تأملات في الترجمة

أمارس الترجمة منذ سنوات غير أني لا أحسب نفسي مؤهلا للتنظير فيها لأني لم أدرسها، ودخلتها قارئا محبا للأدب واللغة، ورغبة في نقل النصوص إلى العربية، وما لهذا من إيجابيات وسلبيات. لكني أقر أنني أبذل جهدا في الترجمة جعلني أتعامل مع النص بروح الكتابة وجسد النص لا آلية الترجمة وحتمية القواعد، فأنا كاتب قبل أن أكون مترجما، وقارئ قبل أن أكون كاتبا، ومحب للأدب قبل أن أكون قارئا. عليه فإن حديثي في الترجمة هو حديث أدبي أكثر منه حديث تقني، وهذا ما أفضله، فالترجمة عندي، لا سيما مؤخرا، كتابة وفلسفتها قائمة على الابتكار الموازي والمحاكاة الإبداعية دون الخروج عن الأصل أو الانحراف عن النص.
ما الذي دفعني إلى تدوين هذا الكلام؟ سطر من الشعر النوردي يقول: love conquers all. Let us too yield to love.
فإذا ما تجاوزنا إشكالية ترجمة الترجمة، فسندخل في صلب الموضوع. ما المقابل لهذا السطر الشعري؟ عندما قرأته أول مرة، قرأه عقلي الرومانسيّ، والرومانسية هنا النزعة إلى التصوير العاطفي ومشاعر الحب والغوص في عالم الأنوثة، الحب يسود العالم. هلمي نخضع له. قابلت بين السيادة والخضوع، أحب الموازنة اللغوية في هذه الأحوال، الطباق. أحب العربية وبلاغتها، لذا أسعى إلى الترجمة البليغة لا سيما في النصوص القديمة، وفي هذا قوة وضعف، ليس هذا مقامها. أعدت النظر في الشعر، وفي البيئة الاجتماعية النوردية، فإن كاتب السطر قصد بالConquer وYield المعنى القتالي غزو، فتح، احتلال، مقابل استسلام، خضوع، تنازل. الشعر ابن لغته، واللغة ابنة البيئة، والشاعر يصور الحب تصويره لحياة قومه، في حرب وقتال وصراع، فالحب حرب، وللحرب لغتها، وللحب لغته، إذن فللحب لغة الحرب، الحب يغزو ويفتح ويقتل والمحب يُغزى ويُفتح ويُقتل، ولأن المحب متشبث بالحياة هو يريد أن يحيا، إذن ليستسلم ويخضع. رجعت إلى السطر وعدلته إلى الحب يغزو العالم. هلمي نستسلم له. لكن الشاعر كان أكثر حرصا من عقلي اللغوي فقد كرر الحب مرتين، مرة عند الغزو ومرة عند الاستسلام، وفي التكرار ما يؤكد القوة والحقيقة، يؤكد سطوة الحب. إذن لتكن الحب يغزو العالم. هلمي نستسلم للحب. فرجعت للسؤال لم العالم بدلا من الناس أو الكل، الحب يغزو البشر، ولاستخدم الشاعر ما يدل على العالم والدنيا لو أراد بذلك انتشار الحب، لكنه أراد الناس، العشاق دون سواهم، لذا بدت لي العالم بمعناها الواسع تبعد قليلا عن المقصد، لتكن الكل، والكل أي الناس جميعا. الحب يغزو الكل. هلمي نستسلم للحب. ولا بد من الابتعاد عن أهوائي الرومانسية في الترجمة، لا شيء في الشعر يشير إلى أنه يخاطب محبوبته، فلم مخاطبتها في الترجمة؟ مع أن الترجمة الشعرية تتيح استعمال فنون الشعر، وتصبح هلمي أكثر وجدانية في نفس القارئ، لكن آثرت الدقة. الخطاب لنا جميعا، الناس أو العشّاق، لنستسلم للحب. غير أن الشاعر مرة أخرى كان أكثر دقة في التأكيد باستخدام Too أيضا، أي إن الاستسلام ليس خطابا عاما موجها للناس، بل لمخاطَب محدد، ما دفعني أول مرة إلى هلّمي، فكان لا بد من التأكيد على المخاطَب المحدد، فكان التأكيد اللفظي بإضافة الضمير نحن بعد الفعل نستسلم الحل في جعل خطاب الاستسلام للحب مخصوصا أكثر منه عموميا، مع أن رسالته للعامة باقية. ارتضيت أخيرا أن أقول الحب يغزو العالم. لنستسلم نحن للحب.
بدأنا بالحب وانتهينا بالحب.
هامش:
الحب يغزو الكل. لنستسلم نحن للحب.
هذا الشعر نُقش على حجر بأبجدية رمزية صوتية تُعرف بـ Futhark، أقدم صيغة للأبجدية الرونية المستعملة في تدوين اللغة النوردية القديمة. استعملتها القبائل الوثنية في الألفية الأولى في شمالي أوروبا للتعبير اليسير لا الكتابة. عرفت هذه الكتابات بالنقوش الرونية، واستخدمت لتذكر أشياء مهمة مثل ذكرى حادثة أو معلومة عن ميت أو تنصيب ملك. غير أن سطوة الحب تسود في أحلك الظروف.
كان أكثر انتشار هذه النقوش في السويد، وخلدت عشرات النقوش رحلة المغامر السويدي ينغفار إلى الشرق نحو روسيا وجورجيا وما وراءها في القرن الحادي عشر. ذكرت هذه النقوش اسم بلاد سيرك Serkland، وهو لفظ استخدم مرادفا لبلاد الساراسين، أي بلاد المسلمين، في النصوص الآيسلندية كما لدى المؤرخ سنوري ستورلوسن. لا معنى معروف لسيركلاند لكن قد يكون مشيرا إلى طريق الحرير أو حتى بلاد الشرق (سرق: سرك، إحدى معاني ساراسين).