فن المقامة والهمذاني
شقَّ فنُّ المقامة لنفسه مجرًى في الأدب العربي القديم، وسرعان ما ثبَّت أركانه نوعًا أدبيًّا قائمًا بحاله، له أعلامه وشخصياته، وشرَّاحه، وبُنيته التقليدية والمِعيارية التي شهدت محاولات للخروج عنها، والإبداع فيها مثل أي نوعٍ أدبي شعري أو نثري يقبل التغييراتِ ومتطلبات عصره، وتجدُّدَ المواضيع التي تفرض نفسها على بُنية المقامة. وإذا عجزَ النوع الأدبي عن الاستجابة لتغيرات العصر والمجتمع والمتلَّقي سيكون عرضة للاندثار والزوال، وبروز أنواع أدبية جديدة وهذا ما كان مع المقامة. وما الأدب إلا إبداع مستمر وتجديد دائم لا يقف عند زمنٍ ولا نوعٍ واحد فهو مرتبطٌ بالإنسان وعلاقته بمحيطه وبيئته وعالمه والكون، فالتحولات التي تشهدها الأنواع الأدبية أو الظروف المولِّدة لأنواعٍ جديدة كلها خاضعة لفكر الإنسان وخياله وكيف يرى العالم واحتياجاته. ليست المقامة بِبدعة عن هذا، يقول د. عبد الملك مرتاض في كتاب فن المقامات في الأدب العربي مجيبًا عن سؤالِ لماذا المقامات؟ “إنَّ بديع الزمان الهمذاني حيث كتب المقامات التي أقام موضوعها على الكدية إنما استجابة لموضوع كان يشغل أذهان الأدباء في عصره فصاغ كل ذلك في قالب قصصي زاد فكرة الكدة وضوحا ورسوخا في الأدب العربية، ولم يفته أن يعالج مشاكل عصره”1. شهدت المقامات انطلاقتها الرسمية بُنيتها المتعارف عليه وأعرافها مع بديع الزمان الهمذاني في العقد التاسع مع القرن الرابع الهجري، كما هو مرجَّح ويقوله غير واحدٍ أشهرهم الثعالبي النيسابوري. لكنَّ هذه الانطلاقة أشرعت الباب على مصراعيه في البحث عن أصول المقامة ونشأتها ومصادرها، وهل كان الهمذاني أول من كتب المقامات، وهل يُمكن للمقامة أن تنبتَ من صدع الأرض، وقبل كل هذا ما معنى المقامة، وهل استخدم العرب لفظة مقامة وما عنوا بها؟ أسئلة كثيرة تُطرح في هذا الحقل الدراسيّ الخاص بتاريخ المقامة منذ النشأة الأولى والعناصر المُساهمة سواء البُنيوية أو الموضوعيّة في وصول المقامة إلى صيغتها الأخيرة المعروفة.
تُحيل كلمة مقامة إلى ثلاثة معانٍ، تعضدها أشعار العرب قبل الإسلام، هي المجلس والنادي (مكان التجمُّع والحديث)، والجماعة، وأطلقَ أيضًا لفظ المقاماتِ على الأحاديث الوعظيّة. وأخذت مع الهمذاني معناها الاصطلاحي، وهو معنى لا يخرجُ كثيرًا عن الأصل المستخدم، وهو حديث يُلقى في جماعة من الناس، لكن هذا الحديث كما في بعض المقامات ليس بالضرورة أن يُلقى في جماعة من الناس، فقد يكفي أن يُقال لرجلٍ واحد. يغلب التسوُّل أو الكُدية (مهنة التسوُّل) غايةَ هذا الحديث، ولأجل هذه الغاية، التي تُوجب استدرار عطف الناس وأموالهم، فلا بد أن تكون بلغة فصيحة بليغة يعرضُ بها المتحدِّثُ مسألته ويشكو حاله ويؤثر فيمن يستمع إليه. لكن هذا الحديث وإنْ كان لبَّ المقامة فهو ليس العنصر الوحيد في بنائها فكان لزاما إلى توطئة افتتاحية ثم الحدث الرئيس ثم النهاية، وفي هذه الأجزاء الثلاثة الرئيسة تتشكل لدينا بُنية المقامة كاملة، فيقودنا هذا إلى الوقوف على نصٍّ أدبي كامل وقائم بذاته ذي بُنية ثابتة أشبه ما يكون بالقصة، بمعناها المتعارف عليه اليوم، وهي كذلك بالفعل. يسأل مارون عبود في كتابه بديع الزمان الهمذاني “هل المقامة قصة؟ نعم يا سيدي، إنها قصة. والفرق بينها وبين قصص اليوم كالفرق بين هندامك أنت وهندام جدك، رحمه الله ورحمني معه. لكن ليست كل مقامات البديع قصصا فقسم منها لا شيء، والقسم الآخر شيء عظيم. وحسب الرجلَ ما خلق. إنه لفنان بديع”2. ويقول عبد الملكِ مرتاض بأن “فن المقامات للبديع يدخل في باب القصص على حين مقامات الزهَّاد أو العباد تندرج في إطار الخطب والعظات والأحاديث أو الحكايات…”3.
نواجه سؤالًا مهمًا في هذا الحقل كيف استلهمَ الهمذاني فن المقامة، وهو سؤال خاض به الباحثون والدارسون ولم يتوقَّفوا فنقَّبوا في كتب التراث وشرَّقوا فيها وغرَّبوا وما تركوا نصًا لم يقصدوه ويستقرأوه ويستنطقوه بحثًا عن إجابة تبدد الغيوم عن حقيقة من أصول المقامات وريادة الهمذاني لها، والأسئلة الأخرى التي تصبُّ في المجرى نفسه. والحقيقة إنَّ النتائج، رغم بعض اختلافها، تصل إلى حقيقة واحدة وهي أنَّ المقامة أخذت مع الهمذاني شكلها وبُنيتها وسار على نهجه من تبعه، وإن لم يكن أول من كتبَ مقامة، التي أشرنا في أن معناها قبل الهمذاني الحديث في جماعة أو الموعظة أو الحكاية. تعود أول إشارة إلى هذا الموضوع ما ذكره الحُصْري في كتابه زهر الآداب وثمر الألباب4: “ولمّا رأى أبا بكرٍ بن الحسين بن دريد الأزدي أغربَ بأربعين حديثًا وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره، واستنخبها من معادن فكره، وأبداها للأبصار والبصائر، وأهداها للأفكار والضمائر، في معارض أعجمية وألفاظ حوشية فجاء أكثرُ ما أظهر تنبو عن قبوله الطباع ولا ترفع له حُجبها الأسماع وتوسَّع فيها إذ صرَّف ألفاظها ومعانيا في وجوه مختلفة وضروب متصرِّفة، عارضها [أي الهمذاني] بأربعمئة مقامة في الكُدية، تذوب ظرفا وتقطر حسنا، لا مناسبة بين المقامتين لفظًا ولا معنى، وعطفَ مُساجلتها، ووقفَ مناقلتها، بين رجلين سمّى أحدهما عيسى بن هشام والآخر أبا الفتح الإسكندري…”.
يقول الحصري بأن أبا بكرٍ ابنَ دريد (تُ. 321 هـ) جاء بأربعين حديثا من إبداعه بلغت الهمذاني، فعارضها بكتابة أربعمئة مقامة في الكدية؛ رواها عيسى بن هشام من أخبار أبي الفتح الإسكندري. يوردُ أبو علي القالي الكثيرَ من أحاديث ابن دريد، فاقت الأربعين خبرًا وحديثًا، في كتابه الأمالي، وهي أحاديث فيها الخبرُ والحكاية والشعر وفي غالبها ذات غاية لغوية، لكن في بعضها حكاياتٌ ذات لفظ رفيع وأسلوب بديع، والسجع فيها واضح أصيل راقٍ غير مكرر أو مبتذل. وبعضها خطبُ وموعظة في الناس كما في المقامة، وفيها أحاديث مثل حديث وصف الفرس الذي نجد له شبيهًا في المقامة الحمدانيّة عند الهمذاني. إنَّ الفيصل الذي نتحكم إليه في هذا الموضوع هو ما المعيار في القول إنَّ هذا النص مقامة أو ليس بمقامة؟ فيصلنا في هذا هو الاتفاق على تعنيه لفظة مقامة أي التفريق ما بين المقامة من الناحية التاريخية والمقامة من الناحية الإبداعية، فلا يُنكر قارئ وجود مقامة بمعنى الحديث في جماعة قبل الهمذاني كما في أخبار الزهّاد والعبّاد، لكنها مع الهمذاني أخذت طابعًا آخر هو المتعارف عليه من بعده ببنيتها المميزة ولغتها مواضيعها: إذ يقوم راوٍ ثابتٍ برواية المقامة يُقدِّم فيها حاله وأخباره، ثم يجتمعَ برجلٍ يتحدث بفصاحةٍ وبيان لا نظير لهما من أجل نيل المال من الناس (الكدية)، ثم يعرف فيه شخصَ أبي الفتح الإسكندري. وهذا ما يُشير إليه د. عبد الله إبراهيم في حديثه عن الريادة الإبداعية وضرورة تفريقها عن الريادة التاريخية5، وهذا ما أوقعَ بعض الدارسين للمقامات بالخطأ وعدم التفريق بينهما كما فعل زكي مبارك، والريادة الإبداعية يشهد بها الحريري في خطبة افتتاحية مقاماته: “وقد جرى ببعض أندية الأدب الذي ركدت في هذا العصر ريحه، وخبت مصابيحه، ذكر المقامات التي ابتدعها بديع الزمان، علّامة همذان، رحمه الله تعالى. وعزا إلى أبي الفتح الإسكندري نشأتها، وإلى عيسى بن هشام روايتها، وكلاهما مجهول لا يُعرف، ونكرة لا تَتَعرَّف. فأشار من إشارته حُكمٌ، وطاعته غُنْمٌ، إلى أن أنشئ مقاماتٍ أتلو فيها تِلوَ البعيد وإن يدرك الظالع شأو الضليع… هذا مع اعترافي بأن البديع رحمه الله سبَّاق غاياتٍ، وصاحبُ آياتٍ، وأن المتصدي بعده لإنشاء مقامة، ولو أوتي بلاغة قدامة، لا يغترف إلا من فُضالته ولا يسري ذلك المسرى إلا بدلالته”. ويقول القلقشندي (ت821 هـ) في كتاب صبح الأعشى “إن أول من فتح باب المقامات علامة الدهر وإمام الأدب البديع الهمذاني”6.
إنَّ الريادة الإبداعية في فنِّ المقامة هي من حقِّ الهمذاني بلا ريبٍ، بل هو المؤسس لفنِّ المقامة، وما أخذت المقامة إلا معه معناها الاصطلاحي ووظيفتها الأدبية، وصارت نوعًا أدبيًا يكتبُ فيه الكتَّاب من بعده يحذون فيه غالبًا حذوَ القذَّة بالقذَّة وينطبقون عليه انطباق الحافر على الحافر. لقد أسَّسَ الهمذاني بُنية المقامة، وشهدت مقاماته أكثرَ من بُنية واحدةٍ وإنْ غلبَ عليها البُنية الرئيسة، التي صارت تقليدية ومعيارية، فهو استلهمَ فكرة المقامة وجزءًا من بُنيتها مما سبقَ لكنه أعطاها هيكلة جديدة وبُنية مختلفة التزمَ بها في كتاباته. وهنا لا بد من طرح مسألة مهمة جديدة، وأراها ضروريةٍ جدًا في أي مسألة تخصُّ الريادة الإبداعيّة، وهي في هل كتبَ الأديب هذا النصَّ ببُنيته الفريدة عن وعيّ منه وإرادة أو أن الأمر بمحض الصدفة من دون سابقٍ إدراك ورغبة؟ لا تكمن الإجابة هنا إلا بتفحُّص النص المكتوب والمنسوب لهذا الأديب. بتفحُّص مقامات الهمذاني نرى بأنه عارفٌ بما يكتب وواعٍ بالطريق الجديد الذي سلكه في الكتابة، بل إنَّ أي عوار وضعف وخلل سيكون جليًا في النصِّ لا تُخطئه عينٌ بصيرة، فلا يوجد من سبق الهمذاني في بناء جسد النص على هذا النحو: براوية وبطلٍ ثابتين يُشكلان بحركتهما في محيطهما تفاعلهما الثنائي فيما بينهما والعالم الخارجي مادةَ المقامة وموضوعَها في الكُدية حيث يلتقيان ويفترقان، بلغةٍ ذات محسنات لفظية ومعنوية يطغى عليها السجع. وأثبتَ للهمذاني مقامه التزامُ من أتى بعده بمنهجه ونظامه، وهذا ما فعله الحريري في مقاماته الخمسين ومن جاءوا خلفه.
أما الإجابة عن سؤال مصادر مقامات الهمذاني (لهذه المصادر تأثيرٌ في نشأة فن المقامة) ومواضيعها فهي عريضة مترامية الأطراف، ولا سيما أحاديث الكُدية والوعظ والنوادر والشعر، وأحسنَ د. عبد الملكِ مُرتاض في جردِها والتعليق عليها: مقامات الزهاد (وهي أحاديث يقولها الزهَّاد في حضرة الأمراء والملوك غايتها الوعظ)، وأخبار الأعراب (وهي أخبار تبرزُ فيها البلاغة والفصاحة العالية لاستعطاف المستمع ليمد لهم يد المعونة)، أخبار المتطفلين (وهم الذين يتطفلون على الناس في محافلهم لنيل عطاياهم والأكل معهم)، والمرويات الحكائية المسجَّعة والأدب العربي القديم حافلٌ بها، وأحاديث ابن دريد التي سبق الحديث عنها. وأهم مصدرين استلهم منهما الهمذاني هما القصيدة الساسانية، وهي قصيدة طويلة ينظمُ فيها أبو دُلَفٍ الخزرجي أخلاقَ المكدين ونسبهم إلى ساسان وأحوالهم وحيلهم وكلَّ ما يخصُّ عملهم، ونلمس تأثيرها الواضح والبارز في المقامة الرِّصافيّة. يصف عبد الملك مرتاض هذه القصيدة بأنها “دستور حقيقي لفن الكدية الذي أقيم عليه فن المقامات بزعامة البديع”. أما المصدر الآخر المهم في مقامات الهمذاني فهو كتابات الجاحظ لا سيما في فرعين: الأول وصية خالد بن يزيد لابنه، ونرى في هذه الوصية من الألفاظ والعبارات التي ترد في مقامات الهمذاني، بل إنَّ مقامة الوصيَّة، وهي وصيّة أبي الفتح الإسكندري لابنه، مشابهة تمامًا لوصية خالد بن يزيد، ولا ريب في أنَّ الهمذاني جاراها حذو النعل بالنعل، وابتنى جزءًا يذهب من شخصية أبي الفتح الإسكندري استنادًا إلى خالد بين يزيد، كما يُرجّح مُرتاض. والفرع الآخر من أدب الجاحظ فالمتمثل في أخبار البخلاء ونجد ذلك في المقامة المضيريّة، وحديث الكدية للجاحظ، الذي يرويه عن شيخٍ، فيه عن حالِ هذه المهنة وأحوالها، ونرى أيضا أن جزءًا من صفات الإسكندري وسلوكياته وطبيعة حياته الجوَّالة المعتمدة على أموال الناس مبنيةً على ما تركه الجاحظ في هذين الفرعين.
لكن الهمذاني لم يقتصر على هذه المنابعِ الرئيسة في استلهام مادته فنراه كما في المقامة الإبليسية يجمحُ بخياله ويُجسِّد شخص إبليس، الذي ظهر بهيئة شيخ اسمه أبو مرة، وهي كنية إبليس، ليخبره بأنه أملى على جرير قصيدةً شهيرة له، وإنَّ لكل شاعرٍ شيطانُ شعرٍ. لم تكن هذه الفكرة من إبداع الهمذاني فقد شاعَ عند العرب وادي عبقر وزعموا أن شياطين الشعراء تسكنه، لكن ما يُحسب للهمذاني هو أخذ هذا الزعم والفكرة إلى بُعدٍ آخر. ونهج ابنُ شُهيد الأندلسي (382 – 426 هـ) على نهجها رسالته الشهيرة التوابع والزوابع، وهي رحلة الشاعر في أرض الجن حيث التقى بأصحاب الشعراء من الجن وأسماهم الزوابع، وأصحاب الكتَّاب من الجن وأسماهم والتوابع. التقى من أصحاب الكتَّاب ثلاثةً أحدهم صاحب الهمذاني وأسماه زبدةَ الحِقب. كان لهذه الرسالة تأثيرها في شيخ المعرة، أبي العلاء المعري، في كتابة رسالة الغفران، وأرسلَ ابن القارحِ في رحلة إلى العالم الآخر. تبرزُ كذلك مصادرُ غير عربيّة استهلم منها الهمذاني مقامته البِشرية، عن بِشر بن عوانة قاتل الأسد. في ورقة بحثيّة بعنوان “أسطورة يونانيّة في مقامةٍ لبديع الزمان الهمذاني”7 يقدّم الأستاذ محمد الهدلق مقاربةً ما بين المقامة البِشرية وأسطورة هرقل وأعماله الاثني عشر. أوضحَ الهدلق ثلاثة تشابهات ليست باعتباطية ولا مصادفة ما بين مهام هرقل الاثني عشر وبين المقامة البشرية لا سيما في قتل الأسد والأفعى، وموت هرقل وقتلَ بِشرٍ المعنوي على يد ابنه. وتكشفُ بوجهٍ أو بآخر وصول خبر هرقل وأعماله إلى الهمذاني الذي اقتبس منها وأعاد إبداعها في صياغة جديدة تتلاءم من البيئة العربية بدقةٍ كبيرة في نسجٍ مقامته، حتى ظنَّ بعضُ الدارسين أنَّ بشر بن عوانة شاعر جاهلي من صعاليك العرب وما حسبوا قطُّ أنّه من ابتداع خيال الهمذاني مثل عيسى والإسكندري.
يجدرُ بنا أيضًا التوقُّفَ قليلا عند نصٍ قريبٍ في بُنيته من مقاماتِ الهمذاني، ولا يُعدمُ تأثيره في نصوصٍ لاحقة، هو حكاية أبي القاسم البغدادي لأبي المطهر الأزدي، وهو نص مغمورٌ لا يُعرفُ الكثير عن كاتبه إلا من نصِّه إذ يشيرُ إلى أنه عاش في القرن الرابع الهجري: “ولَعهدي بهذا الحديث سنة ست وثلثمائة…”. يقدِّم للحكاية مؤلفها، الشيخ الأديب أبو المطهّر محمد بن أحمد الأزدي، وهو السارد العليم لهذا النص، وفي جملة ما يذكره في تقديمه موجزًا الحكاية وغايتها ووقت قراءتها فيقول: “هذه حكاية رجل بغدادي كنت أعاشره برهةً من الدهر فتتفق منه ألفاظ مستحسنة ومستخشنة، وعباراتٍ لأهل بلده، مستفصحة ومستفضحة، فأثبتها في خاطري لتكون تذكرة في معرفة أخلاق البغداديين على تبيان طبقاتهم، كالأنموذج المأخوذ من عاداتهم…”. ويقدّر زمن قراءتها فيقول: “وإذ قدمت هذه الجملة فأقول: هذه حكاية مقدَّرة على أحوال يوم واحد، من أوله إلى آخره، وليلة كذلك، وإنما يمكن استيفاؤها واستغراقها في مثل هذه المدة، فمن نشط لسماعها، ولم يعد فصولها تطويلا وفضولها كلفة على قلبه، ولا لحنا يرد فيها من عباراتهم، قصور معرفة يعيّرني بها، لا سيما مع انتهائه منها إلى الحكاية البدوية الأدبية (هذه الحكاية مفقودة ولا توجد ضمن مخطوطة حكاية أبي القاسم) التي أردفتها بها…”. ومع أن النص ليس حكاية بالمعنى الفعلي فلبنيتها الداخلية جو عام متناسق فتتقدم في نَفَس سردي ثابت يخترقه الشعر ليدعمه لا ليشتته، ولا نشعر بوجود حكاية أكثر من حديث أبي القاسم في مجلس في أصفهان يذكر فيه بغداد ومحاسنها وأهلها وخيراتها ويذم أصفهان وأهلها وكل ما فيها بسخطٍ وقسوة، ويروي أخبارًا وحكاياتٍ قد تناهت إليه أو عرفها وعاصرها. فهي حديث سمر لا حكاية لها غاية القصة المعروفة اليوم ولا بنيتها ولا حبكتها. تبرز المقابلة ما بين بغداد وأصفهان مادةً رئيسة لحديث أبي القاسم البغدادي فيمدح كل ما في بغداد من جو وطبيعة وطعام وشراب ونبات وثياب ومجالس الهوى والسمر وجوارٍ وكل ما يخطر في باله، ويذم أصفهان وكل ما فيها ذمًا قبيحًا ويشنِّع على أهلها تشنيعًا فظيعًا، فيملأ حكاية بالسباب والشتائم متخيِّرًا أقبحها وأشنعها، لذا فنراه يتقلب من أقصى اليمين في المدح والثناء إلى أقصى الشمال في الذم والانتقاص، وما بين هذين النقيضين يدور حديثه وينتقل من موضوع إلى موضوعٍ يحدِّث به حضوره الذين غُيِّبوا وأشيرَ إليهم بالمبني للمجهول في جلِّ المرات، فيتسيّد صوت أبي القاسم على الحكاية ولا نكاد نسمع صوتَ آخر مباشرٍ إلا ما يشير إليه الراوي، لكنها إشارة لا نشعر معها بوجودٍ ماديّ لمن يُجالسه إلا بما يقدح شرارة شتائمه من جديد أو يُسفِّه بهم ويذم بذكر بغداد ومحاسنها. ويُمكن أن نسشتفَّ من حكاية أبي القاسم البغدادي سماتٍ برزت في مقامات الهمذاني هي الحديث في مجلس، عدم التورِّع في استخدام الألفاظ والشتائم أو عدم الالتزام بخُلقٍ عام كما نرى في مقاماتٍ الرصافيّة والديناريّة والشاميّة، والراوي الجوَّال وهو حال عيسى بن هشام وصاحبه الإسكندري، وجود الشعر في بُنية الحكاية. فهذه الحكاية وإن لم تكن شهيرة كسائر المصادر التي ساهمت في الهمذاني للمقامة فإنَّ لكاتبها فضلًا وتأثيرًا ولو على نحو غير مباشر.
ختاما لا يعيب الهمذاني هذا الاستلهام، فقد جمعَ ما تناثر وصبَّ في مجراه ما تغاير، وما الأدب إلا خلاصة التجارب الذاتيّة والغيرية والمعرفة المباشرة وغير المباشرة والتجربة الإنسانية جمعاء، فليست وظيفة الأديب المبدع أن يختلق أفكاره من العدم فحسب ويقدِّمها في قالب أدبي راقٍ بل يكون أيضًا في إعادة القراءة والتجديد للقديم، لا سيما في العصور الخالية إذ الإبداع فيها لا يقتصر على الإتيان بالجديد فهو في إعادة صياغة القديم ومحاكاته والنسج على منواله. ولا يخص هذا أدبَ جماعة من الناس فهو عامٌ يشملُ جميعَ من خطَّ بالقلم في خالي الأمم.
هوامش:
1- فن المقامات في الأدب العربي – ص130.
2- بديع الزمان الهمذاني – مارون عبود. ص37
3- فن المقامات في الأدب العربي – ص105.
4- زهر الآداب وثمر الألباب، جزء 1، ص 305.
5- موسوعة السرد العربي، ج2، فصل5.
6- المصدر نفسه. ج2، ص 235.
7- المصدر.