التراث الآيسلنديالتراث الأدبي

دائرة العالم Heimskringla – سنوري ستورلوسن

تاريخ ملوك النرويج

شرع الآيسلنديّون بعد استيطان آيسلندا، ونشأة المستوطنات والمجالس التشريعية، في التدوين الشعري والقصصي والتاريخي، وبرزوا فيه باذّين الأقوام الجرمانية والإسكندنافية في شمال أوروبا، ولم يكن لهم نظير في الانتفاع من الإرث الإنساني والتاريخي الغني وحفظه في الصحف، فصارت الكتابة بالنوردية القديمة، بعد تبني الأبجدية الرومانيّة، أمارة قيام مجتمع إنساني في آيسلندا وبداية حقبة إبداعية أصيلة. لم يقتصر التدوين على ما كان معروفا من أجناس كتابة وأساليب فابتكروا أخرى تفرّدوا بها مثل السيرة الملحمية Saga. ضمَّ جنس السيرة الملحمية، وهي نصوص ذات طابع قصصي مكتوبة نثرا يتخلله الشعر، أنواعا منها التاريخية أو (شبه التاريخية) والأسطوريّة (الأبطال والملوك الأساطير والحكايات الخرافية) والدينيّة (حياة قدّيس) والاجتماعية (عن حياة المستوطنين الأوائل). وثّق الآيسلنديّون الأوائل تاريخهم في وطنهم الجديد، الذي بدأت الهجرة إليه في أواخر القرن التاسع للميلاد، فكان آري ثورغلسن (1068-1148) أوّل مؤرخ آيسلنديّ أرّخ لاسيتطان آيسلندا وقيام المستوطنات وتنصّرها رسميا سنة 1000، فلقّب أبو التاريخ الآيسلندي، وكتابه “كتاب الآيسلنديين” أول كتاب تاريخٍ باقٍ عن الآيسلنديين. أشاد الأديب والمؤرخ سنوري ستورلوسن (1179-1240) بعقله الفذ وتحريه الدقة في نقل الأخبار، وعلى هديه ألّف أبرز كتاب، هو دائرة العالم، في نوع سير الملوك Kings’ Sagas، في التراث الآيسلندي. عاش ستورلوسن في آيسلندا حياة عامرة بالوقائع وغنيّة بالمعارف، إذ انحدر من عائلة ستورلنغ، إحدى عائلات علية القوم القويّة في آيسلندا، وصار الناطق القانوني في المجلس التشريعي الآيسلندي، واتصل بملك النرويج هاكون الرابع وحميه الإيرل سكولي ومدحهم في قصيدة Hattatal، وكانت له يد في النزاعات السياسية في آيسلندا والنرويج أودت بحياته في آخر المطاف. لم يشغله انخراطه السياسي عن التأليف فجمع أساطير الإسكندنافيين في كتاب إيدا النثري، ووضع كتابا في فن الشعر النوردي ولغته، وكتب سيرة ملحمية عن الملك أولاف القدّيس غير أنها لم تكتمل، وأرّخ لملوك النرويج في كتاب دائرة العالم Heimskringla منذ عهد أودين الأسطوري حتى عهد الملك ماغنوس إيرلنغسون (1161-1184) ينتهي بأحداث سنة 1177. غير أنّ نسبة هذا الكتاب إلى سنوري موضع سؤال وشك إذ لم تحمل أي من مخطوطاته اسم المؤلف، ويرجع تاريخ أقدم مخطوطة إلى سنة 1270، بقي منه ورقة واحدة، ونسخَ المخطوطةَ الكاملة من الكتاب الآيسلندي آسغير يونسسن في القرن السابع عشر، ومعظم الطبعات الحديثة من الكتاب تعتمد على هذه المخطوطة، كما يذكر مترجما الكتاب أنتوني فاولكيس وأليسون فينلي. ما يزيد اللبس في أصل هذا الكتاب أنّه لم يذكر له عنوان، والعنوان المتداول اليوم مأخوذ من افتتاح العبارة الأولى من الكتاب، سيرة آل ينغفي: “دائرة العالم التي استوطنها البشر تحفّها الخلجان”. استخدم هذا العنوان أول مرة في سنة 1697 من قبل الآثاريّ السويدي بيرنغسكولد. ذاع صيت الكتاب منذ حينها لا سيما أنه وثيقة تاريخية وأدبية من عصر الملاحم الآيسلندي، ويضم سير ستة عشر ملكا يجعله مُؤلَّفًا ضخما لا غنى عنه عن تاريخ النرويج، والسويد والدنمرك وإنجلترا على نحوٍ أقل، ما بين القرنين التاسع والثاني عشر للميلاد، نُشر في ثلاثة أجزاء. يقدم الكتاب في الآن نفسه نماذج من السير الملحمية، سير الملوك، التي كتبها الآيسلنديّون. 

يظهر التاريخ في كتاب دائرة العالم بمفهوم توثيق وقائع الماضي وأخبار الملوك وحيواتهم وحروبهم مع التركيز على المعارك والتحالفات والخطط والمؤامرات، فتاريخ ملكٌ من الملوك هو تاريخ معاركه وانتصاراته وهزائمه. غير أنّ هذا النص التاريخيّ ليس نصا معتمدا على عواهنه، لا سيما ما يقيّده من أخبار عن الحقبة الغابرة لعهد أودين وما تلاها فهي ذات طابع أسطوريّ وخياليّ منحرفة عن جادة المعقول في كثير من فصولها. ومما يُنقد على الآيسلنديين في كتاباتهم التاريخيّة أنّهم لم يفصلوا ما بين التاريخ والخيال، ونتج عندهم ما يعرف بشِبه التاريخ أو التاريخ المزيّف Pseudohistory إذ رووا الأساطير والحكايات الخرافية على أنها حقائق معتمدة وبُنيت عليها أفعال أخرى مثل النسب الملوكي المنتهي إلى سلالة أودين، وجعل ملوك يطلبون من شعراء نظم قصائد عن نسبهم لتأكيد موثوقيّته -غالبا ما ينتهي النسب بأجدادٍ أساطير-. لم يكن كتاب ستورلوسن غارقا في الخرافة والأساطير، باستثناء السيرة الأولى “سيرة آل ينغفي” لتعامله مع الماضي البعيد غير الممكن الوصول إليه بأخبار موثوقة، والتزم بالأحداث التاريخيّة وحيوات الملوك على نحوٍ واقعيّ منضبط بعيد عن المبالغة أو الإغراق في الخيال. لكن كتابه لم يرق إلى أن يكون وثيقة تاريخيّة معتمدة على إطلاقها لا سيما فيما لم يشهده من وقائع جرت قبل قرون من عصره، ولم يكن له من مصدر لها إلا الحكايات والقصائد. ما غاب عنه ذلك فبيّن في مقدّمته أنّه كتب قصص الكتاب كما سمعها من العارفين بها، وما ذكره من أنساب بعض أنساب الملوك فمما تعلّمه، ومن بعض القصائد القديمة التي تعاهد الناس إنشادها في المحافل للاستمتاع بها، ذاكرًا “ومع أننا لا نعلم صحتها من بطلانها فإننا على معرفة بالوقائع المروية التي أخذ بها العلماء الأوائل عن هذه الأصول”. انتهج ستورلوسن منهج سلفه آري ثورغلسن في أخذ أخبار الماضي بتوثيقها من الرجال الثقاة، ولا يؤخذ الخبر عن أي رجل إلا من عرف بالصدق وقوة الذاكرة والمكانة أو أنه شهد بنفسه الواقعة التي يرويها. واعتمد أيضًا على الشعر المنظوم في الملوك وأيامهم لا سيما الشعر المنشود في حضرة الملك الممدوح نفسه. يقول ستورلوسن معلّقا على منهج الذي اعتمده في نقل أخبار الماضي وتدوينها ومكانة الشعر في التوثيق في كتابه غير المكتمل Separate Olaf saga Helga “أصبح الناس، بعد حكم الملك هارالد الأشقر للنرويح، قادرين على رواية أصح أخبار عن سير الملوك في النرويج. وبعدما استُوطنت آيسلندا كثرت الرحلات إليها من النرويج، وتناقل الناس الأخبار بين البلدين كلّ صيف، فاستودعت بمرور الأيام في الصدور وصارت قصصا. غير أنَّ ما لا يقل خطورة عن صحّة الأخبار المروية هو ما نُظم بلفظٍ واضح صريح سواء في قصائد أو ما تضمّنته الأشعار وأنشد على مسامع هذا الملك أو ذاك الحاكم، أو في القصائد التي حفظها الناس وأورثوها أبناءهم. ستبقى ألفاظ الشعر نفسها كما وضعت أول مرة إذا ما نُظمت على نحو صحيح وسليم، مع أنّها تنتقل بالتعليم من شخص إلى آخر ولا يمكن أن تتغيّر. وما دامت الحكايات تُروى فإنّ الخطر كامن في ألا يفهمها الناس جميعا الفهم نفسه. ليس لبعضهم ذاكرة تحفظ الحكاية بلفظها الأول على مر الأيام، ولعيب ذاكرتهم يحرّفون الألفاظ عن مواضعها ويغيّرونها وتحال الحكايات مجرّدة من معانيها. مرّ نحو أربعمئة وثلاثين سنة منذ أن استوطنت آيسلندا قبل أن يشرع الناس في تدوين الحكايات، ولهو زمن طويل جدا، ومحال ألا تتغير الحكايات حين تروى بالمشافهة لا سيما حين لا تعضدها القصائد، الطارف منها والتليد، التي يستمد منها الناس التاريخ الصحيح. اعتاد المؤرخون في عملهم في خالي الأيام، حين يرغبون في أخذ الخبر الصادق، أن يأخذوه من أفواه أناس شهدوا هذه الواقعة أو تلك بأنفسهم ورأوها بأم أعينهم. حيثما شهد الشعراء المشاهد فشهادتهم مقبولة لا ريب فيها، كذا الحال مع شعرهم إذا ما أنشدوه في حضرة الملك الممدوح نفسه. وما من شاعر سيجرؤ على رواية مآثر لم يفعلها الملك ولم يسمع بها أحد من قريب أو بعيد. فالشعر ساعتئذ هزء لا مدح”.

لا يكفي شهادةُ ستورلوسون عن انضباط منهجه، وصدقُ الرجال الذين أخذ منهم أخبار الماضي، للتسليم له بكل ما أورده من كتابه، لكننا في ذات الوقت نُثمّن ما دوّنه من تاريخ ملوك النرويج لا سيما بأول ملكٍ دانت النرويج بأكلمها لسلطانه هارالد الأشقر (850-932). 

ملوك النرويج المنحدرون من صلب هارالد الأشقر

سير الملوك

قامت في إسكندنافيا ممالك كثيرة حكمت أراضٍ كبيرة وصغيرة، وتركّزت في البلاد التي عرفت باسم السويد والدنمرك والنرويج غير أنها لم تشكّل كيانات كبرى إلا في بداية عصر الفايكنغ نحو عام 800م إذ صار للقبائل الإسكندنافية حضورها اللافت في الساحة العالميّة بغزواتها التي امتدّت في داخل إسكندنافيا وخارجها إلى إنجلترا والأندلس وغرب أوروبا وشرقها. ظهر في الربع الأخير من القرن التاسع الملك النرويجي هارالد الأشقر الذي وحّد كامل النرويج وأخضعها لسلطانه، وقامت مملكة في السويد وأخرى في الدنمرك، شابت العلاقات بينها التحالفات والحروب، واتّحدت في حقب بحكم ملكٍ واحدٍ لا سيما النرويج والدنمرك، وامتّدت سلطان بعض الملوك ليشمل ممالك في إنجلترا. غير أنّ تاريخ الملوك والممالك في إسكندنافيا أقدم من هارالد الأشقر، إذ لهذه البلاد تاريخ أسطوري وشبه أسطوري حكم فيه ملوك ينتهي إليهم نسب الملوك الذين عاشوا حقا وحكموا ممالك إسكندنافيا، وكان لهم دور بارز في تشكّيل ما آل إليه عالم اليوم. يقدم سنوري ستورلوسن في السيرة الأولى من كتابه “سيرة آل ينغفي” تاريخ الممالك الغابرة التي لم تحفظ أخبارها إلا الحكايات الخرافية والأساطير ابتداءً من عهد أودين، بعد أن هاجر وقومه من طروادة في تركيا واستقرّ في شمال العالم، إسكندنافيا. خلّف أودين أبناءه ملوكا في هذه البلاد حتى توفي وخلفه من بعده الملك فرير، أو ينغفي، الذي كان ملك مملكة السويد ومن صلبه انحدر ملوك حتى بلغ الأمر هافدان الأسود الذي تزوّج راغنهيلد حفيدة سيغورد عين الثعبان ابن راغنار لودبروك، من زوجته آسلاوغ ابنة سيغورد قاتل التنين الذي ينتهي نسبه بسيغي ابن أودين. أنجب هافدان الأسود هارالد الذي وحّد النرويج في مملكة واحدة، ولهذا التوحيد حكاية لا تقل أسطوريتها عن باقي الأساطير. تقول الحكاية إنّ هارالد أراد زواج غيدا ابنة إريك ملك هوردلاند (منطقة في النرويج) وأرسل رسله لخطبتها إلى أبيها. لكنها أجابت الرسل أنها لن تقبل به زوجا حتى يخضع النرويج كلها لسلطانه ويحكمها كما يحكم الملك إريك السويد والملك غورم الدنمرك، وأن مثيل هذين يحقُّ له أن يلقّب نفسه ملك الشعب. حين سمع هارالد بجوابها آلى على نفسه ألا يمشط شعره أو يقصّه حتى يخضع كامل النرويج لسلطانه، وكانت من قبل مقاطعات وممالك صغيرة. شرع الملك هارالد في إخضاع النرويج لحكمه في حروب دامت اثنتي عشرة سنة، وانتهى به المطاف أن صار أول ملوك النرويج. لم يمس هارالد شعره في هذي السنوات، ولقّبه الإيرل روغنفالد بالأشقر Fairhair فلازم اسمه منذ حينها. اتّخذَ هارالد بعد ذلك غيدا محظيّته. حكم هارالد النرويج نحو نصف قرنٍ، وأنجب أبناء وبنات أبرزهم أولاف، وبيورن، وهاكون الطيب، وسيغورد، وإريك فأس الدم. تنازع الأبناء، وأبناؤهم من بعد، المُلك من بعد وفاة هارالد لتبدأ سلسلة طويلة من الحروب والصراعات على ملك النرويج شهدت ملوكا عظاما مثل هاكون الطيب الذي بدأ في عهده نشر النصرانية في القبائل الوثنية في النرويج لكنه لاقى معارضة وصدا ولم يسع لفرضها، وجاء من بعده أولاف تريغفسن الذي كان ملكًا عظيما ونشر النصرانيّة بالسيف والنار، وفي عهده تنصّرت آيسلندا بفضله وأمره وشدّته. بلغ المُلك بعده أولاف هارالدسن الذي لُقب بـ”الملك الأبدي” للنرويج وصار قدّيسا فعرف بأولاف القدّيس، وكان ملكا عظيما وفاتحا كبيرا ونصرانيًّا تقيًّا نشر النصرانية ورسّخ أسسها في النرويج، وما حارب في جيشه إلا النصارى ورفض الوثنيين في أمس حاجته إلى الأنصار، وشغلت سيرته ثلث كتاب دائرة العالم. عملَ ستورلوسن على كتابة سيرة أولاف القدّيس في كتاب بعنوان Separate Olaf saga Helga لكنه لم يكتمل، أو لم يصل إلينا كاملا، وضمّن سيرته مع سير ملوك النرويج، وتشابهت كثير من فصول سيرة أولاف القديس في كتابتها بأسلوب سير القدّيسين، وحيثما وجد الفرصة سانحة أدرج حكاية أو خبرا عن كرامات أولاف بعد وفاته، إذ دفن في ضريح تبارك الناس به واستشفوا بآثاره في موضع مقتله في معركة ستيكلستاد، واحدة من أشهر المعارك في تاريخ النرويج، إلى موضع قبره المؤقت بعد نقل جثّته سرًا من رجلين، حتى دفنه في تروندهايم حيث بني ضريحه وصار كاتدرائية بعدها شاخصة حتى اليوم. تلبّست روح أولاف القديس سير الملوك الذين جاءوا من بعده ابتداء بابنه ماغنوس الطيب فظهر له غير مرّة في منامه، وصار الملاك الحارس والقديس الناصر لملوك النرويج في معاركهم. حكم النرويج بعده أربعة ملوك حتى حكمها الملك سيغورد ماغنسسن الذي كان غازيا كبيرا حارب المسلمين في الأندلس وشارك في الحملات الصليبية على المشرق وزار بيت المقدس واغتسل في نهر الأردن وحارب في بلاد الشام، فكان أول ملكٍ أوروبي ونرويجيّ يشارك في الحملات الصليبية فلقّب بسيغورد الصليبي وسيغورد مسافر القدس. لا يُذكر المسلمون في كتاب ستورلوسن باسم المسلمين ولا يذكرون بصفة تعبّر عن حقيقتهم وحياتهم إنما اكتفى بوصفهم بالوثنيين، وهو وصف عام استخدمه مع كلّ أعداء ملوك النرويج من غير النصارى ولم يقتصر على فئة دون غيرها. يكمل ستورلوسن بعدها تاريخ نصف قرنٍ بأربع سيرٍ تروي حقبة قديمة متجدّدة في الصراع على المُلك وحكم النرويج حتى زمن حكم الملك ماغنوس إيرلنغسن. 

لم يقتصر كتاب تاريخ العالم على ملوك النرويج إذ شملَ ممالك وملوكا آخرين لا سيما في الدنمرك التي كانوا معها في صراعٍ مستمر، والسويد التي كانت مملكة مسالمة معهم إلى حدٍ كبير، وإنجلترا التي كانت مطمعا لملوك النرويج والدنمرك، وحكمها ملوكٌ لا سيما الملك الدنمركي العظيم كنوت فامتدَّ سلطانه ليشمل الدنمرك والنرويج وإنجلترا مؤسسا ما عرف لاحقا باسم إمبراطورية بحر الشمال ما بين سني 1016-1035. وتضمّن الكتاب أخبارا وحكايات ثانوية وهامشية، ما بين معقولة وغير معقولة، تضفي السمة الأدبية الحكائية على الكتاب فلا تقصره على حيوات الملوك وأخبارهم.

بنية سير الملوك 

تتشابه بنية السيرة الملكيّة على الرغم من اختلاف حياة ملك وعهده إلى آخر، وتباين حجم السيرة المكتوبة إذ كانت سيرة بعضهم في عدة صفحات وبعضهم في مئات الصفحات، ولا يقتصر التشابه على بنية السيرة بل يشمل صفات كثيرة تشاركها الملوك سواء في الجسم أو الصفات أو السلوك. إنّ سيرة ملكٍ وتاريخه، كما ذكرت آنفا، هو تاريخ حروبه ومعاركه في المقام الأول ثم إنجازاته وإخضاعه البلاد لسلطانه، فتتمحور السيرة حول حياة الملك سواء منذ طفولته أو شبابه حتى موته، وقد يكون في السيرة بعض الاستطراد بالحديث عن شخصية أخرى لكن لاشتراكها لاحقا والملك في أحداث وحروب. فلا تظهر شخصية أو تختفي إلا بارتباطها بالشخصية المركزيّة، الملك،  التي تقوم عليها السيرة وتؤرخ حياتها، وتجتمع في بعض السير، كسيرة أبناء ماغنوس أولافسن، عدة شخصيات مركزّة لأنهم ملوك جميعا. فحيثما حضر الملك كان بؤرة السرد ومجمع الوقائع المسرودة. تأتى من ذلك قلة الحوارات المذكورة وكثرة الخطب سواء في المجالس التشريعة والاجتماعات وما قبل المعارك، وغياب النساء إلا في حكايات هامشية وأدوار ثانويّة، فلا موضع للمرأة في تاريخ حروب ملك وصراعاته في داخل مملكته وخارجها. تكررت في سيرة الملوك حَبكة سلب المُلك واستعادته، فثنائية فقدان السلطة والسعي إليها بكلّ قوة وتحالف ومؤامرة محرك رئيس للسيرة، ومن دونها تتعطّل العجلة عن الحركة وتفقد السيرة بريقها، إذ الملك الذي يؤثر حياة الدعة والركون ولا يغزو أعداءه أو يحاربهم، مثل أولاف هارالدسن (أولاف الهادئ)، لا تكون سيرته جديرة بأن يقف عندها كثيرا ويروى ما فيها لأن ما فيها غير حقيق بالرواية. أما إذا كانت حياته عامرة بالوقائع والأحداث وأثبت نفسه في البلاط والميدان؛ امتدّت سيرته وكثر الكلام عنه، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ ستورلوسن أرّخ لملكين أكثر من غيرهما هما أولاف الأول وأولاف الثاني، لأنهما كانا ملكين نصرانيّين سعيا إلى توطيد النصرانيّة في النرويج حتى صار أولاف الثاني قديسا، ورجّحت النصرانيّة كفّتيهما عند المؤرخين لما نتج عنها من أمر فارق هو الفصل ما بين الأقوام النصرانيّة المؤمنة والأقوام الوثنيّة الكافرة. ونرى أن ستورلوسن في تركيزه على هذين الملكين النصرانيّين يؤرخ للنصرانيّة وانتشارها في النرويج، بل وحياة أحد قدّيسيها الملك أولاف، فكانت حكايات كراماته تتدفق إلى سيرة الملك لترفدها معزّزة وجود النصرانيّة وأهميتها في حياة النرويجيين ونفوسهم. من جانب آخر أرّخت غزوات الملوك إلى إنجلترا وصراعاتهم مع جيرانهم في الدنمرك لتاريخ وملوك تلك البلاد، والماضي المشترك الذي جمع ما بين هذه الأمم في أوقات السلم والحرب، ويصبح كتاب دائرة العالم تاريخا شاملا في كثير من وقائعه المروية، يضم بلاد إسكندنافيا وإنجلترا ولا يقتصر على تاريخ النرويج وحدها. لم يكتفِ ستورلوسن المؤرخ بذكر هذه الصراعات والغالب فيها والمهزوم ومآلاتها في سرد تاريخي سطحي بل غاص إلى أغوارها فكشف عن الخطط العسكرية والأساليب القتالية ما بين هجوم ودفاع والاستراتيجيات مقدّما فنّ الحرب الإسكندنافيّ على أصوله في البر والبحر. ووصف المعارك والنزالات بين المحاربين والجند بعين الشاعر الملحميّ والمؤرخ المقاتل في الميدان، كاسيا ما يرويه سمة الملحمة لكنها ملحمة النثر لا الشعر. غير أن الشعر لم يغب عن سير الملوك إذ أورد ستورلوسن عشرات القصائد الملحمية الطويلة والقصيرة المنظومة في الملوك الذين أرّخ حياتهم، وفي بعض المعارك والوقائع الكبيرة. تنتمي كل هذه القصائد إلى الشعر النوردي Skaldic Poetry، نوع الشعر الملحميّ الذي حفظ في مخطوطات هذه الكتب. يشكّل الشعر النوردي جزءا رئيسا في تكوين نصّ السيرة، إذ يدخل في بنية السيرة ولا تخلو سيرة منه إذ يجري على لسان أبطاله وشخصياته أداة للتعبير عن مكنونات النفس والحال، ووسيلة لتقديم الحكمة والعبرة في الحياة. وكما مرّ بنا آنفا فإن القصائد إحدى مصادر ستورلوسن في تدوين كتابه وعلّل منهجه ذاك في كون شهادة الشعراء مقبولة بلا ريب لأنها غالبا ما تنظم في حضرة الملك، ويتناشدها الناس في المحافل لذا سيعرف كذبها وزيفها إذ جاءت على أمور لم تقع وستكون حينئذ مثلبة ونقيصة في حقّ الممدوح. يسعنا فَهم جلال الشعر ومقامه في الثقافة الاجتماعية عند الإسكندنافييّن في أنّهم حظروا نظمه في المرأة والتشبيب بها، بل عاقبوا بقتل الشاعر الذي يشبب بامرأة في شعره، ذلك لأنهم آمنوا أن الشعر هبة إلهية، وللكلمة تأثيرها في حياة الناس، فهو سلاح صقيل ولا بد أن يوضع موضعه الصحيح، وبالتأكيد ليس في مغازلة النساء. فقدر الشعر ومكانته في استنهاض الهمم وحثّ الناس على القتال والثبات، ونرى أن لفظة Skald أي شاعر نوردي/ إسكندنافي مشتّقة من فعل Skáld بمعنى وبّخ أو عنّف في اللغة النوردية القديمة (انتقل إلى الإنجليزية وصار Scold بالمعنى نفسه)، وهي ليست مديحا لأن في الشعر تحريضا وهو ذو قوّة ووعورة. من هنا تتجلى أهمية الشعر على جانبين حياتيّ وتوثيقيّ وكلاهما من الخطورة بمكان فلا يسع التهاون فيهما، لذا أُعلي عند الإسكندنافيين قدرُ الشاعر على غرار قدرِ المحارب الباسل وإذا ما اجتمعت الخصلتان في الرجل شاعرا بليغا ومحاربا باسلا فقد علت منزلته وشرفت هامته، وإذا ما كان ملكًا معهما فقد حيزت له الدنيا. (للاستزادة عن قدر الشعر عند الإسكندنافيين الرجوع لكتابي History of Icelandic Literature وOld Norse-Icelandic literature).

امتاز ملوك النرويج بسمات متشابهة إلى حدٍ كبيرة بذّوا بها أقرانهم منذ الصغر ففيهم الوسامة والحسن، والشجاعة والقوة والبسالة، والبسطة في الجسم، وحظوا بزوجاتٍ حسناوات وبعضهنّ حكيمات، كذا الحال عشيقاتهم، فأنجبن لهم أبناء على شاكلة آبائهم لأنهم سيشغلون عرش الملك بعد آبائهم. كان بعض الملوك حكيما وآخرون متهوّرين، وبعضهم أمينا في عهوده وبعضهم غادرين، غير أن الصفات الحميدة تطغى على الصفات الخبيثة، والملوك الصالحين أكثر من أنظارهم الطالحين الذين حكموا النرويج. ولا يمكن لملكٍ حتى لو قلّ شأنه ألا يكون مثاليا، فجاءت شخصياتهم الواردة في السير أقرب ما تكون ثمرة منهج مثالي اتّبعه ستورلوسن في تصوير الملوك بالتركيز على الصفات الحسنة وتضخيمها وإبرازها وإقصاء الصفات السيئة وتجنّب الإكثار في الحديث عنها إنما يُمرُّ عليها سريعا، فالملكُ شخصيّة عظيمة أو حتى أسطوريّة مثل أولاف القدّيس لا يصح المساس بشخصها وصورتها. جرّد أولاف بعد موته من كلّ أخطائه في حياته منذ عبوديّته في صغره حتى أصبح ملكًا للنرويج ثم سلب الملك منه انتهاء بمقتله في ميدان المعركة إثر سعيه في استرداد المُلك، وما رفع شأنه شيء مثل إيمانه الراسخ ونشره النصرانيّة ومحاربته الوثنيّة بكلّ ما أوتي من سلطان في السراء والضراء. بذّت نصرانيّته أخطاءه وعلّم موته بداية تقديس أخذ طابعا تأليهيًا وأسطوريًا جعل منه ناصرا ومعينا في الحرب، وشافيا للمرضى وأهل الكُرَبِ، مثل رَبٍّ من الأرباب في مفارقة جليّة بين ما عاش عليه نصرانيا محاربا للوثنيّة، وما آل إليه من تقديسٍ ربوبيّ، أشبه ما يكون بإعادة المعتقدات الوثنيّة بأودين ورفاقه الآلهة وإنزالها على شخصيات نصرانيّة نُزِّهت من الأخطاء ورُفعت مكانا عليا، فصار لها مسؤوليات جديدة بعد موتها متمثّلة في جلب النصر وشفاء المرضى وتيسير أحوال المتعسّرين.  

سير ملوك الكتاب: 

1-  سيرة آل ينغڤي Ynglinga Saga

2- سيرة هافدان الأسود Halfdan the Black Saga 

3- سيرة هارالد الأشقر Harald Harfager’s Saga 

4- سيرة هاكون الطيب Hakon the Good’s Saga

5- سيرة هارالد ذي العباءة الرمادية Saga of King Harald Grafeld 

6- سيرة أولاف تريغفسن King Olaf Trygyason’s Saga

7- سيرة أولاف القديس Saga of Olaf Haraldson St. Olaf

8- سيرة ماغنوس الطيب Saga of Magnus the Good 

9- سيرة هارالد سيغوردسن  Saga of Harald Hardrade 

10- سيرة أولاف هارالدسن Saga of Olaf Kyrre 

11- سيرة ماغنوس أولافسن Magnus Barefoot’s Saga

12- سيرة أبناء ماغنوس Magnus sons Saga

13- سيرة ماغنوس الأعمى وهارالد ماغنوسسن Saga of Magnus the Blind and of Harald Gille

14- سيرة أبناء هارالد ماغنوسسن Harald sons Saga

15- سيرة هاكون سيغوردسن Saga of Hakon Herdebreid

16- سيرة ماغنوس إيرلنغسن Magnus Erlingson’s Saga

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى