تنتهي رحلة بروست في بحثه عن زمنه المفقود في كتابه السابع -وهو ثالث الكتب الأخيرة ضمن السلسلة التي نُشرت دون أن تراجع وتدقق من قبل بروست الذي عاجلته الوفاة- المقسّم في أربعة نصوص يتناول كل نص منها مرحلة معينة ابتداءً من النص الأول الذي زامن الحرب العالمية إلى النص الأخير في مرحلة الأخيرة من الحرب العالمية في عام 1918، وهي الحرب التي قد أعاقت بروست في كتابته لروايته السباعية. إن الزمن الذي يستعيده بروست ويقصده هو الزمن الزمن الماضي الذي نستذكره ونشعر به في الزمن الحاضر عبر وسائل تُذكِّرنا به، وتربط ما بين الزمنين دون أن تخلطهما معًا، ويبقى شعورنا بالماضي وما انتابانا من أحاسيس وأفكار ومشاعر منعزلًا عن شعورنا بالحاضر وما فيه من أحاسيس ومشاعر، فنشعر بالزمنين معًا ونعرف ما كان يميز الماضي عن الحاضر، وندرك من هو الشخص الذي يشعر بالماضي (وهو الشخص الذي كناه وقتئذ) وندرك من هو الشخص الذي يشعر بالحاضر الآن، ويستعيد شخصنا في الماضي ويترك له المجال ليقرأ الحاضر بشعور وأحاسيس الماضي لا إرادة منا بل دون إرادة لأن شعوره هو الشعور الوحيد المستحوذ علينا، وما شعورنا الحاضر إلا بوابة لاسترداد شعور الماضي الحقيقي والوحيد الذي يتملكنا مع مواقف بعينها يكررها الزمن أو يبعثها. فالاستعادة هنا استعادة الذات التي تعرف الزمن الماضي أكثر مما هي استعادة الزمن نفسه لأن الزمن يقبع في ذواتنا التي تسعى خلفه، الذات التي يبحث بروست وسارده خلفها، ولقاء هذه الذات هو إعادة بعث للزمن الماضي الذي لم يعد له ملمس أو شكل أو سمات إلا فيما نتذكره نحن، أي أنه زمن يقبع في الذاكرة الذاتية لكل واحد منا، لنعود إلى العلاقة المتداخلة التي يتكئ فيها الزمن والذاكرة بعضهما على الآخر، فالذاكرة هي حافظة الزمن الذي من دونه تفقد جدران قالبها الذي يُحبس فيه الزمن، ويبقيه محفوظًا لنا بكل ما حواه من ذكريات وأحداث وإدراكات وروائح وأطعمة وأحاسيس إلخ، ويقول سارد بروست: “لأن الذاكرة حين تُدخل الماضي في الحاضر دون أن تبدله، تماما كما بدا عندما كان حاضرا، فإنها بذلك تُلغي بالتحديد البعد الكبير للزمن الذي تدور وفقه الحياة”. إنَّ عملية استعادة الزمن هي عملية لتحليل العلاقة ما بين الزمن والذاكرة وبين تأثيرهما فينا.
يحضر سارد بروست حفلة نهارية “حفلة الرؤوس الراقصة” عند آل غيرمانت في نهاية روايته ويرى تأثير الزمن في من عرفهم في الماضي، لكن هذه الرؤية ليست لهم فقط بل هي رؤية ذاتية أيضا يكتشف فيها أنه تقدم بالسن هو الآخر تقدمًا لم يستطع أن يلاحظه من قبل أو يقف على كنهه وماهيته، فتتحول عملية إدراك تأثير الزمن فيمن يراهم إلى إدارك تأثير الزمن فيه نفسه. فهو لم يعرف تأثير الزمن في نفسه إلا بعد اكتشافه في الآخرين، في عملية إدارك انعكاسي، يعبر عنه وصفه لما حدث بينه وصديق الطفولة بلوخ: “وصرَّح لي هو أنني لم أتغير، ففهمت أنه يظن نفسه لم يتغير”. لكن هذه الاستعادة للزمن الماضي وهذا السعي المحموم خلفه لا يتم معه إلا عبر العمل الفني الذي يعترف به دون تردد فيقول: “وعندئذ حلَّ فيَّ نور جديد، ولكنه أقل سطوعا في الأرجح من النور الذي جعلني أدرك أن العمل الفني كان الوسيلة الوحيدة لاستعادة الزمن الضائع”. ويُوقِّر هذا الزمن ويجل من قدراته التي تجعل الأشكال تُعرف دون أن تكون متشابهة ليس لأنه تملقها بل لأنه جعلها تشيخ على حد وصفه. إنَّ الرعبَ الذي يثيره بروست في سارده عندما يضعه قبالة حقيقة تتكشف له تباعًا حول تقدمه بالسن وشيخوخته ودنوِّه من الموت- رعبٌ كفيل بأن يحثَّه على كتابة كتاب يحفظ فيه نفسه، فالبحث عن هذا الزمن المفقود هي محاولة للبحث عن الذات المفقودة (مستقبليا بالموت)، أي أنه يستبق موته بتخليد ذاته، وهذا ما ينطبق على الاثنين سارد بروست وبروست نفسه، إذ تتطابق الشخصية الروائية وخالقها في مسعًى واحد من أجل غاية واحدة ألا وهي مواجهة الموت والاندثار، ولا يمكن قول إن كلاهما قد فشلا على العكس تمامًا فما رغبا به قد نالاه، وانتصرا في مواجهة الموت وصراع الاندثار وهجوم النسيان الذي لا يهرب منه إنسان، والأمر بذات الوقت دعوة للخلود عبر الفن، الوسيلة الوحيدة التي آمن بها بروست ليخلد. إن التاريخ البشري مليء بالأمثلة التي توضح لنا عظمة الفن في تخليد الإنسان وإرشاده على الدرب الذي يمكنه من الخلود وهزيمة الموت، الموت الذي هو الوجه الآخر للنسيان، النسيان الذي يفر منه بروست وسارده، النسيان الذي حاربه باسترداد الزمن وقوة الذاكرة في روايته السباعية.
سلطة الكاتب وسلطة الراوي
إنَّ سلطة الكاتب “بروست” على الراوي الداخلي للعمل “سارد بروست الذي يقص حياته” تبدو جلية، إذ يقصي سارده وتبقى الساحة خالية من سوى بروست الذي لا يُخطئ متتبعا لسيرة حياته من معرفة أن المتحدث هنا هو نفسه، ويبرز هذا في الاستغراقات في الزمن والذاكرة التي يتيه فيها سارد بروست “ظاهريًا” وهي استغراقات بروست الكاتب “حقيقة” عندما كان ينتظر في الصالة حتى انتهاء المعزوفة التي كانت تعزف في الحفلة النهارية. يسرد فيها بروست علاقة الزمن والذاكرة والاستعادة الزمنية وعلاقة الإنسان بالزمن الماضي والحاضر، ويطرح قضايا أدبية أو حتى التعريض بأدباء أمثال الناقد سانت-بوف الذي عُرف بروست لتعريضه المستمر به، وهنا نؤكد على اضطراب الصوت السردي الذي لاحظناه على مدى كتب الرواية السبعة وأن بروست في عدة مقاطع سردية ينسى أن سارده من يجب أن يتكلم فيقصيه وعيًا وذاتًا ويبقيه مظهرًا مفرغًا ثم يملأه بذاته هو ويتحدث بلسانه هو. لكن هذا الراوي الداخلي يُنازع بروست السلطة وينزعها منه ونرى مثالا على ذلك في نهاية الرواية التي يبدأ سارد بروست بالحديث عن نفسه وهو يكتب كتاب حياته، ويشارك القارئ طقوس كتابته، لهذا العمل، وهي اعترافات تضع الختم على تقنية ما وراء القص، التي تطرق إليها بروست عبر سارده في أكثر من مرة، والتأكيد أن هذا العمل الذي يقرأه القارئ هو عمل متخيّل لا أكثر.
الذات الفردية المتعددة
تعدد ذات المرء الذي يبني عليه بروست في هذا العمل الكثيرَ من التحليلات النفسية لشخصياته أو قراءة التغيّر الذي طرأ عليهم يشبه الوقوف في غرفة مليئة بالمرايا تعكس أشكالنا بعدد المرايا، لكن كل مرآة هنا تمثل زمنًا معينًا أو حتى ذاتًا معينة ترتبط بظروف خاصة بها. إن أول تطرق لهذه الذات المتعددة نقرأها في العلاقة مع ألبرتين، وتعدد حيواتها الظاهرية والخفية التي ما فتئ سارد بروست يبحث عن حقيقتها دون جدوى، فخلق لنا ألبرتينات (كما يجمعها سارد بروست نفسه) كثيرات، هذه الألبرتينات هنَّ تعدد لذات بروست، المرايا التي تعكس ذاته، فكما ذكرت في المراجعة السابقة أن ما أميل إليه هو أن ألبرتين هي انعكاس لبروست ونظير له وسارده الذي يقرأ نفسه فيها. تنعكس هذه التعددية في سارد بروست وتبقى بعد أن يتقدم في السن، وتتعدد الأنا، ويبدأ بتميز هذا التعدد، وأجلى توصيف له حين يذكر أن هذه الأنا من تتذكر وتلك الأنا من تنسى، فالتعددية هنا مرتبطة بالزمن والذاكرة والنسيان، التي لا يستطيع أن يخرج من حدودها، والزمن المستعاد الذي قلنا إنه استعادة للذات القديمة التي تعرف ذاك الزمن وتحفظه الذاكرة، هو تكاثر للأنا الواحدة التي نملكها، فكل أنا لها عالمها الخاص، هذه العوالم التي استطاع سارد بروست الوقوف عليها وتمييزها مما جعل التعامل مع زمنه واسترداده والبحث فيه سهل المنال، لأنه يقسم زمن حياته على أقسام مرتبطة بالحوادث والوقائع التي يتذكرها، ولكل قسم أناه الخاصة ولكل حادثة أناها الخاصة، هذه الأنوات التي بتجمُّعِها تخلق ذاتنا الواحدة، ذات النماذج المختلفة في سياقاتها والمتشابهة في جوهرها، بل هي أيضا تمثل الجنس البشري أجمعه الذي يعود إلى أصل واحد، وما تعدد النفوس البشرية إلا تعدد للذات الواحدة التي انبثقت منها.