التراث الآيسلنديالتراث الأدبيقصة قصيرة

حمقى الغابة

حكاية من التراث الآيسلندي

ترجمها عن الآيسلنديّة: بن فاغونر 

ترجمها عن الإنجليزية: مؤمن الوزان

استهلال

حكاية حمقى الغابة واحدة من ثلاث حكايات تؤلف سيرة الملك قوطرك The Saga of king Gauterk، وهي من أشهر السير في التراث الآيسلندي وأكثرها تداولا إذ وجد لها نحو خمس وخمسين مخطوطة يرجع تاريخها إلى ما بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر، ويرجع تاريخ أقدم مخطوطة إلى سنة 1400 لكن بقيت منها صفحة واحدة. 

ليس بين حكايات السيرة الثلاث حكايات رابط يجمعها عدا تكرر ظهور شخصية الملك قوطرك ابن الملك قوطي في حكايتين، لكنه ظهور لا يجعل الحكايتين نصا مترابطا. ترجمت هنا الحكاية الأولى بعنوان “حمقى الغابة” وهو عنوان تحريريّ ليس في أصل السيرة، وتسمى في بعض المصادر حمقى الوادي. إنّ الحس الساخر في هذه الحكاية فريد في الأدب الآيسلندي التراثي لا سيما أنّه يُضمر أكثر مما يفصح ويرتبط بالمعتقد الإسكندنافي عن أودين وفالهالا، وتقدم في قالب اجتماعي عن عائلة تعيش حياة منعزلة في مزرعة بغابة. زوّدت الحكاية بهوامش تفسيريّة حتى تتبيّن مقاصدها وتفهم على الوجه المطلوب ويدرك القارئ السخرية في هذه الحكاية. اعتمدت في نقل الحكاية إلى العربية على ترجمة بن فاغونر في كتابه Six Sagas of Adventure الصادر في سنة 2014 عن منشورات Troth. 

I

نبدأ من هنا بحكاية مرحة عن ملك يُدعى قوطي، وكان رجلا حكيما كريما حاذقا بليغا. حكم بلاد القوط الغربيّة الواقعة ما بين النرويج والسويد، إلى الشرق من جبال كيولِن، وفصلَ نهر القوطا ألف بلاده عن بلاد اللاب. اكتظّت البلاد بالغاب كثيفة الأشجار والأحراش، وعسيرٌ على المرء الارتحال فيها لا سيما حين تذوب الثلوج وتحال الأرض طينا. اعتاد الملك المذكور الذهاب إلى الغاب ترافقه كلابه والبوازي، إذ أحبَّ الطَرَد ووجدَ مُنى النفس في هذه الرياضة. تناثرت المستوطنات في الغاب المنبسطة في البلاد، إذ سعى رجال إلى قطع الأشجار وبناء المساكن بعيدا عن المدن حيث عاش معظم الناس، وما التجاؤهم إلى هذه المساكن القصيّة إلا لجرائم ارتكبوها. فقصدها رجالٌ لغاية في نفوسهم، وآخرون حتى ينعزلوا عن الناس يحسبون أنّهم في انعزالهم سيسلمون من شرور قومهم وسخريّتهم ويبقون في منأى عن الرَّعاع. عاشوا في الغاب دون أن يلتقوا امرأ خلا أولئك الذين شاركوهم السكنى وكانوا على قربٍ منهم. رغب كثيرٌ في البحث عن مأوى قصيّ عن الدروب المطروقة، فلا يأتيهم أحد ولا يزورهم سوى من ضيّعته قدماه في الغاب وبلغوا مساكنهم من غير قصدٍ، وإلا فلن يقتربوا من مساكنهم عن نيّة أبدًا. 

خرجَ الملك قوطي الذي ابتدأنا بذكره ترافقه حاشيته وكلابه لصيد الحيوان والوحوش في غابة. أبصرَ الملكُ أيّلًا بديعا فتولّعت نفسه بصيده. أطلقَ كلابه فطاردت الأيّل بسرعةٍ وبقي في أثره حتى شارف المغيب. حين أسدل الليل ظلمته كان الملكُ وحده، وأوغلَ في الغابة حتى ضيّع رجاله وما عرف إليهم سبيلا لظلام الليل ولقطعه مسافة شاسعة في النهار. زاد على ذلك أن قذف الملكُ رمحه على الأيّل فجرحه وعلق به، وما رغب قط بترك رمحه لو استطاع استرجاعه، ورأى عارًا في العجز عن استرداد سلاحه. أسرعَ في أثر طريدته بشدّة تركته يخلع ثيابه وما بقي إلا ما ستر سوءته، وعدا حافي القدمين بعد أن ضيّع حذائيه، وجرّحت الأحراش والأحجار ساقيه وقدميه. ما استطاع الملك صيد الأيّل، وساد الظلام حتى إنّه ما عرف أي جهة يقصد. سكت الملك وأنصتَ على أمل أن يتناهى إلى سمعه شيء، ما دام سكوته طويلا فسمع نباح كلب واتّجه إلى حيث النباح، إذ حسب أنّ أناس لا ريب يعيشون هناك. رأى الملكُ مزرعة صغيرة ورجلا قائما خارجها بيده فأس حطب. حين أبصرَ القادمَ إلى المزرعة اندفعَ إلى الكلب وقتله قائلا ’لن تهدي الضيوف إلى إلينا بعد اليوم، فإني أرى رجلا ضخما سيأكل كل ما بحوزة المزارع إذا دخل هذه الحجرات. وهذا ما لن يكون لو وسعني إلى ذلك سبيل‘. سمع الملك كلماته وابتسم لها. جال في ذهنه أنّ من العسير عليه أن ينام في العراء، لكنه على غير ثقة أنه مرحّب به أو أن القوم سيدعونه إلى بيتهم. مشى راسخ الخطوة إلى الباب فاعترض الرجلُ القائم عند الباب دربه، لكن جعله يدرك بسطوة قوّته عليه ودفعه مزيحا إياه عن دربه. دخلَ الملك حجرة المعيشة، وكان فيها أربعة رجال وأربع نساء. ما حيّا امرؤ الملك قوطي لكنه قعد مثلهم معهم. فاه رجلٌ بدا عليه أنّه ربّ البيت دون غيره ’لم سمحت لهذا الرجل في الدخول؟‘. أجاب العبد عند عتبة الباب ’إنّه قوي جدًا وليس لي قوة لصده‘. 

سأل الفلاح ’ماذا فعلت حين نبح الكلب؟‘. 

أجاب العبد ’قتلت الكلب لأني لم أرغب أن يبدي شراسته التي تقود الناس إلى المزرعة‘. 

سأل الفلاح ’يا لك من عبد مخلص! وعلى الرغم من ساعة العسرة هذه فما عليك من ملامة. أنّى لي أن أكافئك بجائزة تعادل فطنتك، لكني سأجازيك في الصباح وستذهب معي‘. 

كان البيت جيّد البناء، وأهله طوالا حسانا في أشخاصهم. أبصر الملكُ خوفهم منه، نصب المزارع خوانا ووُضعَ الطعام عليه، وحين لم يُقدّم للملك الطعام قعد بجوار المزارع وشرع في تناول الطعام والأكل بنهم. نظرَ المزارع إليه وتوقّف عن الأكل وألقى قلنسوّته على عينيه1. لم يتبادل امرؤ كلمة  وصاحبه. بعد أن أكمل الملكُ الأكل رفع الفلاح القلنسوة وأمرَ أن ترفع صحاف الطعام من الخوان- ’ما عاد هنا شيء يؤكل‘. ثم قصد أهل البيت الفراش. استلقى الملك أيضا لينام. اضطجع هينهة فجاءته امرأة وقالت ’ألا يستحسن أن تقبل مني فضلا؟‘. 

أجاب الملك ’يا لها من بشرى! إنّك تريدين محادثتي الساعة فالغمُّ يكسي وجوه أهل هذا البيت‘. 

قالت ’لا حاجة إلى أن تتعجب من هذا، فما زارنا ضيف طوال حياتنا، ولا أظن المزارع استلطفكَ ضيفا في بيته‘. 

قال الملك ’حين أرجع إلى بلدي سأجزل للمزارع العطاء على ما تكبّده من عناء بسببي‘. 

أجابت ’أحسبُ أنّ هذه الزيارة ستجلب لنا الشرف أكثر مما ستجلبه يداك‘. 

سأل الملك ’أود أن تخبريني بأسماء عائلتك‘. 

أجابت ’اسم أبي سكافنورتنغ، ودُعي بهذا الاسم لشدّة بخله بما يملك فلا يستطيع أن يتحمّل رؤية طعامه ينفد، أو أن يختفي شيء يملكه. اسم أمي توترا ودعيت بهذا الاسم لأنها لم ترغب في اقتناء ملابس خلا تلك التي عليها حتى بليت وصارت خِرقا. رأت في ذلك أمارة على رجاحة العقل2‘.         

سأل الملك ’ما أسماء إخوتك؟‘.

أجابت ’اسم الأول فيولمود، والثاني إمسيغول، والثالث غيلنغ‘. 

سأل الملك ’وما اسمك واسما أختيك‘. 

أجابت ’اسمي سنوترا، ودُعيت بهذا الاسم لأني أحكم فرد في العائلة. واسما أختيّ هيوترا وفيوترا3. بالقرب من المزرعة جرف صخريّ يُدعى جرف غيلنغ، وعلى أحد جوانبه موضع نسمّيه جرف العائلة. جرفٌ شاهقٍ شديد الانحدار يموت أي مخلوق إذا ما سقط منه. دعوناه بهذا الاسم لأنا اعتدنا الإنقاص من أفراد عائلتنا من فوقه حين يجري علينا أمرٌ رهيب. مات كلُّ عائلتنا من ذيّاك الجرف من دون معاناةِ مرضٍ، ومن ثّمَّ يذهبون إلى أودين. لا يضطر كبارنا إلى أن يُثقلوا كاهلنا أو أن نضيق بهم ذرعا فالموضع المبارك متاحٌ لكل عشيرتنا سواء بسواء. وما من حاجة للعيش في جوع أو فاقة ولا أن نصطبر على ملّمات تصيبنا أو كدر الحياة. اعلم أنّ أبي يرى قدومك إلى بيتنا أمرا غريبا أيما غرابة، ولمن العجب لو أكلٌ رجل من عامة الناس طعاما في بيتنا. يا له من حدث عجاب أن يقبل علينا ملك، بردانَ وبلا ثياب، فما وقع أمر كهذا من قبل قط. لأجل هذا سيقسّم أبويّ الإرث بيننا نحن الإخوة والأخوات في الصباح، لكنهما عازمان على أخذ العبد معهما إلى جرف العائلة، ومن ثَمَّ سيذبهون إلى فالهالا. يبتغي أبي مكافأة العبد على محاولته منعك دخول البيت، ولا يرغب أن يجازيه عن حسن نيّة بشيء غير أن يتمتّع بمباركة مرافقته. وبلا ريبٍ فإنّ أودين ما كان ليتلقّى العبد ما لم يكن في حاشية أبي4‘.                           

قال الملك ’إنّك خير أهل البيت فصاحة، وسأنيط ثقتي بك. لا شك أنّك بكرٌ ولزام عليكَ أن تشاركيني الفراش الليلة‘. سارعت الملكَ في هواه واستجابت لرغبته. 

حين استيقظ الملك في الصباح قال ’يا سكافنورتنغ أسألك من فضلك، لقد جئت إلى مزرعتك حافي القدمين، وأريد أن تهب لي حذائين من عندك‘. لم يجبه لكنه أعطاه حذائين، واستأثر بالرباطين. أنشد الملك: 

زوجان من الأحذية 

وهب لي سكافنورتنغ  

لكنه سلبهما الرباط. 

لن تنالَ يدك هدية بلا حيلة، 

فاسمع قولي، من الرجل الحقير. 

غادر الملك وأرشدته سنوترا إلى الطريق. خاطبها الملك ’أود دعوتك للقدوم معي، فأحسبُ أنّ شيئا سيكون من لقائنا. إذا حملتِ بصبيّ فليكن اسمه قوطرك، اسم مشتقٌ من اسمي وما عانيته من مصاب وتسببت به لأهلك5‘. 

أجابت ’أظّنك مصيبا فيما تحسبه، لكن لا يسعني مرافقتك الآن. سينال إخوتي وأخواتي حصصهما من إرث والديّ، إذ ينويان الذهاب إلى جرف العائلة‘. 

دعا لها الملك بحياة طيبة، وسألها أن تزوره أيّان ترى ذاك صائبا. ارتحل الملك حتى التقى رجاله، وعاش بسلامٍ بعدها. 

II 

لنقصّ الآن خبر أبي سنوترا الذي كان متربعا على ثروته حين دخلت البيت. قال ’نزلت بدارنا مصيبة، جاء هذا الملك إلى بيتنا والتهم ما هو حقّنا الصراح على مرأى منا، نحن الذين كنا أقل الناس رغبة في النزول عن حقّنا. ولا أرى سبيلا نحفظ به عائلتنا بعد هذا الخراب. لذا أضع بين يديّ كلّ ما أملك، وأنوي أن أقسّم الإرث بينكم يا أبنائي. أما أنا وزوجي والعبد سنذهب إلى فالهالا. ما من شيء في يدي أجازي به العبد على أمانته غير أن آخذه معي. ستنال يا غيلنغ وأختك سنوترا الثور النافع. وأنت يا فيولمود وأختك هيوترا ستنالان قضبان الذهب. وأنت يا إمسيغول وأختك فيوترا ستنالان الحبوب والمزرعة. أتوسل إليكم يا أطفالي ألا تكثروا من أعدادكم، فلن يسعكم الاستعانة بما أورثته إياكم إن كثرتم‘. 

بعد أن فرغ سكافنورتنغ مما أراد قوله قصدوا جرف غيلنغ. قاد الأبناء أباهم وأمهم إلى جرف العائلة وذهبوا بابتهاج وفرحٍ إلى أودين. تسلّم الإخوة والأخوات بعد ذلك مسؤولية المزرعة، واتّفقوا على إدارة شؤونهم كما ينبغي حقا. فأخذوا العصي والثياب الخشنة وتغطّوا بها، فلا يسع أحدهم لمس جلد الآخر. حسبوا أن هذا أسلم سبيلٍ ليضمنوا ألا تزداد أعدادهم6. كبرت بطن سنوترا وأدركت حبلها، فأرخت من مشابك ثيابها حتى يُستطاع لمس جلدها. تناومت عند أخيها ساعة استيقاظه فتمطّطَ بجسده ومدّ يده نحوها ولمس خدّها. حين صحا الأخ قال ’وقع أمرٌ حَرَجٌ هنا، ولا ريب أني آذيتك. تبدين كأنك أكثر سمنة مما اعتدتكِ‘. 

قالت ’اكتم السر خير الكتمان‘. 

قال ’لن أفشي السر، لكن حين يزداد عددنا فلن يسعنا كتمان الأمر‘. 

وضعت سنوترا بعدها ذكرا جميلا، وأسمته قوطرك. قال غيلنغ ’ضربتنا قارعة، ولن يسعنا إخفاء ما جرى. لا بد أن أذهب لإعلام إخوتي‘. 

أجابوه ’ما نفعنا تدبيرنا بشيء، والفضل في ذلك لهذه الملّمة التي نزلت بنا. إنّ هذا انتهاك آثم للأحكام‘. أنشد غينلغ:

ما أحمقني حين مددتُ يدي 

ولمست في تلك المرأة وجهها. 

إنسال الأبناء، أود القول،

أمرٌ يسير؛ بسهولة أُنجبَ قوطرك.

قالوا إنّه ليس الملام فيما جرى، ما دام ندمان عليه وما رغب قط في وقوعه. أعلمهم برغبته العارمة في الذهاب إلى جرف العائلة، وستخف فداحة الكارثة حينئذ. لكنهم طلبوا منه الانتظار برهة حتى يتبيّن ما سيكون.    

ربض فيولمود على ثروته طوال اليوم، وحيثما ذهب أخذ معه قضبان الذهب. اتّفق ذات يوم أنه كان نائما وحين صحا أبصر حلزونين أسودين يزحفان على قضبان الذهب. حسب أن قضبان الذهب تتآكل حيث لُطّخت بمخاطٍ أسود، وظنّ أنَّ كنزه تناقص جدًا. قال ’إن خسارة المال أمر شنيع، وإذا ما تكرر هذا فليس مستحسنا أن أقصد أودين مفلس الجيب. سأذهب إلى جرف العائلة ولن أقاسي الفاقة بعد، فما كان حالي منذرا بسوء قطُّ منذ أن وزّع علينا أبي ثروته‘. أعلمَ إخوته بالكارثة التي ضربته، وسألهم أن يتقاسموا إرثه، وأنشد: 

حلزونان غليظان 

أكلا الحجر أمام ناظري

ساءت الساعة كلّ أحوالي؛

ليس لي بدّ من الاغتمام

قد اختفى كلّ مالي  

حلزونان انقضّا على ذهبي. 

ثم قصد وزوجه7 جرف غيلنغ، من ثَمَّ قفزا من جرف العائلة. 

اتّفق ذات يوم أن كان إمسيغول يتجول في المزرعة، ورأى بأم عينيه في مزرعته الطائر الذي يُدعى عصفور، صغير الحجم كطائر القرقف. خشي أن تسوء أحواله وتتدهور، فتجوّل في الحقل فرأى الطائر قد التقط حبّة من سنبلة القمح. أنشد ساعتئذ: 

يا له من تبذير 

قد أفسد العصفور 

في فدّان إمسيغول. 

نكبةٌ في سنبلةٍ، 

وسرقةُ حبةٍ؛

في ذا مصابُ آل توترا أبدا.  

أخذ زوجه من ساعته وقصدا مبتهجين جرف العائلة. لم يرغبا في مقاساة خسارة مريرة شوطا طويلا. 

حين بلغ قوطرك السابعة من عمره كان في ساحة البيت وأبصر الثور النافع، واتّفق أن طعن الثور برمحٍ وقتله. شهد غيلنغ مقتله وأنشد: 

طعن الصبيّ الثورَ 

قبالة عيني وأهلكه 

فيا لها من نذر شؤم. 

لن أحظى أبدا 

بكنزٍ بهيج مثل ذا 

وإن طالت بي الحياة.   

قال ’إنّ هذا مصاب يفوق الاحتمال‘. ثم قصد جرف غيلنغ، ومنه إلى جرف العائلة بلا توانٍ. بقي في المزرعة امرؤان، سنوترا وابنها قوطرك، فهيّأت نفسها وابنها للرحلة. ارتحل الاثنان حتى بلغا الملك قوطي فرحّب بابنه وضمّه إليه. ترعرع الصبي في كنف أبيه وسرعان ما شبّ فتيًا. مرّت السنون وبلغَ قوطرك مبلغ الرجال تماما. 

مرض الملك قوطي مرضه الأخير فاستدعى صحبه وخاطبهم ’أيها الصحب الكرام لقد أخلصتم لي وأطعتموني في كلّ شأني، وإني أرى المرض قدّ تمكّن منيّ حتى إنه ليبتر صداقتنا عاجلا. أريد أن أحيطكم علما برغبتي في توريث مملكتي لابني قوطرك، وأخلع عليه لقب الملك‘. 

ابتهج الجمع بقول الملك وامتثلوا له. لفظ الملكُ قوطي بعدها آخر أنفاسه، ثم توّج قوطرك ملكا على بلاد القوط8، وامتلأت الحكايات القديمة بأخبار مآثره الفريدة. 

الهوامش:

1- من شدّة بخله لم يرغب أن يرى الملك وهو يأكل طعامه. وفي قصة سيغورد قاتل التنين في سيرة آل فولسونغ فإن أوتر، أخا ريغن، كان يصيد السمك ويأكله وحده مغمض العينين لأنه لا يصبر على رؤية طعامه ينفد. المترجم.

2- اسم سكافنورتنغ مشتق من الفعل النوردي Skafa ومعناه يقشّر أو يقشط والفعل narta بمعنى يضرب، والمعنى أنه يقشر لحاء الشجر لإطعام ماشيته دلالة على بخله الشديد. أما اسم تورتا فيعني خِرَق. بن فاغونر. 

3- فيولمود هو اسم طائر زمّار الرمل، وفي الحكايات الشعبية الآيسلندية فهذا الطائر أحط أنواع الطيور. إمسيغول يعني عناصر ذهب متنوّعة أو القنفذ القذر. غيلنغ يعني ذو الجودة الفائقة. سنوترا يعني حكيمة. فيوترا يعني أن تتكلم بحماقة، وهو من الدارجة النرويجية. وهيوترا غير موثوق من معناه لكنه قد يكون من الدارجة النرويجية أيضا بمعنى تنطّ أو تثب لا سيما الكرة. بن فاغونر.

4- هذا الوصف واحد من أكثر المقاطع سخرية وهزلية في القصة وكاشف عن غباء العائلة وأفرادها، لا سيما وهو خارج من أحكم فرد فيها. تقول سنوترا إنّ أفراد العائلة ينتحرون حين يكبرون في السن أو إذا جرى عليهم حدث عجاب أو قرعت مصيبة دارهم أو بسبب البخل والخشية من العيش في فاقة، غير أنهم يرون في هذا الموت الاختياري، الانتحار، دربا يوصلهم إلى أودين وفالهالا. قد لا يتبيّن القارئ العادي السخرية هاهنا إذ لم يكن على اطلاع بالمعتقدات الإسكندنافيّة، فقصر الموتى “فالهالا” هو المكان الذي يبلغه الأبطال الذين يُقتلون في المعارك لينضموا إلى أودين في قصره، ويكون اختيارهم على أيدي رسله الفالكيريات اللائي يطفن في سوح القتال بعد أن تضع الحرب أوزارها ويخترن الأبطال ويصعدن بهم إلى أودين. لا يدخل قصر الموتى إلا الأبطال المنتجبون، ويبقون هناك في أكل وشرب وعراك حتى تأزف معركة نهاية العالم راغناروك ليقاتلوا في صف أودين والآلهة الآيسر، ولهذا السبب يختارهم أودين. شاع عند القبائل الإسكندنافية في الألف الأول للميلاد معتقد آمنوا فيه بأن الأبطال يذهبون إلى فالهالا بعد مصرعهم في القتال، لذا فإن الموت في القتال مأثرة فريدة وفضل كبير يشرفهم إذ يلتحقون بأودين أبي الأبطال. بالرجوع إلى حال عائلة سنوترا فإن الانتحار لا يوصل الناس إلى أودين وفالهالا، وكذلك فإن فالهالا مقصورة على الرجال وليس النساء، ولم أقف على نصٍ آيسلندي يشير إلى دخول النساء فالهالا. قد يوصل الانتحار إلى فالهالا إذا كان المنتحر يُضحّى به إلى أودين، أو يكون انتحاره بطلبٍ من أودين ويجري على الطريقة التي انتحر بها أودين لنيل الأسرار حين شنق نفسه تسع ليالٍ على شجرة يغدراسيل وطعن نفسه برمح، كما في انتحار فيكار في الحكاية الثانية في سيرة الملك قوطرك. تكتمل السخرية في إيمان الأب أنه سيجازي العبد بجعله ينتحر معه ليدخل فالهالا، في حين أن الموتى غير المحاربين في الأساطير الإسكندنافية يذهبون إلى مملكة الموتى هيل Hel، وهيل اسم إلهة مملكة الموتى. المترجم.

5- أصل الإضافة في الآيسلندية للاسم قوطي هو Rekstri أي مطاردة، مطاردة الأيّل. بن فاغنور.

6- يشير بن فاغونر إلى أن النسخة الأقدم من الحكاية يوصي الأب فيها أبناءه ألا يتزوّجوا أخواتهم ويزيدوا أعدادهم، غير أن النسخ اللاحقة حذفت هذه الوصية. يشير هذا إلى فهمهم أن لمس جلد الآخر كفيل بحمل الأخت من أخيها، وينطوي الأمر على غباءٍ أو جهلٍ تامٍ بكيفية الحمل والولادة وأسبابها، وكذلك على سفاح قربى متأصل في العائلة قد يكون هو السبب في التخلّف العقلي الملازم للأبناء، وإلا لم يكن الأب ليطلب منهم ألا يزيدوا من أعدادهم لو لم يعلم أنّ زيادة العدد ستكون بالسفاح بين الإخوة والأخوات، وهذا ما فهمه الأبناء أيضا إذ غطّوا أجسادهم حتى لا يمس أحدهم بشرة الآخر. المترجم.

7- يستخدم النص لفظ زوجٍ إشارة إلى أخته، وإن تقسيمهم إلى ثلاثة أزواج من أخ وأخت دليل على سفاح القربى، واقتران كلّ اثنين بمصير واحد. المترجم.

8- وفقا للحكاية فإن اسم بلاد القوط مشتق من اسم الملك قوطي. المترجم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى