عنوان شاعري لكتاب أحد أعلام النقد الفرنسي في القرن العشرين رولان بارت، فما الذي توحيه لنا كلمة لذة؛ أي شعور تبعثه فينا، أي أحساس تثيره؟ هل بإمكاننا أن نحدَّ اللذة بحدود تعريفية ممكنة؟ أهي لذة الطعام أو لذة الحياة الهانئة؟ وكيف يمكن أن نشعر بهذه اللذة ونحن نتعامل مع النص؟ ما هو النص وما شكله؟ أهو نص رواية أم قصيدة شعر؟ أسئلة كثيرة نكون بحضرتها ونحن نهرول خلف اللذة، هذه الكلمة التي تُداعب غرائزنا الجسدية، وكأن للنص تأثيره السحري الجسدي فينا، ما دام أن النص بحضرة كل منا فمحال علينا أن نفوت فرصة الاستمتاع به وترك اللذة تهرب من بين يدينا بكل يسر.
الكتاب مقسم إلى قسمين: الأول قصير بعنوان هسهسة اللغة، يتحدث فيه رولان بارت موجزا عن هسهسة الأصوات التي تصدرها الأشياء حولنا كالطبيعة والكائنات ومن مصادر هذه الهسهسة الآلة وما تصدره من صوت يبعث الارتياح في نفس العامل، لأنها تقوم بعملها، فالهسهسة هي الصوت الدال على حسن سير الشيء. لكنه سرعان ما يتساءل هل تستطيع اللغة أن تهسهس؟ وكيف تهسهس اللغة؟ يجيب أن هسهسة اللغة تشكل اليوتوبيا، أي يوتوبيا؟ إنها يوتوبيا موسيقى المعنى. إذًا، فصوت اللغة هو الأثر الذي تتركه معاني الكلمات فينا، الكلمات المكونة للنص، النص الذي هو حقل متعتنا ومصدر لذتنا.
القسم الآخر، لذة النص، وهو الذي ينال النصيب الأعظم من حجم الكتاب الصغير، الكبير الفائدة واللذة. يسترسل في هذا القسم كاتبا إياه باستمرارية غير متقطعة إلى فصول بل فقرات متداخلة، مما يعطي رسالةً بتدفق النص المولد للمتعة واللذة من خلال كونه جسدا واحدا، فعلى الرغم من أن ما كتبه مقسم إلى مواضيع متعددة فإنها متماهية ومتصلة مع بعضها دون أي محطات يقف معها القارئ الذي عليه أن يجاري نسق الكاتب ولا يطيل التوقف عند نهاية كل مقطع. وأولى الخطوات التي يصل بها القارئ إلى اللذة مع النص هي القراءة الثانية إذ يقول: “(يعتقد الرأي العام أنه يكفي المرء أن يمضي سريعا لكي لا يصاب بالملل) إن هذه القراءة الثانية الدقيقة (بكل معنى الكلمة) هي التي تناسب النص المعاصر، نص – النهاية اقرأوا ببطء، اقرأوا كل شيء في روايات زولا، حينها سيقع الكتاب بين أيديكم. اقرأوا بسرعة، اقرأوا مقتطفات من النص المعاصر، فإن هذا النص سوف يغدو مظلما، وسيحرمه حقه في إعطائكم اللذة، أنتم تريدون أن يحدث أمر ما، ولكن لا شيء يحدث، لأن ما يحدث في اللغة لا يحدث في الخطاب: إن الذي يحدث هو الذي “يمضي””. ويضيف: “ما يجب على المرء أن يقوم به لقراءة كتاب اليوم، ليس الالتهام ولا الابتلاع، ولكن الرعي بدقة والجز بعناية: يجب أن يكون المرء أرستقراطيا”.
يبدو ما يقوله جليَّا للقارئ، اللذة التي نبحث عنها في النص تبدأ من القراءة البطيئة المتأنية، وكما يقول كن بقراءتك أرستقراطيا. لكن كيف نميّز نص اللذة؟ يعرّفه فيقول هو النص الذي يرضي، فيملأ، فيهب الغبطة. إنه النص الذي ينحدر من الثقافة فلا يحدث قطيعة معها ويرتبط بممارسة مريحة للقراءة. لكن ما الذي يختلف فيه نص اللذة عن نص المتعة؟ نص المتعة كما يعرّفه بارت هو الذي يجعل من الضياع حالة، وهو الذي يحيل الراحة إرهاقا (ولعله يكون مبعثا لنوع من الملل) فينسف بذلك الأسس التاريخية والثقافية والنفسية للقارئ نسفا، ثم يأتي إلى قوة أذواقه، وقيمه، وذكرياته، فيجعلها هباء منثورا، إنه ليظل به كذلك، حتى تصبح علاقته باللغة أزمة.
النص اللذيذ هو النص الذي تفهمه ويكون نابعا منك، وتجد أنه قريب عنك قربا حميميا لا يثير أي نزاع معك، ويتميز أيضا باستقلاليته التامة فيقول: “إن لذة النص، هي تلك اللحظة التي يتبع فيها جسدي أفكاره الخاصة؛ ذلك لأن أفكار جسدي ليست أفكاري”.
يتفرع الحديث عن لذة النص، ليشمل طرق القراءة والتأثيرات الفكرية والأدلجة التي يمارسها كاتب النص على نصه، فإلى أي مدى يمكنه أن يتحكم بلذة نصه، وما مدى تأثير السلطات على لذة النص، فهذا اللسان المحبر كما يسمي اللسان (الذي ينتج نفسه تحت حماية السلطة) إنما هو لسان مكرر دستوريا، فإن كل مؤسسات اللسان الرسمية، إنما هي آلات لتكرار القول مرارا، تعيد القول البنية نفسها والمعنى نفسه. التشابه والتكرار وأن يكون كاتب النص خاضعا لسلطة عليا، ومجردا النص من حريته واستقلاليته، هي عملية تهجين النص وخلقه في خِلْقة لا تليق به، وكما يقول بارت إن بعضهم يريد نصا (فنا، لوحة) بلا ظل، ومقطوعا عن “الأيديولوجية المهيمنة” ولكن هذا يدل على أنهم يريدون نصا لا خصوبة فيه، ولا إنتاجية، إنهم يريدون نصا عقيما. ويؤكد لا توجد أطروحة عن “لذة النص” بإمكانها أن تكشفه كشفا كاملا، وكل ما يدور حول لذة النص لا يتعدى أن يكون تفتيشا “استبطانا” وهو يدوم طويلا. فيالها من غبطة نقية! ومن النصوص التي يجد فيها بارت اللذة في القراءة هو نص قصة صرّازين لبلزاك والتي كتب فيها دراسة نقدية وأدبية وفكرية وسيميائية ونشرت في كتاب س/ ز. يقول: “إنني في كل مرة، أحاول فيها أن “أحلل” نصا منحني اللذة، فإن ما أجده ليس “ذاتيتي” إن ما أجده “فرديتي” ذلك المعطى الذي يجعل من جسدي منفصلا عن الأجساد الأخرى. فيملِّكه ألمه، أو يملِّكه ذاته: إن ما أجده هو جسد المتعة. وإن جسد المتعة هذا، هو أيضا ذاتي التاريخية. وأما عن دور نظرية النص في التعامل مع لذة النص، فيقول إن مكان اللذة في نظرية النص ليس مؤكدا، ولكن سيأتي يوم، نشعر فيه بضرورة الإسراع بفتح النظرية قليلا، وبنقل الخطاب، واللهجة التي تتكرر وتتقوى لنعطيها هزة السؤال، ألا أن اللذة هي السؤال.
لذة النص لا تعتمد على النص وحده، فالقارئ (كلما ازدادت ثقافته؛ تعاظمت اللذة عنده وتنوعت)، فلذة النص يمكن أن تعرف نفسها عبر الممارسة (من غير أن تتعرض لأي خطر من أخطار القمع). أطلق حرية النص، حرر نفسك من أي قيود قد تحرمك من اللذة، واهنأ بلذة نص لا تنتهي.