رفضها للزواج ومغادرة البيت هو رفض للتشتت الهُوياتي والاستقرار النفسي الذي عرفته هنا. تجتمع في شخصية الأم قضية الأب في العودة إلى الوطن وقضية الابن في البحث عن الذات، فشطر من بينيلوبي يُمثِّل رغبة أوديسيوس بالعودة إلى الانتماء في حين تكدح جاهدة في المحافظة على الانتماء، وشطر منها يُمثل سعي تيليماكوس بإيجاد الذات في حين تكدح جاهدة في المحافظة على الذات. نستخلص من ذلك أنَّ جهود بينيلوبي هي جهود تتمحور حول الأنا لا الآخر، وسواء كانت واعية أو غير واعية فهي تقاسي لأجلها وتحزن على نفسها وما الانتظار والحزن وتحمل غلاظة ووقاحة الخطَّاب إلا محرِّكات يُحفِّزنها على إلبقاء حيَّة ذهنيًا وجسديًا.
تتشكل هذه الهُوية البديلة عن هُويتها الأصلية المرتبطة بشخص أوديسيوس زوجها لكنها تبقى في توقٍ دائمٍ وحزن إلى هُويتها الأصلية التي تنتظر عودتها بعودة زوجها، ونرى ذلك في إكرامها للمتسول المشرَّد (أوديسيوس المتخفِّي) وقولها له إنه سيكون أقرب أصدقائها فقط لأنه حكى لها عن أوديسيوس ووقف معها ضد الخطّاب. يتضح لنا من هذا التكريم والتقريب قيمة أوديسيوس في نظرها زوجًا وهُويةً بينيلوبية. لكن طول الانتظار والحزن جعل من فكرة عودة أوديسيوس/ الهوية الأصل مستحيلة على التصديق لذا فحين تحدث المذبحة في ساحة بيتها وهي نائمة ويجتمع بها أوديسيوس بعدها فإنها تقابله بنوعٍ من الجفاء والقسوة حتى يعيب عليها تيليماكوس معاتبًا بقوله هل هكذا تستقبل امرأةٌ زوجها الغائب لسنوات، إنَّ قلبك أقسى من الصخر. هذا ما يراه تيليماكوس من تأخر أمه في استقبال أبيه بالطريقة التي يستحقها والواجبة عليها لكن السبب في هذا يكمن في سمات بينيلوبي الشخصية كالحذر والحكمة والتأني والصبر والحِلم والفِطنة فليس كل من قال أنا أوديسيوس ستصدقه لا سيما بعد حادثة الخطَّاب، والسبب الآخر يتمثل في الاستبدال الهُوياتي الذي سيتغير مجددًا بعودتها إلى هويتها الأصلية، هوية بينيلوبي أوديسيوس بدلا من هوية بينيلوبي ما بعد أوديسيوس التي بقيت فيها وتطورت معها مدة عشرين سنة من غياب الأخير. تطلب بينيلوبي من أوديسيوس برهانًا صادقًا وعلامة تتمثل في سر زوجية لا يعرفه سواهما فتوقع أوديسيوس في الاختبار بطريقة مستفزِّة حين تطلب من خادمتها نقل سرير الزوجية من غرفتها إلى الخارج لينام عليه أوديسيوس الذي يردِّ مستنكرًا قولها إذ السرير راسخ في الأرض لا يتزحزح، صنعه أوديسيوس ونحته من شجرة الزيتون في الغرفة، ثم يشرع بعدها في ذكر تاريخ صناعة هذا السرير فتتأكد من أنه الزوج التائه في ظلمات البحور والعائد إليها من جديد. وتأكيدًا على ما أوردته بشأن غموض زوجة أوديسيوس فإن اليوم التالي لاجتماعها بزوجها يطلب منها أن تحبس نفسها في غرفتها ولا تخرج منها مهما حصل بسبب الثأر المحتمل الذي سيأتي ذوي الخطَّاب لطلبه من قلتة أبنائهم. يغيب ذكرها بعدها في عالم الأحياء تمامًا فما من أحداث تخصها لكن ذكرها يعود مجددًا على لسان من ذمَّها ضمنيًا شبح الملك أجاممنون -عندما التقى به أوديسيوس في رحلته إلى/ في منزل الأموات- بعد أن يلتقي بأشباح الخطّاب ليثني عليها ويغبط أوديسيوس على زوجته المخلصة مقابلة بحاله ومقتله على يد زوجته كليتمنسترا وعشيقها إيجيسثوس.
أوديسيوس
(كثير الحيل – الحكّاء – المقاتل)
إنَّ شخصية أوديسيوس أهم شخصية هوميريّة على الإطلاق وهي تفوق شخصية آخيلوس التي نُظمتْ الإلياذة في مجده، فلأوديسيوس الكثير من السمات الشخصية التي تُميِّزه على غيره وتبزُّهم فهو ملك وبطل وقائد وخطيب وذكي كثير الحيل/ واسع الحيلة وحكَّاء ورجل مُحبٌّ لوطنه وأهله وتفوق رحلة عودته الأسطورية إلى إيثاكا كل المجد الذي حاول هوميروس أن يُسبغه على بطل طروادة آخيلوس. وتضع لوسي بولارد-غوت في كتابها “الشخصيات الخيالية المئة الأكثر تأثيرًا في الأدب والأسطورة” أوديسيوس في المرتبة الثانية بعد هاملت شيكسبير في تأثيرها وامتداداتها الأدبية والفكرية والثقافية في كل من لاحقي عصر هوميروس. ولا تنفصل قيمة أوديسيوس ولا مكانته عن رحلته التي استمرَّت عشر سنوات من شواطئ طروادة بعد نهاية حرب وحصار السنوات العشر إلى سواحل إيثاكا بعد أن أظناه التعب وأثقل كاهله التيهان في البحر الكبير (البحر الأبيض المتوسط) حتى عاد رجلًا مختلفًا عن ذاك الذي مخرت سفينته عباب البحر استجابة لنداء الملك أجاممنون. إنَّ البروز الأول لأوديسيوس عند هوميروس كان في الإلياذة، فهو ملك الإيثاكيين المشاركين في حصار طروادة، ويكاد يكون ثاني أهم شخصية آخية في الإلياذة بعد آخيلوس لكونه مقاتلًا شجاعًا وخطيبًا مفوَّها وقائدًا محنكًا ورسول الملك أجاممنون الفطِن وقبل/ بعد كل شيء فهو رجل حيلة ومكر، وهي صفة مدح لا ذم وإن أسيئ تأويلها. وأهم دور له في حرب طروادة أنه صاحب فكرة الحصان الخشبي الذي تمكن من خلاله الآخيين بعد مقتل آخيلوس من اقتحام المدينة الحصينة والعصية على الغزاة بالخداع والحيلة الأوديسيوسيّة، لذا فقد كسب مجدًا وشهرة كونه مفتاح النصر وصاحب الفضل في تدمير مدينة طروادة بين الآخيين وهو ما يزال فوق أراضي مدينة إلياس لذا فإن عودته ليست محض عودة ملك الإيثاكيين بل عودة ناهب/ مقتحم المدن كما يصف هوميروس ومفتاح النصر الآخي ومهندسه على أشهر حضارة ومدينة منافسة للآخيين بعد محاولات استمرَّت عشرة سنوات. تمخر سفن الإيثاكيين بأوديسيوس ورفاقه محمَّلين بالغنائم والسلائب التي نهبوها بعد تدمير طروادة. لكنها عودة مشؤومة فلا يرجع إلى إيثاكا إلا أوديسيوس وحيدًا وعلى سفينة قوم أجانب عنه هم الفياكيين، فيمرُّ أوديسيوس ورفاقه بمغامرات عدة زائرًا أناسًا مختلفين عنه يقطنون في أراضٍ يجهلها وواطئًا جزرًا ذات غرائب وعجائب من عمالقة وآلهة وساحرات وآكلي لحوم بشر يفاقهما أوديسيوس بخطأ يرتكبه للمرة الوحيدة في كل من الإلياذة والأوديسة إذ يخونه ذكاؤه وتنقلب عليه حيلته مع السيكلوب بعد أن يكشف له هُويته الحقيقية. وحتى عودته إلى إيثاكا بعد التي جاءت بعد طول انتظار ومشقة وعناء جاءت محفوفة بالمخاطر التي لا تقل عن مخاطر البحر وأصبحت كل خُطوة يخطوها أوديسيوس في إيثاكا بعد عودته محسوبة وله تبعات لأنها لم تعد تخصه وحده بل تخص زوجته بينيلوبي وابنه تيليماكوس.
تبرز ثلاث سمات على أوديسيوس (معنى اسمه الرجل الذي يتحمل غضب الآلهة) في رحلة العودة طاغيةً على كل سماته الأخرى. أما الأولى وهي الأكثر شهرة والمرتبطة به فهي كثرة الحيل والمكر الذي غالبًا ما استخدمه لصالحه وصالح رفاقه من أجل إنقاذهم من خطر مُحدق بهم. وكان أول ظهور بارز للحيلة الأوديسيوسيّة في الأوديسة هو خداعه للسيكلوب ذي العين الواحدة، بولوفيموس، فبعد أن يحتجزهم العملاق في كهفه ويبدأ بأكل رفاقه تباعًا يُفكِّر أوديسيوس في حيلة للخروج فيسقيه الخمر ويُسكره وحينما أعجب بولوفيموس بالخمر سأله عن اسمه أجابه بأن اسمه (لا أحد) إذ كان أوديسيوس يُضمر الخديعة للعملاق الأحمق ليفقأ عينه بعدها ويهرب مع رفاقه من الكهف مستترين تحت الخراف، لكن الخطأ الذي وقع فيه أوديسيوس كان في إعلان هويته الحقيقية لبولوفيموس مما دفع الأخير للتضرع لأبيه بوسيدون الذي يستجيب دعاء ابنه وتطيل أمد رحلة العودة حتى يلاقي أوديسيوس الصعاب ويقاسي المتاعب في البحر وإيثاكا. أما الحيلتان الأخريان فتمَّتا بمساعدة الآلهة لكنهما عززتا سمعته بكثرة الحيل. كانت الأولى بمساعدة رسول الآلهة هيرمس الذي يمنحه العشبة التي تمنع تحويله من قبل الساحرة سيرسي إلى خنزير ثم يُرشده إلى كيفية التغلب عليها واستعادة أصدقائه الذين مسختهم، والثانية بمساعدة أثينا بعد أن يصل إلى إيثاكا إذ تحوِّله إلى عجوز مشرَّد ومتسول حتى يتمكن من الدخول إلى منزله والانتقام من الخطَّاب دون أن تُكشف هويته ويُقضى عليه. لكن الحيلة والمكر اللذين يتسم بها أوديسيوس لا ينفعانه دومًا فمثلًا لا نجد للحيلة دورًا مع الإلهة كاليبسو التي تحبسه عندها سبع سنوات كاملةً عارضة عليها الخلود والشباب الأبدي، ولولا قرار الآلهة بإنهاء حبسه ومعاناته ولا بد من عودته إلى إيثاكا في بداية السنة الثامنة. وعلى الرغم من طول المدة التي قضاها أوديسيوس عند كاليبسو فإن الأحداث المروية عن هذه المدة الطويلة قصيرة ولا ترسم الحال كاملًا أو حتى محاولات أوديسيوس في التحرر من قبضتها. وأبرز ما يمكن الوقوف عليه هو حزن أوديسيوس بسبب عدم قدرته على العودة إلى موطنه وبكائه من شوقه إلى إيثاكا الذي يمكن أن نستنتج منه أنَّ محاولاته باءت بالفشل في حالة وجودها؛ ونشوء علاقة غرامية وجسدية بين الاثنين رغم أن أوديسيوس لم يحبها ورفضها عرضها المغري.
أما السمة الثانية وهي سمة تُقرأ أكثر مما يُصرَّح بها وهي أنَّ أوديسيوس حكَّاء ماهر سواء في قصِّ الأحداث التي وقعت له في طريق العودة أو في اختلاق قصص عن هُويته المزيَّفة. يصل أوديسيوس إلى جزيرة الفياكيين بعد أن يتحرر من قبضة كاليبسو ويلتقي بعد أن يصل بملك الفياكيين “ألكينوس” وزوجته “أريتي” بفضل ابنتهم”ناوسيكا”. وبعد أن يطلب منهم العون والمساعدة وبُعيدَ أن يكشف لهم هُويته الحقيقية يبدأ يقص عليهم في الليل المصاعب التي مرَّ بها قبل أن يصل إليهم مبتدئًا بالحديث منذ مغادرة إليوس وحتى التحرر من كاليبسو، ومما يلاحظ في هذا القص بله كونه البروز الأول لأوديسيوس القاص هو أنَّ أوديسيوس مُدركٌ تمامًا بما يقوم به فعندما يذكر للملك ألكينوس ما جرى من حديث بين زيوس وهيلوس بعد أن غضبوا عليه ورفاقه إثر ذبح رفاقه من قطعيع الشمس المقدسة؛ يعلِّق أوديسيوس هنا لكي ينوِّه أنَّ ما يقوله ليس ادِّعاءً أو اختلاقًا إذ يدرك أنه -الإنسان العادي- لا يستطيع أن يعرف ما دار بين الآلهة وبذات الوقت حتى لا يُلقي الشك في نفوس مستمعيه وقبل حتى أن يبادروا بالسؤال- قائلًا: “سمعتُ هذا من كاليبسو ذات الشعور الفاتنة، إذ قالت إنها سمعته بنفسها من الرسول هرمس (ترجمة أمين سلامة)”. كان أوديسيوس قد بدأ أول الأمر بقصِّ حبسه في جزيرة أوجوجيا عد كاليبسو ثم عاد ليقص ما حدث له منذ مغادرة سواحل إليوس فلما وصل بقصته إلى جزيرة كاليبسو مجددًا فيتوقف عند هذا الحد ويرفض أن يعيد قصَّ ما سبق له أن قصَّه فيقول: “ولكن لماذا أروي لك هذه القصة؟ لقد سردتها في ساحتك بالأمس فقط، لك أنت نفسك ولزوجتك النبيلة، وإنه لمتعب حقًا كما يبدو أن أعود فأقصَّ حكاية سبق لي أن رويتها (ترجمة أمين سلامة)”. يستمر أوديسيوس في التماشي مع سمة الحكي والقص عنده لكنه يأخذها بعد الوصول إلى إيثاكا إلى مستوى آخر ولأسباب خاصة بخطة الانتقام من الخطَّاب والحذر منهم فإنَّه -وبعد أن تحول أثينا هيئته إلى متسول عجوز- يقص أول مرة على راعي الخنازير يومايوس مختلقًا هُوية وأحداثَ حياةٍ وهمية، ويتكرر الأمر لذات سبب الاحتراز والحماية مع زوجته بينيلوبي، لكنه يتماشى أكثر مع هذا الدور ويجعل من اختلاق الهُوية وقصتها وسيلة لاختبار والده لاتيريس بعد أن يلتقي ليعرف إن يستطيع الأخير معرفته أو لا.
أما السمة الأخيرة فهي سمة القتال التي ما انفكَّت عنه كونه في الأساس مقاتل شجاع وملك بطل من الجيل الذي نظم هوميروس إلياذته في مديحهم والثناء عليهم وتلو أمجادهم على الأسماع، وغالبا ما تمازجت هذه السمة في الأوديسة رغم قلة المرات كالتي قاتل فيها أوديسيوس مع المكر والحيلة كما حدث مع السيكلوب بولوفيموس، لكن الظهور الأبرز لهذه الشخصية الأوديسيوسية القتالية فتمثلت في المذبحة التي ارتكبها بحقِّ الخطَّاب في ساحة منزله بمساعدة ابنه وخادميْه. إذ انتقم أوديسيوس بمعونة أثينا منهم شرَّ انتقام بعد أن يشترك في مسابقة شدِّ وتر قوسه ثم إطلاق سهم عابرًا اثني عشر فأسًا مثبَّتًا في الأرض ليكشف بعدها أوديسيوس المتخفي عن هُويته الحقيقة، ليعود الغائب الذي ظُنَّ أنه لن يعود لكنها عودة حملت الموت الزؤام والانتقام الدموي على كل من خانه وأساء لبيته وزوجته انتقامًا لم تسلم منه حتى الخادامات اللائي شُنقن.
تُعطي هذه السمات الرئيسة الثلاثة لأوديسيوس في العمل وأُخرَ غيرها في العمل أقل بروزًا صورة كاملة ومثالية عن رجل أغضبَ الآلهة ثم نال رضاها، لكنه بذات الوقت بقي إنسانًا مختلفًا ومائزًا عن غيره، وما حققه من شهرة وصيت بين الآخيين والجزر التي مرَّ بها أبقت اسمه محفورًا. لقد جعل هوميروس من شخصية أوديسيوس واحدة من أهم الشخصيات الخيالية في المخيال الأدبي الإنساني رابطًا إياه بحوادث وقضايا أسطورية وإنسانية ذاتية أضحى معها اسم أوديسيوس عصيًّا على النسيان والاندثار.
العودة إلى إيثاكا
تتجلّى الأوديسة كاملةً في العودة إلى إيثاكا، إنها رحلة العودة إلى الانتماء الذي سعى لأجله أوديسيوس خائضًا في مياه البحر المظلم وجزره ومخلوقاته مدةَ عشر سنوات كاملة ما بين سوء أقدار أو تدابير آلهة ومشيئتها التي تعارضت مع عودته. بقيت إيثاكا وجهته وحلمه الذي يزداد بُعدًا عن رؤيته واقعًا في كل مرة تُخطئ سفينته الوجهة وتطأ قداماه أرضًا غريبة غير تلك التي يقصدها. لماذا سعى أوديسيوس من أجل العودة رغم كل الصعاب التي قد تجعل أيَّ شخصٍ آخر يائسًا ويفضِّل المكوث حيث هو إذا توفرت له الظروف المناسبة للبقاء؟ أوديسيوس من أجل إيثاكا عادى العمالقة والآلهة، من أجل إيثاكا حارب آكلي لحم البشر، من أجل إيثاكا رفض خلودًا شبابيًا دائما، من أجل إيثاكا رفض العيش وسط الفياكيين سادة البحر وأصحاب مجتمع مثالي وعدم قبول الزواج من أميرة الفياكيين ناوسيكا؟ أوديسيوس الذي ترك إيثاكا وابنه لمّا يبلغ من العمر سنة بعد، كان يحرِّكه دافع مجهول للمتلقي في محاولاته الدؤوبة من أجل العودة إلى وطنه، فرغم سبع سنوات طويلة مع كاليبسو ما فتئ الحزن يملأ قلبه والدمع يُذرف من عينه. ثمة علاقة غريبة ما بين أوديسيوس وموطنه تتجسَّد فيها قيمة من قيم الأوديسة حيث الإشادة بالوطن والأهل، إذ أوديسيوس بدون وطنه بلا أي قيمة ولا أثر، فهو ما جلب المجد للآخيين إلا لكونه جزءًا من هذه الأمة الكبيرة التي حاربت الطرواديين واجتاحت مدينتهم، وأيُّ بُعدٍ عن هذه الأمة الكبيرة والوطن في نظر أوديسيوس هو موتٌ وجهالة ستلفه إلى الأبد، لقد أيقن أوديسيوس أن مجده الذي اكتسبه مهندسًا لهزيمة الطرواديين واقتحام مدينتهم لا يكتمل ولن يبلغ مبالغه الحقيقية إلا بالعودة إلى وطنه. إنَّ الوطن لدى أوديسيوس أكثر من مجرد أرض تربَّى فوقها وأكل من خيراتها، وأكثر من مجرد عائلة ترعرع فيها بين ذويه وأناس عاش وسطهم، وزوجته، وابنه الذي يكبر بعيدًا عنه يحركه شوق إليهما، إنَّ إيثاكا/ الوطن قد تأصلَّ أوديسيوس فيها وما رأى نفسه إلا فرعًا من هذا الأصل مادًا جذوره فيها فأصبحت هذه التربة هي البيئة الوحيدة التي تلائم أوديسيوس ولا يمكنه العيش من دونها. إنَّ محرِّك العودة إلى إيثاكا هو البحث عن الذات الإيثاكية ذات السمات العديدة التي لا يُعرف أوديسيوس كاملًا إلا بها فأوديسيوس المحارب والبطل الآخي ينتهي أثره بعد حرب طروادة لو لم يكن هناك أوديسة، لكن أوديسيوس الإنسان الخالد الصيت والمجد والأثر لا ينتهي أبدًا لأنه رحلة عودته هي تجسيد لعلاقة الحب والانتماء التي يكنُّها المرءُ إلى الأرض التي يحبها؛ الأرض التي نشأ فيها؛ الأرض التي يجد فيها سعادته وسط من يكترث بشأنهم؛ أوديسيوس يرغب بالعودة إلى إيثاكا من أجل لا شيء إلا لأجل أوديسيوس، لأجل الهوية التي لا يُعرف إلا بها. إنَّ إيثاكا هي وجه آخرُ لأوديسيوس، وهُوية له بدونها سيغدو مهما علا صيته “لا أحد”، فعندما غادر أوديسيوس سواحل إيثاكا إلى سنوات الضياع العشرين غادر هُويته وكيانه، غادرَ مجرَّدًا من كل ما يُشير إلى أوديسيوس؛ الوطن والأهل وحياة ملك. ما الذي دعا أوديسيوس أن يُجيب بولوفيموس حين سأله عن هويته بقوله “لا أحد”؟ لا أحد تعبير مرقق لنكرة، فهو مدرك تمام الإدراك أنه بدون إيثاكا وطنه- نكرةً سيُوطى ذكره عاجلًا أو آجلا وما سيبقى منه فهو مرتبط بمدينة طروادة الشهيرة لا بحصانه وحيلته لكن العودة إلى وطنه هي الضمان الوحيد لإبقاء اسمه متقدًا عبر الزمن لأنها ستؤكد قيمة أوديسيوس الإنسان المحب لوطنه فحسب. أن تحارب عابرًا البحر فوق أرض غريبة ثم تجتاحها وتنهبها لتعود إلى أرض لا تنتمي إليها سيجعل من ذكرك مجرَّد همجي ناهب لا يفرق عن مرتزق آخر يقاتل لأجل المقابل لكن إن كان ثمة قضية يُقاتل لأجلها وأرضًا يمثلها وأمة ينتمي إليها فستذوب أي مساوئ في بوتقة الصراع الحضاري بين القوى الكبرى وتضحى مسألة الإعلاء من شأن هذا أو ذاك مرتبطة بما يقدموه فهناك خلفية مبررة وأسس قوية تدعم هذه التصرفات -في الأقل في نظر المؤيدين-. كان أوديسيوس فاهمًا لقضايا الهُويات والتاريخ فأصرَّ على العودة لأن العودة وحدها هي ما تؤهله ليكون أوديسيوس الذي يريده. وتتحول العودة في مسارها المادي جزءًا من عملية إثبات الذات وتحديًا شخصيًا بعيدًا عن أي أهداف أخرى لا سيما حين تتدخل الآلهة في تأخير مساره وقد يكون أوديسيوس شعر بأنه لا يقل عن الآلهة دهاءً وقدرةً في صنع الأمجاد والانتصار لذا فعاقبته برحلة عودته وزاد المسألة تعقيدًا استجابة بوسيدون لدعاء بولوفيموس ثم نحر رفاقه لبقر من القطيع المقدس المحظور ذبحه للإله هيليوس لتتشكل مجموعة من الأسباب تعرقل رحلة العودة وتزيد من صراع إثبات الذات الذي يحاول أوديسيوس بعودته تحقيقه لتخضع الآلهة أخيرًا لمشيئة أوديسيوس المتجسدة في إصراره وشوقه الذي ما زايله رغم كل ما مرَّ به وعاناه.
لا أحد
(الهوية الضائعة)
تتشكل لدى أوديسيوس وهو في المنفى بعيدًا عن وطنه يحاول العودة إلى إيثاكا هُويات مختلفة يعززها بحكاياته رغبةً منه أو نتيجة للظروف المُستلزمة لهذه الهُوية الثانوية التي يدَّعيها. لكن في ظل كل هذه الهُويات التي يُهطلها على سامعيه يبزغ سؤال من هو أوديسيوس الحقيقي، وما هُويته الفعلية؟ يبدأ الأمر في تسلسل سرد أحداث الأوديسة بلقائه مع ناوسيكا في جزيرة الفياكيين وإخفائه هُويته الحقيقية وطلبه منها المساعدة لرجل أتعبته الأقدار والتيهان في البحر اللجي، ثم يستمر بهذا الإخفاء لهُويته بعد أن يتلقي ألكينوس، ملك الفياكيين، إلا إن سرعان ما يفضحه حزنه عندما يسمع المنشد يغني أمجاد حرب طروادة وأديسيوس صاحب فكرة الحصان الخشبي؛ ينخرط في بكاء ويذرف الدمع مما يسترعي انتباه الملك وسؤاله عن هُويته واسمه الحقيقي ليجيبهم بأن اسمه أوديسيوس ملك إيثاكا وصاحب فكرة الحصان الخشبي. وعندما يبدأ أوديسيوس بحكي قصته وما واجهه من أخطار قبل الوصول إلى جزيرة الفياكيين فيمرُّ على ما حدث له في كهف بولوفيموس الذي سأله من أنت وبماذا ينادونك في موطنك وبماذا تعرف بين أهلك، فيجيبه بأن اسمه “لا أحد”. وهنا أول إشعار بارز عن مجهولية أوديسيوس وضياع هُويته وإن كان الجواب لأغراض الأمن ومن حيل أوديسيوس في مواجهة هذا العدو الذي يفوقه ورفاقَه قوةً وحجمًا وهم محبوسون سلفًا في كهفه. هذه الهُوية الضائعة الناتجة عن التيهان في البحر في رحلة العودة وتأكيدًا على مجهولية أوديسيوس دون إيثاكا لكنه حتى بعد أن يصل إلى إيثاكا يتماشى معها وإن كان لأسباب الأمن من أجل مواجهة الخطَّاب فهو كما يبدو عليه ومن قصصه المختلفة بدايةً عما يحكيه ليومايوس بأنه من أرض تسمَّى كريت ثم إبحاره ونهب رفاقه لحقول المصريين وكيف أنقذه ملكهم بعد أن توسَّل أوديسيوس بركبتيه ثم وصل إلى إيثاكا. ثم ما يحكيه من أكاذيب -وهو ما يزال متخفِّيًا- على مسامع زوجته بأنه من كريت واسمه آيثون وأنه التقى بأوديسيوس قبل أن يصل إلى شواطئ طروادة حين توقَّف أوديسيوس عنده وأخيه. وأخيرًا ما يحكيه لوالده لايرتيس بأنه من جزيرة صقلية واسمه “رجل الكفاح” في محاكاة لقصة عودته وكنايةً عن حاله الحقيقية وما واجهه من مصاعب وأخطار. إذن فمن بين كل هذه الهُويات المتباينة والأسماء المختلفة من هو أوديسيوس؟ قد يكون الجواب السريع والبديهي هو أوديسيوس بن لايرتيس ملك إيثاكا الذي قضى عشرين سنة بعيدًا عن أهله ومملكته، عشرًا منها في حرب وحصار طروادة التي خرَّبها بفكرة الحصان الخشبي، وعشرًا منها قضاها في رحلة العودة إلى إيثاكا وحيدًا دون رفاقه على سفينة الفياكيين، ثم انتقم من الخطَّاب الذين كانوا يتستنزفون خيراته ويتآمرون على قتل ابنه ويطلبون يد زوجته. تعريف يذكرنا بما كتبه أرسطو عن الأوديسة: “رجلٌ كان بعيدا عن موطنه لسنوات عديدة، وحيدٌ ويبقى الإله بوسيدون معاديًا إياه. أما في موطنه فالوضع هو أنَّ الخطّاب يتقدمون لخطبة زوجته ويستنزفون خيراته ويتآمرون على قتل ابنه. وبعد عاصفة هوجاء وغرق سفينته يعود إلى منزله؛ يكشف عن هُويته ويهاجم الخطّاب لينجو ويهلكون”. لكن بعيدًا عن الجواب البديهي في التعريف بأوديسيوس وعن التعريف الساخر لأرسطو من الأوديسة؛ إنَّ أوديسيوس يعاني من هُوية ضائعة أو حتى لا يعرف في الأساس من هو، وقد ساعدت سنوات التيهان والكفاح العشر في جعله يفقد هُويته الحقيقية طوعيًا ويتماشى مع الهُويات المتبدِّلة رغم سعيه الحثيث في العودة إلى هُويته الأصلية التي ينشدها في إيثاكا. هذا التنوِّع والتبدُّل الهُوياتي يجعل من الصعب التعريف بأوديسيوس فهو يتحول من الذات الفرد إلى مجموعة ذوات مختلفة لكل منها قصتها وأصلها ومعلوماتها التعريفية الشخصية تجمعها شخصية أوديسيوس الإنسان الحقيقي، ليبقى وإن كان يعرفُ هُويته الحقيقية مستمتعًا بحركة التبديل الهُوياتي عند الحاجة يعينه على ذلك قدرته العظيمة على القص كما يصفه هوميروس. إذن فأوديسيوس هو ذاك المرء الذي يمتلك عدة هُويات مختلفة وكل آخي غريب ومجهول قد يكون أوديسيوس، فتمزُّق الهُوية الأوديسيوسيّة التعريف الوحيد الموثوق منه عن أوديسيوس، فمن هو أوديسيوس؟ إنه لا أحد وكل أحد.
يبقى أوديسيوس مع هذا التبديل الهوياتي المستمر حاملًا لسمة مادية مرئية أصيلة لا يُخطئها من كان يعرفه ألا وهي نَدْبة ركبته التي حصل عليها من ضربة ناب خنزير في شبابه. ولهذه النَدبة تاريخها القصصي الخاص وتأثيرها التعريفي والدال على شخصيته الحقيقية بما لا يُمكن لمن يعرفه أن يُخطئه كما حصل مع مرضعته ومربيته يوروكليا، وهو في ذات الوقت لا يمكنه أن يُخفيها أو ينكر تثبيتها لهُويته الحقيقية مهما اجتهد في ذلك، لذا فإنه أول ما فعله حين اكتشفته يوروكليا طالبا منها الصمت ومهددًا إياها بالقتل لو كشفت هويته لأنه لم ينفذ وعيده بالخطّاب والموت المحتوم لم يُنزله عليهم بعد. إنَّ نَدبة أوديسيوس جزء لا يتجزأ من هذا اللا أحد، سمة جلية ومائزة تجعل هذا اللا أحد أوديسيوس ولا يعني أنَّ النَدبة تُثبت فيه هُوية اللا أحد وتنقلها من عالم النكرة إلى عالم المعرفة لكنها إلى حد ما وما دامت في مدى العين الناظرة ستبقى دالة عليه لمن سبق أن عرفه وعرفها فيه، فهي تكشف عن هُوية اللا أحد الحقيقية تحت ظروف خاصة لا عامة وعند أناس محددين فقط؛ نقطة ضعف وخاصرة رخوة تُهدد الحكّاء العظيم والكثير الحيل في أي مرة يحاول فيها ممارسة التنقل بين الهويات والتماشي مع إضاعة الهوية التي اكتسبها في رحلة عودته إلى هويته الأصلية والانتماء مجددا إلى مهده الذي يُعرف به ولا يعرف بسواه.
دفاعًا عن أوديسيوس
(المكر السيئ والخيانة الزوجية)
ثمة تُهمتان تُثاران أحيانا ضدَّ أوديسيوس مفاد الأولى هو خداعه ومكر السوء وحيلته التي يستخدمها في الشر، والثانية في كونه خائنًا لزوجته عكس بينيلوبي التي بقيت مخلصة له رغم سنوات بُعده عنها.
أما التهمة الأولى فمصدرها الفهم الخطأ لعبارات الحيل التي يصف بها هوميروس بطله كـ الواسع الحيل والكثير الحيل وما شابه من العبارات التي أراد بها هوميروس مدح بطله لا ذمه، وهذا ما يعضده عبارات وصفية أخرى مثل ناهب المدن والمحارب القديم فقد قيلت في مقام مدح لا ذم والسياق يؤكد هذا. وكثير من هذه العبارات كما أشار بحث باري اللغوي أنَّ أوديسيوس صاغها لكي تلائم الأوزان الشعرية وقوافي الأبيات بما يتوافق مع الوزن الشعري السداسي الذي استخدمه في نظم ملحمتيه. إذن فبعيدًا عن مدح هوميروس لأوديسيوس بوصفه كثير الحيل فإن كثيرًا من هذه الأوصاف هي مصاغة لإقامة الوزن الشعري أكثر مما هي في الأساس مدح أو ذم أوديسيوس. ونأتي الآن لأخذ أمثلة من هذه الحيل التي قد تُؤوَّل ذمًا بحق أوديسيوس ابتداءً بحيلة الحصان الخشبي الشهيرة. إنَّ حيلة الحصان الخشبي وإن كانت قد جلبت الهلاك والبلاء للطرواديين والدمار لمدينة طروادة الحصينة فإنَّها خَدعة حربية لا يمكن ذمَّها لأن في الحرب كل شيء متاح ما دامت الغاية هزيمة الطرف المقابل وهذا ما حدث في حرب طروادة وما جلبه حصان أوديسيوس من نصر للآخيين وإنهاء سنوات الحرب والحصار العشر. ويمكن أن يُحاكم أوديسيوس في اشتراكه بالحرب ضد الطرواديين لكنَّ الحرب في الأساس لم يشنها الآخيون -ظاهريا- على الطرواديين بدون سبب بل كانت بسبب اختطاف الأمير الطروادي، باريس ابن بريام، لهيلين زوجة ملك إسبارطة مينيلاوس. لذا فإنَّ الطرواديين هم من كانوا البادئين بالاعتداء وهم سبب الحرب التي نشبت بينهما. والأمر الآخر فإنَّ أوديسيوس ولكونه ملك إيثاكا فهو مرتبط بمواثيق وعهود تجبره على الالتزام بالإبحار مع الملك أجاممنون نحو طروادة. نتيجة لكل هذا فلا يمكن بحال من الأحوال أن نأخذ حيلة حصان طروادة من منظور المكر الذي يسيء لأوديسيوس. أما الحيلة الثانية المشهورة لأوديسيوس فهي التي كانت مع بولوفيموس في كهفه، وكيف خدعه أوديسيوس بشرب الخمر ثم فقأ عينه أثناء نومه. وهذه الحيلة لم يلجأ إليها أوديسيوس اعتداءً على السيكلوب بل هي وسيلة لإنقاذه نفسه ورفاقه من قبضة السيكلوب الآكل للحم البشر والذي كان قد بدأ سلفًا بأكل عددٍ من رفاقه وتوعَّد بأكل البقية وفي آخرهم أوديسيوس إكرامًا له على الخمر التي سقاها إياه. وهنا أيضًا لا يمكن أن تُؤوَّل الحيلة بالمكر السيئ ضد أوديسيوس فقد التجأ إليها دفاعًا عن النفس لا ظلمًا أو تجاوزًا على حقوق الآخر. أما الحيلة الثالثة الشهيرة فهو حيلة التحول إلى شيخ من أجل الانتقام من الخطَّاب التي تنتهي بالمذبحة في ساحة بيته. وهذه الحيلة لا تخص أوديسيوس وحده ولا يستطيع بمفرده أن يقوم بها لكنَّها أتت بفضل الإلهة أثينا وتدبيرها فهي حيلة مشتركة ابتدأتها أثينا ثم أتى الدور على بينيلوبي التي أعلنت مسابقة القوس والفؤوس الاثنتي عشرة وأكملها أوديسيوس بالانتقام. وكما هو واضح فإنَّ الحيلة هي أكثر الحيل التي لا يمكن أن تُؤول بحال من الأحوال سوءًا بحق أوديسيوس فما فعله كان بدافع أخذ الثأر ممن أهان شرفه ودنَّس بيته واستنزف خيراته عدوانًا وضايق زوجته طالبًا منها الزواج وتآمر على قتل ابنه.
إنَّ سمة الحيلة والمكر عند أوديسيوس هي ممزوجة في طباعه ولا يعني أنَّه لا يُخطئ أو كل ما يقوم به مستعينًا بدهائه ومكره هو صواب، فنرى توبيخ آخيلوس له حين أتاه أوديسيوس رسولا من أجاممنون يسترضيه من أجل العودة إلى الحرب لكن آخيلوس يأبى ويصف أوديسيوس بالرجل الذي يقول شيئًا ويخفي شيئًا آخر، وأنَّه -أي آخيلوس- يفضل الموت على هذا. تكشف هذه الكلمات والاتهام لأوديسيوس عن صيت شائع عن أوديسيوس بأنه رجل ليس بالسهل الواضح ولا الغرِّ اليسير خداعه لكنه داهية ومحنِّك وصاحب حيلة وخديعة يعرف كيف يُنجي نفسه من المخاطر بفضل ذكائه وليس هو الذي يقع في شر أعماله ومكر السوء.
أما التهمة الأخرى التي توجَّه إلى أوديسيوس بأنه خائن لزوجته وبكونه شريك فراش لأخريات عكس بينيلوبي، الزوجة الوفيَّة، فهذا ما يمكن تفنيده من الأوديسة نفسها التي تذكره شريكًا لفراش سيرسي وكاليبسو.
إنَّ أول ذكر لعلاقة أوديسيوس مع المرأة يبدأ في الحلقة الخامسة مع كاليبسو لكنَّ هذه العلاقة ومكثه معها كانت غصبًا ورغم إرادته وعكس رغبته، وحال أوديسيوس خلال هذه السنوات السبع سيئة ملئها الأسى والدموع على إيثاكا المُبعدَ عنها. فيذكر هوميروس (ترجمة أمين سلامة):
“… فانطلقت الحورية الجليلة إلى أوديسيوس العظيم القلب، بعد أن علمت برسالة زيوس فوجدت أوديسيوس جالسًا على الشاطئ، يذرف الدموع من عينيه بلا انقطاع، وقد أخذت حياته تذوي، إذ كان يتحرق شوقا الرجوع إلى وطنه، لأن الحورية، لم تكن بحال من الأحوال، موضع غبطة ناظريه. وكان عليه أن ينام الليل إلى جوارها في الكهوف الفسيحة رغمًا عنه، وضد إرادته، أما في النهار فكان يجلس فوق الصخور والرمال، معذبًا نفسه بالعبرات والأنين والهموم، وكان يتطلع إلى البحر الصاخب، ويتحسر ذارفًا الدموع”.
لا تحتاج أبيات هوميروس إلى شرحٍ وتعليق فهي دالة على ذاتها بذاتها بيانًا وإفصاحًا عن حقيقة العلاقة التي ربطت الاثنين. ويأتي الدليل الآخر عن حال أوديسيوس ورغبته بترك كاليبسو على لسان محتجزته إذ تقول (ترجمة أمين سلامة):
“… إلا إن رغبةً جامحة ملحة تتملكك، لرؤية زوجتك التي تتوق إليها يومًا بعد يوم. وإنني لأعلن عن نفسي، أنني لستُ بحال ما، دونها جمالا ولا قواما، إذ لا يليق قط أن تتحدى نساء البشر الخالدات في الهيئة والفتنة”.
توضِّح هذه الأبيات ضمنيًا عن تفضيل أوديسيوس لبينيلوبي الفانية على كاليبسو الإلهة، وهو ليس بتفضيل عادي إذا عرفنا أنَّها رغم جمالها وكونها من الخالدات فقد عرضت عليه الخلود والشباب الأبدي لتقوِّي من موقفها وتستميلها إليه لكنَّه يرفض هذا العرض المغري ويختار الفراق بعد أن أتاحت له الآلهة ترك كاليبسو. ويؤكد أوديسيوس هذا الأمر بعدما يعود إلى إيثاكا وينتقم من الخطَّاب ثم يلتقي بزوجته ويقص عليها ما حدث له خلال رحلة العودة فيقول بشأن كاليبسو (ترجمتي):
“… وعدته أن تجعله خالدًا، لا يشيخ طوال عمره،
نعم، لكنَّها قط لم تربح قلبه الذي بين جوانحه، إطلاقا…” 23:380
قد لا يكون من السليم الأخذ بكلام أوديسيوس عن نفسه لكن ثمة ما يقوي هذه الاعتراف ويجعلنا نأخذ به، وهو أنَّ هوميروس لم يجعل الكلام على لسان أوديسيوس بصيغة الخطاب المباشر في زمن الحاضر بل جعله خطابًا بصيغة الضمير الثالث في الزمن الماضي وعلى لسان راوٍ عليم بأسلوب خطاب حر غير مباشر، ومن غير المستبعد أنَّها التفاتة ضمنية داعمة من هوميروس لموقف بطله في الإخلاص لزوجته.
أما العلاقة الثانية التي كان فيها أوديسيوس شريك الفراش فكانت مع سيرسي، لكن هذا الرقاد لم يكن برغبة أوديسيوس بل أمرٌ من الآلهة ولأجل غاية محددة تذكرها أبيات هوميروس على لسان رسول الآلهة هيرمس (ترجمة أمين سلامة):
“… وتأمرك بالرقاد معها بعد ذلك، إياك أن ترفض الرقاد في مخدع الربة، لكي تطلق سراح زملائك، وتقدم لك الضيافة”.
لذا فلا يمكن بحال من الأحوال مجددًا أن نأخذ هذا الرقاد مع سيرسي على أنَّه خيانة لبينيلوبي أكثر من كونه امتثالا لأمر الآلهة ولتخليص زملائه وإبطال مفعول السحر الذي حوَّلهم إلى خنازير في حظيرة سيرسي.
أما الحالة الأخيرة التي تضع أوديسيوس في اختبار مع عالم المرأة وإتاحة إمكانية تفضيل إحداهن على بينيلوبي كانت مع الفياكيين حين يعرض عليه ملكهم ألكينوس أن يتزوج ابنته ناوسيكا المشرفة على الزواج فيقول (ترجمة أمين سلامة):
“وبحق أبينا زيوس، وأثينا، وأبولو، إنني لأتمنى أنَّ مثلك أيها الرجل العظيم، الذي يعدلني عقلا، يتخذ ابنتي زوجةً، وتُسمى ابني، وتبقى هنا ولو طاب لك البقاء هنا لأعطيتك بيتًا وممتلكات؛ ولكن لن يحتفظ بك أحد من الفياكيين ضد رغبتك…”
فهل ثمة عرض مغرٍ لأوديسيوس أكثر إغراءً من أن يتزوج ابنة الملك ويحظى بكل هذا الفضل والتكريم لكنه المحب لزوجته والتائق إلى إيثاكا يرفض هذا العرض وإن لم يرفضه صريحًا لكنه شكر عرض الملك بدعاءٍ إلى زيوس بأن يصل إلى وطنه إيثاكا.
بعد كل هذه الأمثلة من متن الأوديسة فما من حجة بعد على اتهام أوديسيوس سواء بتأويل كونه الكثير حيل بالسوء أو اتهامه بخيانة زوجته على النقيض من وفائها له، وأبيات هوميروس هي الحكم والقول الفصل.
نساء الأوديسة
تلعب النساء في الأوديسة دورًا مهما لم تلعبنَه في الإلياذة، فالإناث في الأوديسة شاخصات في كل أناشيد الأوديسة تقريبًا- إلاهاتٍ وبشرًا ووحوشًا وأشباحَ نساء ميتات كـ: أثينا وسيرسي وكاليبسو، وبينيلوبي وهيلين وناوسيكا وأريتي ويوروكليا، والسيرينس والسكولا والخاروبديس، وتورو وأنتيوبي وألكميني وأخريات، إضافة إلى شخصيات نسائية عديدة من خادمات ووصيفات. ولحضورهن هذا دور في تسيير عجلة الأحداث وتعجيل رحلة العودة أو إعاقتها وعند الوصول إلى الذروة في نشيد المذبحة فإن السبب خلفه هو المرأة، وبعد أن يقتصَّ أوديسيوس منتقمًا من الخطَّاب فإنه لا يعفو عن الخادمات الخائنات والآثمات اللاتي ارتكبن الفاحشة مع الخطَّاب ودنسنَ بيتهن ليُقتلن مشنوقات كذلك.
يبدأ دور النساء في الأوديسة بدعاء الإلهة أثينا لأبيها زيوس وطلبها أن يُعفى عن أوديسيوس ويعود إلى أهله بعد قرابة عشرة سنوات من تيهانه في البحر، فيستجيب زيوس، كبير الآلهة، لدعائها ويُرسل من أجل تحريره إلى كاليبسو. تأخذ كاليبسو الدور التالي باحتجازها لأوديسيوس في جزيرتها مدة سبع سنوات كاملة وفي مطلع الثامنة يأتيها الأمر الذي لا تستطيع رفضه بالسماح لأوديسيوس بأن يرحل عن جزيرتها لتطيع الأمر بعد لأي ساخطة من أمر الآلهة الذين لا يتركونها تعيش بسعادة. وبعد أن يترك كاليبسو ويرحل على طوف في البحر يراه بوسيدون فيغضب ويسلط عليه غضب البحر والريح وبعد أن يتحطم طوف أوديسيوس ويبقى عائما في البحر تظهر له ربة البحر “ليوكوثيا” وتمنحه خمارا يبسطه تحت صدره وترشده إلى طريق النجاة، وتكمل نجاته أثينا التي أوقفت الريح، ثم يصل أوديسيوس إلى جزيرة الفياكيين ويلتقي بالأميرة ناوسيكا التي كانت تغسل الثياب مع وصيفاتها فتستجيب لمناشدته إياها وطلبه المساعدة وتطلب منه أن يغتسل ويلبس وتأخذه معها إلى والده الملك ألكينوس الذي يساعده بالعودة إلى موطنه إيثاكا.
أما فيما عاناه أوديسيوس في جزر البحر والمخاطر فيبرز دور الساحرة سيرسي وكيف أرشدته الذهاب إلى منزل الأموات “هاديس” والذهاب إلى لقاء العرَّاف تايريسياس الطيبي الذي يُنبئ أوديسيوس بالقادم من الأيام والأحداث التي سيواجهها.
تلعب أثينا دورًا مهما وبارزًا على كل النساء في الأوديسة ابتداءً من دعائها لتحرير أوديسيوس ثم ظهورها لابنه متجسِّدة بهيئة مينتور ونصحها إياه ومساعدته بالذهاب عبر سفينة إلى نسطور ومينيلاوس للتقصي عن أخبار أبيه ثم الظهور له في الحلم تحثّه على الاستعجالَ بالعودة إلى إيثاكا. وبعد أن يصل أوديسيوس إلى إيثاكا فتكون أثينا باستقباله وتحوله إلى متشرد عجوز حتى يصل إلى بيته. هناك في بيته فإنَّ أوديسيوس يواجه نساء بيته سواء من أسأن له أو أحسنَّ إليه ويكون لمربيته يوروكليا دورٌ في معرفة هُويته من خلال نَدبة ركبته. ويحظى أوديسيوس مجددًا بمساعدة أثينا في مذبحة انتقامه من الخطَّاب إذ جعلت رماحهم تطيش عنه نحو الأرض والجدران، ويكتمل دورها في نهاية الأوديسة بإيقاف المعركة التي كانت على وشك النشوب بين أوديسيوس ورفاقه وبين ذوي الخطَّاب الذين جاءوا للانتقام. وفي نهاية المطاف فإن بينيلوبي هي المرأة التي نالت قصتها أحد أجزاء مواضيع الأوديسة الثلاثة، سواء في مغازلة الخطَّاب لها، أو علاقتها مع ابنها تيليماكوس، أو في انتظارها لأوديسيوس مدة عشرين عاما، أو اختباراها أوديسيوس بعد أن عاد وانتقم من الخطَّاب. فلها دورها في الأوديسة الذي يجعل من نساء الأوديسة الكفة الأثقل والحضور الأكبر مقابلة مع رجال الأوديسة ودورهم في تسيير الأحداث وتغيير مسار عجلتها.
آلهة الأوديسة
على النقيض من الإلياذة فإن لآلهة الأوديسة حضور باهت ومقتصرٌ تقريبا على أثينا، وبوسيدون في أكثر من موضع، إلا إنَّ الدور الذي لعبته الآلهة في الإلياذة وتجسُّدها وتدخلها المباشر في سير الأحداث وإنقاذ الأبطال من مصيرهم أو تعجيله لا يتكرر في الأوديسة. ويدل هذا على التطور في تصوِّر الآلهة وعالمها في المِخيال الهوميري والإنساني في وقته ويزيد الأمر على ذلك إن آلهة الأوديسة تتعامل مع شخصيات محددة هم الجيل السابق للإلياذة، أما الأجيال اللاحقة فقد حُرمت من هذه المعاملة الخاصة التي تمحضها الآلهة للبشر سواء أفي صالحهم كانت أم في عكس ذلك. ولعل مِصداق هذا ما حدث في النشيد السادس عشر عندما التقى أوديسيوس بابنه تيليماكوس، فبعد أن يكشف أوديسيوس هويته لنفسه بمساعدة أثينا التي أعادت إليه هيئته الأصلية وتكون غير مرئية في عين تيليماكوس. يقول هوميروس (ترجمتي عن الإنجليزية):
“… مرئيةٌ لأوديسيوس
لكن تيليماكوس لم يستطع رؤيتها، أو يحس بوجودها هناك-
لا تُظهر الآلهة أنفسها لكلِّ امرئ حيّ.
رآها أوديسيوس، وكذلك الكلاب؛ ما من نباح الآن،
أنَّت الكلاب، وارتدت مبتعدة مرعوبة عبر الساحة”. 16:180
يكشف هذا على كون أوديسيوس وجيله من الأبطال هم متفردون في علاقتهم مع الآلهة ومساعدتهم لهم أو غضبهم عليهم، وهم بذات الوقت يمثلون حدًا فاصلًا ما بين مرحلة كانت الآلهة في تماس مباشر تتأثر بتقصير البشر في حقوقها وأضاحيها معها فتغضب وترضى وتفرح وتحزن كما حدث مع مينيلاوس الذي أضاع طريق العودة لأنه لم يقدم القرابين قبل أن تغادر سفينته أرض مصر أو في نصيحة هيرمس لأوديسيوس بأن يأكل من العشبة التي تبطل سحر سيرسي فلا ينفع معه أو في مساعدة إله الريح أيولوس لأوديسيوس فجمع له الرياح في كيس كبير من أجل أن يعود إلى إيثاكا لكن جشع رفاقه يُفسد هذا، وبين مرحلة أخرى تتسامى فيها الآلهة عن البشر وتتجه نحو الأخذ بحالة الإلوهية على نحو تامٍ ومنفصلة عن البشر كليًا، فكثيرًا ما جدَّف تيليماكوس بحق الآلهة واتهامه إياها أنها السبب فيما يحصل في منزله مع الخطَّاب وتمرُّ هذه التجديفات دون أي اعتبار يُذكر عكس لو فعله أوديسيوس أو غيره ممن ترضى أو تغضب عليهم الآلهة بسبب أفعالهم.
ونرى أيضًا أن الآلهة في الأوديسة تخضع إلى زيوس كبيرها تمامًا فلا تُعارض أمره وتنفذ جميع ما يطلبه عكس ما كان يحدث في الإلياذة إذ قد تحدثها نفسها بمخالفته أو تتجاوز حدودها معه مثلما حدث مع هيرا، لكن في الأوديسة فتختفي جميع هذه الاستثناءات وتبقى الأمور كلها بيد زيوس صغيرها وكبيرها، كما حدث في دعاء أثينا لأبيها فهي لا تستطيع أن تفعل شيئًا دون زيوس الذي يطلب من هيرمس أن يذهب إلى كاليبسو وينقل لها قرار الآلهة بتحرير أوديسيوس. وكذلك في انتقام بوسيدون من أوديسيوس بموافقة زيوس بعد أن استجاب لدعاء ابنه بولوفيموس أو انتقامه من الفياكيين الذين ساعدوا أوديسيوس في العودة إلى إيثاكا إذ يمنحه زيوس صلاحية فعل ما يريد. وفي دعاء هيليوس، صاحب القطيع المقدَّس الذي ذبح منه رفقاء أوديسيوس، طالبًا من زيوس الانتقام له فضرب سفينة أوديسيوس بصواعقه فحطّمها وأهلكَ رفاقه. وهكذا فثمة مستوى جديد في الأوديسة في عالم الآلهة السماوي مختلف كثيرًا عن عالم الإلياذة السماوي، ويُصبح فيه زيوس أكثر تفرَّدًا في الحكم والمشيئة وتغيير الأحداث وتنفيذ الأقدر، ومستوى جديد في علاقة الآلهة المرتبطة بالبشر إذ بلغ نهاية مرحلة التواصل المباشر والتدخل الشخصي وشرع المستوى الجديد للآلهة بالانفصال التام عن عالم البشر وانتهاء حقبة كانوا فيها لا يفرقون كثيرًا عن البشر في عواطفهم وما فاقوهم إلا بالقدرات المميزة التي يتمتعون بها كونهم آلهة.
تتمة الأوديسة في الأدب العالمي*
تعد شخصية أوديسيوس الإغريقية (عوليس باللاتينية) واحدة من أهم الشخصيات الخيالية والمؤثرة في الأدب العالمي. فمغامرات بطل هوميروس صاحب أشهر رحلة عودة إلى بلاده في ملحمة الأوديسة وصاحب فكرة حصان طروادة الذي كان سببا لتدمير المدينة العصية على الغزاة كما في الإلياذة، لم تنتهِ بعودته إلى إيثاكا. فكان الشاعر Stesichorus من أوائل من تأثروا بأوديسيوس وكتبوا مغامرات جديدة له في القرن السادس قبل الميلاد، وتأثر به الشاعر الروماني فرجيل في ملحمة الأنيادة، التي تعد أصلا للأدب الروماني كحال ملحمة الإلياذة في الأدب الأغريقي. ولم تكن الإنيادة تتمة لمغامرات لكنَّها كانت ذات سياق شبيه ومقابل للأوديسة عبر رحلة الطروادي آينياس الذي سيصبح الجد الأعلى للرومان. واستمر حضور أوديسيوس في الأدب العالمي، فيجعله دانتي (الذي اتخذ شخصية أوديسيوسية متنقلة في دوائر الجحيم شاهدة على العذابات في الجحيم ثم يصعد إلى المطهر مختتما رحلته في الفردوس) في كوميدياه الإلهية من أهل الجحيم عقابا له على حيلة طروادة. لكن دانتي يصف سعي عوليس الدؤوب للمعرفة ليبدو بصورة بطولية أكثر من كونها ملعونة. ويخبره أنَّه بعد تركه جزيرة إيا Eëa والإلهة سيرسي، تقوده رغبته لنيل الخبرات “المعرفة” إلى المجهول دون التوقف في إيثاكا، فيرى جبلا مظلما لكنَّ زوبعة ترسل إلى سفينته وتدمرها ويتبلعه البحر بعدها. وأتمَّ نيكوس كازانتزايكس رحلات أديسوس في ملحمته الشعرية الأويسة- تتمة عصرية. وهي محلمة شعرية مكونة من 33333 بيتٍ شعري (كل بيت مكون من 17 مقطعا شعريا كما في شعر الهايكو الياباني، مقسمة على أربعة وعشرين جزءا كما في النسخة الأصلية للأوديسة) بدأ نيكوس بكتابتها بعد عودته من ألمانيا إلى كريت عام 1924 ونُشرت عام 1938 وكان قد كتب سبع مُسوَّدات مختلفة. ويعدها نيكوس أهم أعماله التي أبان فيها عم سعة إطلاع بالميثولوجيا. وفي هذه الملحمة يغادر أوديسيوس إيثاكا بعد عودته متجها نحو إسبارطة حيث التقى بالمُغُوية هيلين وأقنعها بالهرب معه. استقرت هيلين في كريت لكن أوديسيوس ذهب يستكشف مصر ووسط أفريقيا ووجد مدينة لأهلها دين جديد، وفي النهاية مات أوديسيوس في مياه قارة أنتاركتيكا بعد محاولته تدمير جبل جليدي. لم تتوقف مغامرات أوديسيوس ولا إثمارات التأثر بشخصيته التي امتازات بالذكاء والثقة بالنفس والقدرة على التخفي والتعامل مع الأوضاع المختلفة، وانتقلت إلى القصص التراثية اليابانية، فظهرت لنا شخصية يوريواكا Yuriwaka، البطل الياباني الشجاع لقصة الانتقام الياباني، الذي اشتهر بقوسه الحديدي الهائل. وبعد انتصاره على القوات المغولية يخونه مرؤوسه بيبّو ويتركه في جزيرة، ويرحل ليغتصب مقاطعته. يرسل يوريواكا صقره (ميدوري-مارو) برسالة إلى زوجته، التي تتضرع بعدها في المعبد للتدخل العناية الإلهية ويعود يوريواكا إلى مقاطعته. ويخفي هويته الحقيقية حتى اللحظة التي يثبت فيها مقدرته على القوس الحديدي وينتقم لنفسه من الخائن. وحبكة القصة تشير بكل وضوح إلى أوديسيوس هوميروس على الرغم من أن بعض الباحثين نفى هذا، ويعود أقدم نص لحكاية يوريواكا إلى القرن السادس عشر. واستعار الشاعر ديريك والكوت من شخصيات وأحداث ملحمتي هومر الإلياذة والأوديسة في كتابة ملحمته الشعرية قصيدة Omeros والتي يتجول فيها بطل باسم “آخيل” في المياه الكاريبية. واُختيرت هذه الملحمة الشعرية من قبل الواشنطن بوست والنيويورك تايمز ضمن قائمة أفضل كتب العقد الأخير من القرن العشرين. والعمل الأشهر الذي يعد من ثمار تأثيرات شخصية أوديسيوس هو رواية عوليس للروائي الأيرلندي جيمس جويس والتي نُشرت في عام 1922 في باريس بعد أن نشرت دوريا في مجلة Little review الأمريكية. اُقتبِس عنوان الرواية من اسم أوديسيوس وماثلت شخصياتها أبطال الأوديسة (بينيلوبي”زوجة أوديسيوس” = موللي “زوجة بلوم”، وتيليماكوس “ابن أوديسيوس”= ستيفن “صديقه”) وبالطبع (ليوبولد بلوم = أوديسيوس) الذي يقضي يومه في دبلن. تأخذ الرواية قارئها في رحلة داخل وعي أبطالها مستخدما جويس كل تقنيات تيار الوعي كالتداعي والذكريات والمونولوج الداخلي مع تدخلات سردية غير مباشرة، أضفت إلى الرواية مقاما خاصا في تاريخ تطور الرواية وأدب الحداثة.
_________
-*The Fictional 100 by Lucy pollardGott
Writers their lives and works-