حنّا دياب: من حلب إلى باريس في القرن الثامن عشر
رحلة حنَّا دياب من حلب إلى باريس كتابٌ فريد من جوانب مختلفة، فحنَّا حكّاء له الفضل في تزويد أنطوان غالان بحكاياتٍ أدخلها ترجمته لألف ليلة وليلة، وبقيت حكايتا حنّا مصباح علاء الدين وعلي بابا والأربعون حرامي لامعتين في دنيا الأدب الغربيّ أكثر من قرنين، وأسالت أصولهما الكثير من الحبر. وهي أول رحلة من نوعها في العصر الحديث من الشرق إلى الغرب في بدايات عصر الاستشراق إذ وقعت في بواكير القرن الثامن عشر (1707-1710). وفي لغتها الوسيطة التي مزجت ما بين محكيّة بلاد الشام والفصحى بأسلوب تفاصحيّ فجاءت مائزة، إذ أظهرت عدم تمكّن حنّا من العربية العالية لكن دأبه على اقتفاء درب الأدباء في الكتابة، ويبيّن هذا اطّلاعه على أصول التدوين العربيّ وسعيه في الالتحاق بالركب بما امتلكه من أدوات. وفي ظروف الرحلة ووقائعها ومشاهدات حلبيّ من العامة لباريس وأهلها وأحوالها، وما أفرزه ذلك من ملاحظات وقراءات مُقابلة ما بين الشرقيّ والغربيّ إنسانًا ونظامًا وحكمًا ومجتمعًا وعاداتٍ وظروفًا حياتيّة. بقيت الرحلة أكثر من قرنين في طيّ النسيان بعد الفراغ منها سنة 1768، وأول من عثر على مخطوطتها المستشرق الفرنسي جيروم لنتان سنة 1993 -في إطار بحثه عن اللغة الدارجة بين العرب- وهي مودعة في المكتبة الرسولية في مدينة الفاتيكان، كما يذكر محققا الكتاب. لكنها لم تلقَ الاهتمام المتوقّع إلا بعد ذلك بسنوات فظهرت أول مرة مترجمة إلى الفرنسية سنة 2015 بعنوان D’Aep a Paris من دار Sindbad، ثم ظهرت مطبوعة بنسختها العربية سنة 2017 بتحقيق محمد الجاروش وصفاء جبران من دار الجمل، وذكر المحققان أهمية الترجمة الفرنسية وعودتهما إليها فيما استشكل عليهما فهمه في المخطوطة، ثم ظهرت من المكتبة العربيّة في سنة 2021 بتحقيق عربيّ جديد لجوهان ستيفان بعنوان كتاب السياحة، وترجمة إنجليزية بعنوان The book of Travels، وثمة ترجمة إنجليزية علمتُ بصدورها مؤخرا من جامعة نيويورك في أبو ظبي.
حنَّا دياب الرحَّالة التُرجمان
لا نملك الكثير من المعلومات عن حنّا إلا ما دوّنه في رحلته وما تناثر عنه هنا وهناك. ويسعنا أن نجمع ما نعرفه عنه لبناء سيرة ذاتيّة موجزة. ولد حنّا دياب، واسمه الكامل أنطوان يوسف حنّا دياب، في حلب سنة1 1689، نصرانيّ الدين من الطائفة المارونيّة. تعلّم العربيّة والتركيّة والفرنسيّة والإيطاليّة والبروفنساليّة، وله حظٌ مقبول من كلٍّ منها. عملَ أعمالًا مختلفة أغلبها عاملًا في خدمة عليّة القوم والمخازن مع أخيه أنطون. أراد الترهّب في سنة 1707، أو قبلها بقليل، فلم تعجبه ظروف الدير ولا التعامل مع الرهبان الداخلين في سلك الرهبنة فتركه سريعا في ذات السنة وعادَ إلى دياره. التقى صدفةً في طريقَ العودة صاحبَ قافلة لم يكن يجيد الفرنسيّة ليترجم له ما كان يريد فرنسيّ منه، وكان الفرنسي هو الرحَّالة بول لوكا. علّمت هذه الحادثة الأولى مسألتين الأولى عمل حنّا ترجمانًا والأخرى بداية سياحته مع بول لوكا. انطلقَ بعدها سنة 1707 في رحلة ابتدأت من حلب مرورًا بمصر وتونس وانتهاءً بباريس، ثم العودة من باريس إلى أزمير فإسطنبول فحلب سنة 1710، وما بين هذه المحطّات الرئيسة أخرُ ثانويّة نزلَ فيها حنّا سواء مع لوكا أو في عودته. التقى في باريس أنطوان غالان وزوّده بما لديه من حكايات. عمل بعد عودته إلى حلب تاجر قماش، بمساعدة أخيه عبد الله، اثنتين وعشرين سنة وتزوج وأنجب أبناء. وورد اسمه في إحصاء للجالية المارونيّة في حلب سنة 1740 ربّ عائلة من اثني عشر فردًا، ستة ذكور وست إناث. شرعَ حنّا في كتابة رحلته غالبًا سنة 1763 وفرغ منها بعد سنة، ومن المرجّح أنه بقي يقرأها ويعدّل عليها حتى سنة 1768. هذا ما نعرفه عن سيرة حنّا، وما في كتابه يُخبرنا عن شخصه أكثر.
فقدت الصفحات الأولى من مخطوطة كتاب الرحلة فنعرف بادئ الأمر أنَّ حنّا قرر الانخراط في سلك الرهبنة في دير مارونيّ، ويتضِّح لنا في هذه المعايشة أسلوب حنّا المراقب والملاحظ والمتسائل والمضمّن للحكايات. لم يطقْ حنّا صبرًا فخرج من الدير وشاخصة أمامه حال المتدرّب المسن الذي طلّق وزوجته الدنيا وزهدا بالحياة طالبين الغفران في الدير لبدء حياة ملؤها الإيمان والرهبنة. التقى بعد خروجه من الدير بول لوكا (1664-1737)، وهو سائح فرنسي جاء إلى الشرق بمرسوم ملكيّ بحثًا عن النوادر من مقتنيات وما شابه. فاقترح عليه مرافقته مترجما إلى بلاده، ووعده بوظيفة في خزانة الكتب العربيّة الملكيّة في باريس. يتَّضح ذكاء حنَّا حين يسأل لوكا أن ينتظر قراره حتى يصلوا إلى طرابلس، ويعلِّق حنّا “حتى أستخبر عنه هل هو صادق في هل كلام أم لا”. شرع الاثنان في الرحلة فخرجا من طرابلس في شباط سنة 1707 ودخلا مارسيليا في آذار 1709، مرَّا في رحلتهما بصيدا وقبرص ومصر، ومن مصر إلى بلاد المغاربة: طرابلس، وتونس، صفاقس، قرطاج، ومن قرطاج إلى جزيرة كورسيكا ثم إلى جزيرة ليكورنا (لفرنة)، ومن ليكورنا إلى بروفانس مرورا بمرسيليا وليون انتهاءً بباريس. جرت على الاثنين في رحلة الذهاب الكثير من الوقائع يأتي على ذكرها حنّا بأسلوب شائق تغلبُ عليه الإثارة، لا سيما في الأحداث الخطِرة والمهلكة كمحاولة الرجل الهجوم عليه في قبرص، أو محاولة قتل لوكا، أو مهاجمة اللصوص في الفيوم، أو في رحلة البحر والقراصنة، والكثير من الأحداث الأخرى.
عملَ حنّا خادمًا ومترجمًا للوكا، وهو تابعٌ كامل التبعيّة، مدَّ له يد المعونة طوال الرحلة، بل لولا حنّا لما تمَّت للوكا. لكنَّ ما يلفت الانتباه، بل ويبيّن حقيقة نظرة لوكا لحنَّا، أنَّ لوكا لم يذكره في يومياته المنشورة مع أنَّه رافقه سنتين تقريبا. غابَ حنّا كأنه لم يوجد، ومن دون حنّا لما كان للوكا أن يُوجد. اعتمدَ لوكا اعتمادًا كاملًا على تابعه فكان خيرَ رفيقٍ ومترجم، إذ صار حنّا لسانه في مختلف البلاد العربيّة، وأن تغمطَ حقَّه فهذا يشي بازدراء خفيّ لا يطفو علي السطح. لعلَّ في سلوك لوكا مع حنّا في باريس جلاء لما في نفسه تجاه تابعه الحلبيّ. حين أراد حنّا ترك لوكا، بعد أن تأخّر قرار توظيفه في خزانة الكتب العربيّة، قال له “أنتم يا ولاد الشرق قليلين الوفا!”، وحين علمَ لوكا أنَّ أميرًا عرض على حنّا العمل لصالحه سائحًا في بلاد الشرق قصد الأمير وقال له من جملة كلامه “بالك يا سيدي تسلم أمرك إلى واحد مثل هذا، لأن أولاد الشرق خاينين! بيمكن على موجب أمرك ياخد من القناصر مال ويعصي في بلاده، وما بيعود يصير لك مقدره عليه. واكراما لخاطرك أنا بنوب عنه وبخدمك هل خدمه، وايش ما جنيته بارسلك”. فحنّا النصرانيّ المارونيّ في نظر لوكا، إذا ما خرج عن طوعه، هو شرقيّ فيه كلّ الرذائل والمخازي والمساوئ، وهو يحبّه ما دامَ خادمًا له، وإذا ما بغضه وصفَه بأشنع الأوصاف. بيد أنَّ قدرَه لوكا أن يظهر في رحلة تابعه على حقيقته بخيرها وشرّها فتعامل معه حنّا بإنصاف حتى بعد أن علمَ بالوشاية الكاذبة للوكا عند الأمير ليحرمه من العمل في السياحة، وسرق منه فرصته. ونرى حنّا يعود إلى ذكر لوكا مجددًا بعد عودته إلى حلب ورافقه في مغامرة أخيرة في السرداب الغامض الذي يوصل، كما تروي الحكايات، إلى مدينة عينتاب. كان حنّا رجلًا شرقيًا أصيلًا على عكس لوكا الغربيّ.
يتناول عبد الله إبراهيم في كتابه الأخير، المقالات، طبيعة العلاقة بين حنّا ولوكا في مقالته “كتم صوت أصيل”، يكتب: “كُتم صوت حنّا دياب بفعل ثقافة مهيمنة جعلته تابعا بمعنيين، تابع حقيقي لرحالة فرنسي شبه مغمور يدعى “بول لوكا” طاف بلاد الشام لجمع مقتنيات نفسية للبلاط الفرنسي بأمر من الملك لويس الرابع عشر، وجعل من حنّا دياب خادما ومترجما له، وبعد أن فرغ من مهمته، اصطحبه بوعد العمل في خزانة الكتب العربية في المكتبة الملكية في باريس…”2 ويكتب في موضع آخر “كُتمت أصوات التابعين في الرحلات الأوربية، وغالبا ما أُنكر حتى ذكرهم، فوساطتهم طارئة، ولا تستحق أن تودع في كتاب يوثّق تجربة رحّالة غربي في عالم شرقي، وبذلك الصنيع تحقق مضمون العقد الرابط بين التابع والمتبوع بأفضل ما تكون عليه صورة التحقّق، وهو الإنكار، وحدث ذلك بحذافيره لحنّا دياب كما حدث لعشرات سواه، فلم يأت لوكا على ذكره في رحلته التي نشرها في باريس إبان وجود حنّا دياب في بيته، غير أن التابع، بعد مرور عقود على تلك التجربة، دوّن رحلته، وفيها أعاد الاعتبار لنفسه بوضوح، كما لم يحدث لغيره من التابعين، وقد أفصح عن دوره بكتاب ندر مثيله في مثل تلك الأحوال، أحوال التابعين الذين يستعيدون هويتهم بتدوين تجاربهم، فيكون الرحّالة الغربي، بمثابة العون الذي سهّل له أمره، كما سهّل هو أمر الرحالة الغربي. وبتدوين دياب لرحلته، بأسلوب مبهج، يكون قد نقض الأعراف المتبعة في آداب الرحلات الأوربية إلى بلاد المشرق، فلا ينتهي دور التابع في بلاده، إنما يتوغّل في البلاد الأوربية برحلة ذهاب رفقة رحّالة غربي، ويتعرّف على أحوال مجتمعه، ويعود حاملا ما رأى وما عرف، ثم يتولّى تدوينه بصراحة قلّ نظيرها. انكتم صوت دياب زمنا طويلا قبل أن يجهر به”3. لم يستطع لوكا كتمَ صوتِ حنّا إلى الأبد ولا غيرُه، إذ سمعناه بعد مرور ثلاثة قرون، فالصوت الأصيل كالنجم لا بد أن يبلغ يومًا مسامعنا ويملأ أبصارنا.
بقي حنّا في فرنسا أكثر من سنة منذ دخوله مارسيليا في آذار 1709. جرى عليه في أثناء إقامته وقائعَ مختلفة أبرز ما فيه دخوله قصر فرساي والبلاط الملكيّ ولقاؤه ملك فرنسا لويس الرابع عشر وزراء وأمراء وأميرات. كان حنّا سفير المشرق غير المعتمد في بلاط لويس، لكنّه سفيرٌ بطابعٍ شرقيّ، مخلوق قادم من عالمٍ كان أنطوان قد رسمَ عوالمه في الأجزاء الأولى التي نشرها من ألف ليلة وليلة. انتظرَ حنّا تحقق وعد لوكا بوظيفة في خزانة الكتب العربيّة، وجعله التأخّر يضجرُ ويضيق ذرعا من المكوث، مع أنَّه كان في تطواف دائم وتعرّف إلى باريس وأهلها وثقافتها. التقى في أثناء ذلك أنطوان غالان، وزوّده ببعض الحكايات، وأبدى له أنطوان استعداده لمساعدته فيما يحتاج إليه نظيرَ ما قدّمه له من فائدة جليلة. جاءه أنطوان بعد مدة وعرض عليه العمل سائحًا يجمع المقتنيات من الشرق لصالحِ أميرٍ على غرار معلّمه بول لوكا. وقال له الأمير إنَّه سيتكفل بكل نفاقاته وتكاليف السفر ومشترياته، ويزوِّده برسائل توصية إلى القناصل في البلاد التي يحطُّ فيها ليعينوه في أمره ويُيّسروا له مروره وسكنه. لكن حنّا كان حائرا في أمره أيقبل عرض الأمير أو يرفضه ويبيّن سبب ذلك “لأني من طرف الواحد أما ضجران من تلك الأهوال التي جرت على زماني [أي رحلته مع لوكا في البلاد والبحر]، ومن طرف الثاني أنا فزعان ليلا ما تصح القضية التي تربت [أي سياحته في خدمة الأمير]. فبقيت في حيرة بين خايف وراجي”. مال حنّا إلى قبول عرض الأمير لكنه لم يفاتح معلّمه بالأمر. حدثت بعدها واقعة جعلته يحزم أمره بمغادرة باريس. احتال رجلٌ من الذين التقاهم حنّا في باريس وأخذ أموالًا وهرب بها فأمسكت الشرطة بدائرة المقربين منه علّهم يعرفون ما يقود إليه. أمسكَ بحنّا للتحقيق معه وأطلق سراحه لوكا قبل أن يؤخذ، حين ذلك قرر العمل في صالح الأمير. يقول حنَّا عما وقع له “لكن أنا أسَّرت فيّ الرعبة واتضجرت بالزايد من تلك البلاد، فجزمت على الخروج من بهريس وافعل ما أمرني به الأمير المذكور حتى أسافر وأسوح سياحة معلمي. فصممت على ذلك وطلبت من معلمي إذن حتى أسافر إلى بلادي”. رفض لوكا أول الأمر ذلك، ثم عاد وألحّ عليه حنّا بأنه قد استلم رسالة من إخوته وما عاد يمكنه الانتظار. غضب منه لوكا ومنحه مالا وانفكَّت أواصرهما وغادره. حسبَ حنّا أنَّ أمر العمل مع الأمير هينًا، وسيصدّق على القرار الملكِ حين يعرض عليه، فحجزَ تذكرة إلى مرسيليا، لأنه، كما يصف نفسه الفقير الساذج، لم يفهم كيف يفكّر الفرنسيّ، ولا ما يحاك في الظل. بقي حنّا ينتظر تصديق الملك على أمر سياحته، فلما شارف موعد رحلته إلى مرسيليا، اضطرَّ إلى السفر إلى مرسيليا في انتظار أن يبعث قرار التصديق إليه. فلما وصل إلى مرسيليا ولم يجد القرار قد سبقه أدركَ أنَّ المسألة غير متحققة. ويعلّق: “وأنا كان ظني بأن الفرمان وصل قبل وصولي إلى مرسيليا، لأن في كل أسبوع بيصل أولاق بمنزل إلى مرسيليا. وقتيدٍ حسيت أن مسألتي فاشوشه”. انتظر حنّا شهرا في مرسيليا على أمل وصول تصديق سفره الملكيّ ولم يصل. التقى حنّا في أثناء ذلك رجلا نزل في الفندق حيث كان، وفي تسامرهما أعلمه حنّا بخبره، عند ذلك أخبره الرجل بخبيئة مسألة الأمير. وخلاصتها أنَّ أنطوان حين علمَ بشأن عمل لوكا على تأمين وظيفة لحنّا في خزانة الكتب العربيّة، خشي على نفسه من أن تضيع الوظيفة من يده. فحدَّثَ الأمير بأن يرسله في سياحة ليتخلَّص منه. في الوقت نفسه علم لوكا أنَّ الأمير يعمل على إرسال حنّا في سياحة في البلاد المشرقيّة، فذهب إلى الأمير ووشى بحنّا بأنه ليس أهلا لهذه الوظيفة قائلا له: “بالك يا سيدي تسلم أمرك إلى واحد مثل هذا، لأن أولاد الشرق خاينين! بيمكن على موجب أمرك ياخد من القناصر مال ويعصي في بلاده، وما بيعود يصير لك مقدره عليه. واكراما لخاطرك أنا بنوب عنه وبخدمك هل خدمه، وايش ما جنيته بارسلك هو” فلما سمع الأمير من معلمك هذا الكلام تغير عقله ووجه له بأنه يسوح على كيسه”. يمكن الفهم من فعلة لوكا أمرين الأول هو انتقامًا من حنّا لأنه تركه لا سيما حين نذكر قوله حين أراد حنّا المضيّ إلى بلاده: “أنتم يا ولاد الشرق قليلين الوفا! امضي إلى حيث تريد! […] روح مع السلامة، ولكن سوف تندم حيث ما يفيدك الندم”. والأمر الآخر هو ضنَّه بهذه الوظيفة على حنّا فهو أولى من حنّا بهذه المهمة والاستفادة من مال الأمير.
عاد حنّا إلى بلاد الشرق ونزل في ميناء أزمير وكان أول ما انتابه عند النزول هو عودته إلى الأسر في بلاد المسلمين، بيانا عن تبرّمه وانزعاجه من عيشه بين ظهراني المسلمين. يقول: “فلما خرجت من القايق ووضعت رجلي في البر ورأيت المسلمين الموجودين في الكمرك، فرجف قلبي وانوهمت كأني حصلت في اليسر [الأسر]، وندمت على ما فعلت، كيف تركت البلاد المسيحية ورجعت إلى يسر المسلمين”. ليس هذا الشعور بشاذٍ فله ما يعضده في هذا السياق، فحين رأى أعلام المغاربة فوق تمثال في الكنيسة في باريس وعليها شهادة التوحيد لم يكتبها كاملة بل اكتفى ب: “’لا إله إلا الله‘ والكمالة”. يقول محققا الكتاب في الهامش: “لاحظ كيف يتجنَّب حنّا كتابة الشهادة الإسلامية كاملة، ربما لخوفه من إجباره على الإسلام إذا كتبها”. وهذا هامش غريب إذ لا يوجد ما يفيد بذلك أو يؤكده، لكنه يندرج ضمن سياق رؤية حنّا للعالم الإسلامي والمسلمين، إذ يقول لأنطوان، حين كان يرتّب له أمر السياحة في صالح الأمير وذاكرًا رفض معلّمه لوكا هذا الأمر لأجل ما وعده به من وظيفة في خزانة الكتب العربيّة: “وجابني إلى هذه البلاد حتى يفعل معي خير ويخلّصني من أسر البرابرة، ولأجل هل سبب ما بريد أفوت خاطره”. يرى حنّا حياته أسرًا مع المسلمين، وهم برابرة في نظره، لكننا لا نتّهم حنّا بمعاداة الإسلام والمسلمين، فكتابه خالٍ من التعصّب الديني، وغياب التعصّب لا يبرّئه تمامًا ولا يدينه أكثر مما يعطي تصورًا عن كيفية رؤية حنّا لبلادٍ يحكمها المسلمون. لا يقتصر الأمرُ على المسلمين في الكتاب حكايات في ذمّ اليهود، النظرة النصرانيّة التقليديّة لليهود. علينا بعد كلّ شيء معرفة أنَّ حنّا نصرانيّ مارونيّ مؤمن بالكنيسة والعذراء، وفي كتابه حكايات القديسين وكراماتهم وإيمانه بنجدة العذراء الدائمة له، لذا فما يُدوّنه هو نتاج طبيعي لعقلية نصرانيّ شرقيّ في القرن الثامن عشر.
رحل حنّا إلى إسطنبول ومكث فيها أياما، تمكّن حينها من التعرف إلى الخواجة رنباو الكبير، وعمل في خدمته في البيت، ثم بعد طرده الطباخ عمل طبّاخا، ولأن الخدم السابقين كانوا يسرقون من الخواجة دون علمه، وأبصروا مكانة حنّا الجديدة، فخافوا على وظيفتهم وبدأوا بالشجار معه إلى حد محاولة قتله في مشاجرة في المطبخ. حينئذ علم حنّا أن بقاءه خطرٍ فقرر ترك خدمة الخواجة والعودة إلى حلب. علم قبل عودته بمقدم أمير فلمنكي بحاجة إلى مترجم يجيد الإيطاليّة، قرَّر حنّا العمل عنده، لكن أقنعه صاحبه حنّا الزغبي بالميل عن هذا العمل والذهاب معه إلى حلب، لا سيما وأن قافلتهم ستغادر بعد يومين. وهذا ما كان فغادر إسطنبول في منتصف حزيران 1710. لا تقلّ رحلة العودة البريّة متعة عن رحلة الذهاب البحريّة، وتحوَّلت أخطار البحر إلى أخطار البر، لكنها بقيت محتفظة بجوٍ من المغامرة الهزليّة بل والساخرة كما في حادثة الحمار في طريق العودة، وكيف تركه يهتدي إلى طريق العودة الصحيح حين غادرتهم القافلة وهم نائمون لم يستيقظوا. بيد أنَّ أبرز ما كان في رحلة العودة هو تقليد حنّا لمعلمه لوكا في رحلة الذهاب، وكشف عن ذكائه وأنَّه يستطيع التعلّم بسرعة. ادّعى حنّا أنه طبيب إفرنجي، وشاع بأنَّ في القافلة طبيبا إفرنجيا ماهرا. استفاد حنّا من أيامه مع لوكا ومهارته في معالجة الأمراض، وكذلك فيما منحه إياها لوكا من علاجات وعقاقير يحتفظ بها. ومن المضحكات قول باشا القافلة لحاجبه بعد أن عالجه حنّا “أريت كيف حكمات الفرنج بيداروا المريض؟”. لكن هذه السمعة طبيبا ماهرًا كادت أن تودي به لا سيما حين شاع خبره بين الأغوات والباشوات في القرى التي يصل إليها في رحلة العودة، وكان ينجو في كلّ مرة بطريقة عجائبية ما بين حظه أو مهارته، وكما يقول حنّا فالفضل للعذرا وملاكه الحارس.
رحلة شهرزاديّة
“ولما أمعنتُ النظرَ في سطح السفينة أبصرتُ في في كلِّ جانب اثنتي عشرة حجرة سفليّة، وبين حجرة وأخرى مسافة ذراعين. في داخل كلِّ حجرة ستة مجرمين من ذوي الأحكام يجدِّفون بالمجاديف من الجانبين. وفي الممشى الفاصل بين الحجرات جماعةٌ من الجند، في يد كلّ واحدٍ سوطٍ مفتول من أذناب البقر. فإذا ما أبصروا أحد الستِّة في الحجرات تهاون في التجديف من تعبٍ أو كسلٍ ساطَوا ظهره حتى ترى أثرًا أزرقَ في موضعِ الضرب لشدّة وقع السوط. أحزنتني رؤيتهم، لكأنهم من أهل الجحيم والشياطين تقمعهم بالمضارب وتعذِّبهم. التفتُّ إلى خوري السفينة بحزنٍ، وكان بجانبي، وقلت له “ما هذه القسوة، يا أبانا، من أناسٍ مسيحيين؟ أيجوز ذلك؟”. أجابني الخوري “لن أواخذكَ بما قلته فأنت رجلٌ غريب تجهل خبيئة الأمر. وإنْ سألتني عن سبب مآل هؤلاء القوم لأجبتكَ بأن كلَّ رجلٍ فيهم يستحقُ القتل على ما اقترفته يداه. لكن أصابتهم رحمة أهل القانون والتشريع، فحكموا على كلٍّ منهم بقدر ذنبه. فمنهم من يبقى في السفينة ثلاث سنوات، وقوم خمسًا، وآخرون إلى الممات. وفي هذه العقوبة عظة للآخرين حتى لا يقعوا ما وقع فيه هؤلاء الآثمون، ويرتدعوا عن ارتكاب الفواحش والمحرَّمات الجليّة والخفيّة”. فلمّا سمعتُ كلام الخوري اقتنعت بما قال، وشبَّهت نفسي بأني في الملكوت وأولئك في السعير، أجارنا الله منها”.
كتبتُ في السطور السالفة بالفصحى ما دوَّنه حنّا بلغته واصفًا المحكومين بالأشغال في سفينة. يُدخلُك التأمّل في وصفه جحيمَ دانتي، ولتشعر أنَّ حنّا هو دانتي والخوري هو فرجيل يمرُّ به على حلقات الجحيم يلتقي أهلها ويشرحُ لدانتي أحوالهم. تعمّدت اختيار هذا المقطع من دون سائر الرحلة لأنه يقدّم صورة جليّة عن رحلة حنّا ومشاهداته وملاحظاته وتعليقاته، بل وحتى عوالمه الداخليّة الفكريّة والنفسيّة، وتردده في التزام جانب دون آخر. كانت رحلة حنّا شهرزاديّة لما فيها من مغامرات وغرائبيات وأعاجيب في حدود المعقول، ونحن نتنقّل معه من مدينة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر، ونقف معه لنسمع ملاحظاته، ونشاهد برفقته ما ينتصبُ أمام عينيه. لعلَّ أول ما يلاحظه الرحّالة بين البلاد هو الفوارق بين بلاده والبلاد التي حطّ رحاله فيها، ومع حنّا فإن الفارق ذو طابعٍ هزليّ فطريّ غير متكلّف ولا متصنّع ولا مبالغ به. نقرأ ما قاله للحلاق في ليكورنا حين حلق شاربه سهوًا “يا ليتك كنت جرحتني ولا كنت حلقت شواربي، أما بتعرف أولاد الشرق ما بيحلقوا شواربهم متلكم؟”. ولما رأى النساء الأوروبيات وأحوالهن وكشفهن الوجوه وخروجهن في الشوارع بلا تردد أو خوف، ثم رأى امرأة صديقه الشرقيّة -كانت لا ترغب في الخروج وتمانع ممانعة كبيرة- حين خرجت لبست النقاب على غير عادة أهل البلد، ولم ترغب في رفعه بطلب من زوجها وحنّا، تركهما حنّا وعلَّق: “ومن هذا قد تبين لي بأن نسا بلادنا ما بيقدروا يسلكوا سلوك نسا تلك البلاد لأجل أنهم ربيوا في الخبا”. أي إنّ الشرقية لا تستطيع التصرّف كالغربيّة لأنها تربّت في الستر، وعدم الكشف على الرجال، وهذا السترُ الشرقيّ عابر للأديان فهو عند المسلمة والنصرانيّة. وحين دخل باريس فأول ما لفت انتباهه نظامُ النظافة وجمع القمامات من الدور والغرامات المفروضة على من لا يلتزم به. يقول “هذا أول نظام التي رأيته في مدينة بهريس العامرة”. وحين أتى المبعوث العثماني إلى باريس أبصر الفرق هو الآخر، فرقٌ طرق مسامع حنّا فدوَّنه وقرأناه “فراء فرق عظيم ما بين نظام بلاد الفرنجية وبين نظام بلاده المملوه من السجس (الفوضى) والاضطراب والظلم وجور الحكام على الرعية، وكان يقول هذا إلى جوخداريته بالمخفى، وكانوا يحكولي بالذي يقوله لهم”.
أراد لوكا من حنّا أن يحتفظ بشرقيّته قبل أن يدخل بلاط الملك لويس الرابع عشر، وفي المحافظة على شرقيّة حنّا إبراز للفارق الحضاريّ ما بين الشرق والغرب، ومنه فارق الثياب واللباس. لم يغب عن حنّا ملاحظة تحديق أهل البلاط إلى ثيابه فيقول “أخيرا صاروا يتفرجوا عليّ وعلى ملبوسي، ويكشفوا ديالي، ومنهم يمد يده إلى صدري ومنهم يرفع قلبقي ويكشف راسي، فتركوا فرجة الوحوش وصاروا يتفرجوا عليّ وعلى ملبوسي ويتضحكوا”. لهو تعليق ساخرٌ لاذعٌ لا تدري ممن يسخر حنّا منهم بسلوكهم غير المهذّب معه أو من نفسه وقد صار مضحكة. ولأننا موعودون بالصدق والوضوح مع حنّا فهو لا يخفي سذاجته حين أخذ الشمعدان من الملك لويس على غير العادة، وأعطاه الملك الشمعدان. يُعلّق على ما حدث “وكنت الفقير واقف بجانب الملك، وعلى قلة عقلي وسداجتي تناولت الشمعدان من يد الملك، ومن زيادة حلم الملك فأعطاني هو بعلمه بأني فعلت هل أمر بسداجة من غير معرفة، لأن الذي فعلته أمر غريب، لأن من له جراعة يمد يده إلى الملك ويأخد الشمعدان من يد الملك!”. ولأنه شرقيّ ظنّوه مسلما “وقالت إحدى الأميرات: تعالوا تفرّجوا على سيف المسلم. فلما سمعتُ منها هل كلام، ففي الحال كشفت ديل الجرخة وقلت لها: لا يا سيدتي ما هو سيف الذي بتريه، هذه سكينة”. وكانت السكينة ممنوعة الدخول فتفرّقن عنه وتمقّعت وجوههن، فقرّعه لوكا على فعلته.
زار حنّا الكنائس، وروى حكاياتٍ القديسين مثل كنيسة العذراء وكنيسة أعلى الجبل، وذكر شفاعة العذراء في مرض ضرب باريس، وشاهد عرض الأوبرا، وشهد إعدام المجرمين في ساحات باريس، وأخبرَ عن الصقيع في باريس وكيف أصابه وأنجاه بول لوكا، وروى حكاية صاحبه الحلبي صاحب المقهى وكيف ذاع صيت قهوته في باريس. وروى خبر الجوع ثم عملية توزيع الخبز الحكوميّة، وموت الناس الفقراء في الشوارع، ونصب المشانق في مداخل الأحياء لمنع اقتحام البيوت بسبب الجوع. وعاش مغامرات في رحلة البحر لا سيما مع القراصنة، وفي البرّ عندما تظاهر بأنّه طبيب فرنسيّ، وشهد بيع المومياءات في مصرٍ للفرنسيّين سرًّا، وهرَّب التتن داخل الفراش حتى لا تصادره الجمارك حين وطئت قدماه بلاد الفرنجة. عاش حنّا رحلة عامرة بالوقائع والمفاجآت، وكان قريبا من الأخطار والهلاك، لكنّه كأبطال شهرزاد ينجو دائما من الموت، ينجو ليروي حكايته.
حنَّا دياب الحكَّاء
ما كان لرحلة حنّا إلى باريس أن يذيع صيتها وتكون لها مكانتها لولا أنطوان غالان (1646-1715)، وهو أول من ترجم ألف ليلة وليلة إلى لغة أوروبية (الفرنسية)، ونشرها ما بين سني 1702-1717. وليوميات غالان الفضل أيضًا في إفراد صفحات لحنّا ومنحنا معلومات عنه. يورد حنّا سطورا عن لقائه أنطوان قائلا “وفي تلك الأيام صغرت نفسي واتضجرت من السكنة في تلك البلاد، وكان يزورنا كثير أوقات رجل اختيار، وكان موكل على خزانة كتب العربية، وكان يقرا مليح بالعربي، وينقل كتب عربي إلى الفرنساوي. ومن الجملة كان في ذلك الحين ينقل كتاب عربي إلى الفرنساوي وهو كتاب حكاية ألف ليلة وليلة. فهذا الرجل كان يستعين فيّ لأجل بعض قضايا ما كان يفهمهم. فكنت أفهمه إياهم. وكان الكتاب ناقص كام ليلة، فاحكيت له حكايا الذي كنت بعرفهم، فتمم كتابه من تلك الحكايا. فانبسط مني قوي كثير، ووعدني بأن كان لي مسألة حتى يقضيها من كل قلبه”. أي حكايات هذه؟ وأي قضايا كان يفهّمه إياها حنّا؟ فهذا ما لا يأتي على ذكره حنّا، ويبدو حدثًا هامشيًّا، فما كان يعنيه في علاقته مع أنطوان هو تأمين عملٍ في خدمة الأمير. لم يدرك حنّا حين ذلك، ولا حتى بعد نصف قرن من تدوين رحلته، أنَّه ساهم في تأليف أعظم كتاب أدب عربيّ وأحد أهم الكتب في الأدب الأوروبي، كتابٌ تأثَّر به لفيف من أدباء أوروبا الكبار على غرار فولتير وديكنز وكوليردج، وما زال تأثيره شاخصًا حتى اليوم. حفظَ لنا أنطوان عناوين الحكايات التي حكاها وكتبها له حنّا، وذكر ملخصّات معظمها، وهي: حكاية المصباح: بلا ملخص في اليوميات. حكاية قمر الدين وبدر البدور. حكاية عن هارون الرشيد: فيها حديث عن امرأة تأكل لحوم الموتى، وهي في الحقيقة سعلاة في هيئة امرأة. حكاية علي الزئبق: بلا ملخص. حكاية فرس الأبنوس: نفسها في كتاب ألف ليلة وليلة. حكاية مدينة الذهب. حكاية أبناء ملك الهند الثلاثة. حكاية أبناء سلطان سمرقند الثلاثة. حكاية السلطان خسرو شاه. حكاية من كتاب خرافات عنوانه “الوزراء العشرة” أخبره به حنّا. حكاية علي خوجا والأربعين حرامي: حكاية (علي بابا) ويرد اسمه أيضا في حكاية غالان بصيغة خوجا بابا. حكاية الحبَّال الفقير الذي أصبح غنيًا. حكاية الكيس وبوق الدرويش. حكاية حسن بائع شراب عرقسوس. حكاية التاجر علي خوجا4.
إنَّ أهم ما قدَّمه حنّا للأدب الأوروبي حكايتا علاء الدين والمصباح السحري وعلي بابا والأربعين حرامي، وهما حكايتان تفرَّدت بهما ترجمة غالان دون باقي النسخ العربيّة من كتاب ألف ليلة وليلة. لكنّ حنّا لم ينل ما يستحق من فضل، إذا ما عرفنا أنَّه المؤلف الوحيد المعروف لحكايات دخلت متن كتاب شهرزاد. وضاعَ صوته في صوتها بل وابتلعته التملُّك الثقافي الغربيّ كما يقول عبد الله إبراهيم في مقالته “بالعثور على الأصول العربية لحكايات ألف ليلة وليلة، بدأت تلك الأصول تغالب ما أُخذ عن الصيغة الفرنسية، ثم غلبتها بظهورها مطبوعة، فصار الاتكال عليها أوثق من الاتكال على غيرها. تتداخل النصوص الشفوية حينما تغيب الحدود فيما بينها، ويعود ذلك إلى أن التقاليد الشفوية في حمل المرويات السردية لا تأبه بالمفهوم الضيق للتملّك، أي التملّك المنسوب إلى مؤلف بعينه، إنما تفطن إلى التملّك الثقافي واسع المعنى، حيث يحمل السياق المضيّف النص إلى العالم، ويخلع عليه هويته، وقد حدث ذلك لحكايات ألف ليلة وليلة، فيكون حنّا دياب قد وقع ضحية تداخل نسق شفوي بنسق كتابي. ومع الأخذ في الحسبان أنّ استئثار آداب الأمم المهيمنة بآداب الأمم الواهنة ظاهرة تكشف علاقة التبعية في ثقافات الأمم، ولا يكاد يسمع صوت التابع، وكما قالت “سبيفاك” فينبغي للتابع أن يتكلّم، وإلا يبقى مكتوم الصوت كالأخرس الذي يدرك كلّ شيء ولا ينطق به”5. وكما كتم لوكا صوت حنَّا كتمه غالان ونال الثناء بدلا منه، يضيف عبد الله إبراهيم “[صيَّره غالان] تابعا رمزيا في رتبة الراوي المكمّل لنقص في حكايات الليالي، التي ينبغي أن تكون بألف ليلة وليلة. في أحوال مماثلة لما حدث بين دياب الحلبي وغالان الفرنسي يصار إلى الاحتفاء بالآخذ على حساب المانح. يُكلّل الحائز بتيجان الفخر، ويُثنى عليه، ويُغمر بالذكر حيث يكون، فقد انتشل جواهر الكلام من طيّات النسيان، فيما ينزوي الواهب، ويُنتَبذ، كأنه فضلة من فضلات التاريخ”6.
قدَّم أنطوان صورًا متعددة عن حنّا في يومياته، وإذا ما جمعناها منذ البداية إلى النهاية تكون كالآتي: “ذهبتُ في الصباح عند السيد بول لوكا لأعيد إليه القطع النقدية التي عهد إلي بها قبل ثمانية أيام، وتكلمت لبعض الوقت مع حنَّا الماروني الحلبي، الذي كان يتكلم فضلا عن العربية كلًا من التركية والبروفنسالية والفرنيسة بقدر مقبول. وقفت صحبة السيد حنّا الماروني الحلبي الذي جاء به من حلب واستقدم السيد حنّا معه بعض الحكايات العربية الجميلة جدا وقد وعدني بكتابتها وإبلاغي إياها. انتهى الماروني الحلبي من سرده عليّ حكاية المصباح. علمت من الماروني الحلبي المعنى الصحيح للكلمة العربية “قاعة”. إنها أشبه بغرفة تطل على باحة في القصور أو بيوت علية القوم، عند القضاة لها فتحة واسعة دون باب، حتى يفد عليها الهواء أيام الحر الشديد، فيها يستقبل أصحاب البيوت ضيوفهم، إن كانوا من الأسياد، أو تعرض فيها الأحكام إن كانوا قضاة. منذ اليوم السابق شرعت في قراءة الحكاية العربية “المصباح” التي كتبها لأجلي عاما من قبل الماروني الدمشقي الذي أحضره السيد لوكا معه، بغية كتابتها بالفرنسيّة. فرغت من قراءتها في الصباح. هذا عنوان الحكاية: قصة علاء الدين ابن الخياط وما سيقع له مع ساحر إفريقي بسبب مصباح. في المساء بدأت بكتابة جزء من هذه الحكاية. أنجزت ترجمة الجزء العاشر من ألف ليلة وليلة عن النص العربي الذي وصلني على يد حنّا أو يوحنا الديبيّ الذي جاء به السيد لوكا إلى فرنسا عند عودته من رحلته الأخيرة إلى الشرق. كنت قد بدأت الترجمة شهر تشرين الثاني، ولم أكن أشتغل عليها في سوى المساء. وأخبرني حنّا نفسه أنه كان في مدينة حلب ما يربو عن عشرين مكتبة، كما كان هنالك أب من الإخوة الأصاغر، وهو إيطالي من الأرض المقدّسة، يقدم خطب الوعظ بلغة عربية سليمة، وبشكل مثمر مع مسيحيي البلد الذي كانوا موجودين في حلب، وكان الإيطاليون يفلحون أكثر في تعلم العربيّة. في المساء وصلتني رسالة من حنّا، أي يوحنا المعمدان، لقبه دياب، الماروني الحلبي، الذي كتب إلي من مرسيليا يوم 17 [17 تشرين الأول لأن هذه اليومية كتبت في 25 تشرين الأول 1710] باللغة العربية، وأبلغني أنه وصل إليها وهو في تمام عافيته، لكن لم يصله فيها أي خير عن الأبيل دو سيني”7.
لهي صورة إيجابيّة في مجملها يتركها أنطوان عن حنّا، ويبقى السؤال عن تغييب دوره في جمع حكايات ألف ليلة وليلة في ترجمتها الفرنسيّة نقطة الخلاف. إنَّ نظرة غالان، وغيره من المستشرقين والدارسين لألف ليلة وليلة الغربيّين، قوامها أنَّ هذا الكتاب إرث ثقافي شرقي مشاع، فغالبا ما نسبوه إلى الهند وفارس، وما دور العرب إلا التجميع والتدوين، أي إنَّهم لا تأثير لهم ولا أهمية في تكوين الحكايات وإبداعها، وهذا مخالف للصواب. لا يرى أنطوان ما قدَّمه حنَّا من حكايات إلا في دور العربيّ الشرقيّ في إيصال هذه الحكايات إلى أوروبا، فهو ناقلٌ تنتهي وظيفته وتنعدم الحاجة إليه حالما يكتمل الكتاب. لذا نرى أنطوان يصف حنّا ويعترف بجهوده ويذكره بخير لكن هذا كلُّ ما حق حنّا الذي يحصل عليه. أما الحكايات فهي ليست ملكَ حنّا بل ملك الشرق أي من حقّ الغرب الاستيلاء عليها دون أن يذكر آخرون أو يشار إليهم.
لكن حنَّا الحكّاء ليس حنَّا ألف ليلة وليلة حَسْبُ بل هو حنَّا “كتاب السياحة” الذي ضمَّنه حكايات بأسلوب شائق، ورصين وفقًا لإمكانياته، فنحن نتعرَّف عليه حكَّاء منذ بدايته في الدير، وتتوالى الحكايات في صفحات الكتاب بالأسلوب نفسه، فهو متقن لما يريد روايته، ولا تغيب عنه التفاصيل، ولا الخلوص إلى الخاتمة، فضلا عن التعليقات الجانبيّة والختاميّة التي تبيّن معنى الحكاية والخبر المروي. ولا شكَّ أنَّ مقدرة حنّا الإبداعية سواء في الحكي أو الكتاب الحكائية هي التي جعلت أنطوان يميل إليه بل يجد فيه المعين الذهبيّ لإتمام كتابه الشهير. كيف بدأ الأمر بينهما، وما الذي جعلَ أنطوان يسأل حنّا عن حكايات يعرفها؟ لا جواب بين أيدينا، لكن من يقرأ كتاب حنَّا ويعرف شخصيّته الودودة ورغبته في الكلام عما رآه أو وقع عليه يفهم الظروف التي آلت إلى استعانة أنطوان بحنَّا من أجل الحكايات، بل يذهب بعضهم إلى القول إنَّ بعض أحداث حكايات حنَّا مستمدَّة من حوادث جرت معه في رحلته إلى فرنسا.
كتابة الرحلة
نطرحُ سؤالين عن كتاب حنّا الأول متى كتب الرحلة؟ والآخر لماذا كتب الرحلة؟ تتفرعُ تساؤلات ضمنية من هذين السؤالين. كتب حنّا رحلته بعد مرور أكثر من خمسين سنة فيقول “وجميع الذي ذكرته الآن هو بغاية التحقيق من غير زود ولا نقص، إنما كتبته بالمقتصر ليلا يتوهم القاري بأني بصلم في كلامي، لأني رأيت أشيا كثيرة وما كتبتها ولا بقيت في بالي مند أربعة وخمسين سنة، لأني لما كتبت هل السياحة وهذا الخبر كان في سنة 1763، وأنا كنت موجود في مدينة بهريس سنة 1709، هل عاد يجي في بالي جميع الذي رأيته وسمعته بالتمام؟ كلا!”. وفي موضع آخر يقول “الفقير الكاتب هذا الخبر من بعد خمسين سنة التي مرت إلى الآن الذي كنت في سن الخمسة وسبعين سنة”. وفي آخر الكتاب مكتوب “وهذا منتها خبرنا والسياحة، ونستغفر الله من الزيادة والنقصان.
تم ذلك في اليوم الثالث من شهر ادار سنة 1764 مسيحية
وتحته كلامه كلام شطب عليه يمكن قراءة بعضه بصعوبة: أنطوان يوسف حنا دياب 1768
كتاب للفقير الحقير عبد القاري أنطوان يوسف حنا دياب ودالك في سنة 1766 مسيحية. [ثم خرابيش يبدو أنها توقيع منمّق]”.
يبدو من هذه التواريخ الواردة في الكتاب8، والجمع ما بين قوله “منذ أربع وخمسين سنة” وقوله “بعد خمسين سنة”، أنّ كتابة الرحلة اكتملت في سنوات متعاقبة ما بين سني 1763-1768، مع أنه فرغ منها سنة 1764 أي إنه بقي يراجعها حتى سنة 1768 ولعل ما يؤيد ذلك وجود حواشٍ في المخطوطة، وكذلك استبدال كلمة بأخرى، أو حذف كلمة، كما بيّن المحققان المطلعان على مخطوط الرحلة. ولعلّنا نسأل كيف تأتى لحنّا أن يُدوّن رحلته بكل تفاصيلها الدقيقة بعد مرور نصف قرن، وأينه من آفات الذاكرة وتداخل الأحداث؟ يميل عبد الله إبراهيم في مقالته إلى “مباشرته الحياة بنفسه، وليس عبر وساطة أحد، فقد قضى معظم وقته إما في الخانات، والموانئ، والبيوت، والكنائس، وإمّا متجولا في أزقة المدن، وحاراتها، وقراها، ففيه نهم تمكّن منه في التعرف إلى الناس، وأخلاقهم، والتطواف في المدن، ووصف عمرانها، ولا يتاح ذلك لمن أصابه الكسل، ولحق به التثاقل، وتهاون فضوله، ما جعله يعرف أكثر مما ينبغي لتابع، ومع ذلك، فإنّ تبعيته أضحت مصدر نفع لا يقدر بثمن من ناحية تسهيل ما كان متعذّرا عليه”9. ولا يسعني مخالفة ما ذهب إليه عبد الله إبراهيم، وأزيد عليه أن رجلًا من عامة الناس في حلب يذهب إلى فرنسا، ويمرُّ ببلدان كثيرة ومدن شهيرة، ويلتقي أناسا من كلِّ الأصناف والمقامات، ويستغرق أكثر من ثلاث سنوات سائحا في البلاد، سيعود محمَّلًا بالحكايات والأخبار عن رحلته، ويبقى عمره بأكمله يروي للناس ما جرى معه. ولا أستبعد أنّ حنّا صار كحكواتيّة ألف ليلة وليلة يجتمع إليه الناس ليسمعوا منه، ومع أسلوبه الشائق، وتعليقاته الطريفة، وصدقه في الحديث، جعل الناس يطلبون منه أن يعيد عليهم ما رواه لهم مرارًا وتكرارًا حتى ترسّخ رحلته في نفسه، ودُمغت بلا نسيان في ذاكرته. ولأننا مع شخصيّة شهرزاديّة فلا غرابة أنْ تتحول رحلته من طورها الشفويّ إلى طورها الكتابيّ، دوَّن حنّا رحلته لأنها تستحق أن تُحفظَ وتروى من بعده، فموت حنّا يعني انقطاعه عن حكايته، وكان لا بد لحكايته أن تُحكى دائما. كما قيّد الكتابُ صوتَ شهرزاد قيّد حنّا صوته في كتاب، وتركه محبوسًا في الصفحات على أمل أن يأتي يومًا ويتحرر، وقد جاء.
1- ذكر أنه كان في الخامسة والسبعين من العمر حين كان يكتب رحلته سنة 1763، وبهذا قد تكون ولادته سنة 1688.
2- المقالات – عبد الله إبراهيم ص54-55
3- المقالات – عبد الله إبراهيم ص61-62
4- تذكر كريستياني داميان في مقالتها حنّا دياب صوت من أصوات ألف ليلة وليلة: “إنَّ حنَّا حكى لأنطوان ست عشرة حكاية، نُشرت منها عشر حكايات في المجلدات الأربعة الأخيرة لترجمة غالان لألف ليلة وليلة”. لكن ما عددته من الحكايات التي وردت في ترجمة يوميات أنطوان إلى العربية خمس عشرة حكاية لا غير.
5- المقالات – عبد الله إبراهيم ص 54
6- المقالات – عبد الله إبراهيم ص 55
7- مقتبس من يوميات أنطوان غالان (1709-1710)، المنشورة في ملحق كتاب الرحلة من طبعة الجمل.
8- أرى أنَّ العنوان الأنسب للكتاب هو كتاب السياحة، ويوافق ما ذكره حنّا في كتابه. لذا فقد أحسن المحقق الإنجليزي في طبعة المكتبة العربيّة اختيار هذا العنوان وكذلك في الترجمة الإنجليزية.
9- المقالات – عبد الله إبراهيم ص70-71