ترجمة: مؤمن الوزان
من كتب أول قصيدة حداثية إنجليزية؟ متى وأين كُتبت؟ ثمة العديد من الترشيحات، وأسوأ ما يمكن اقتراحه هو تفضيل آخرَ على “ت. ي. هيوم الذي كتب قصيدة “غروب شمس مدينة في عام 1908، على ظهر فاتورة فندق”. ويمكن ضّمُّ هيوم مع حفنة من الشعراء ليشكلوا مخططًا لأسماء شعراء الحداثة. لـ”شعر الحداثة” سمات يمكن تميزها بسهولة كـ: الإيجاز، دقة اللغة، البيان غير الصريح والمباشر، انعدام القافية، المواضيع اليومية والعادية، وبهذه السمات نحصل على هيوم وآخرين. لهيوم شخصية ذات جاذبية خاصة وفي كل الجوانب فعليًا، فقد كان بطول ستة أقدام، وبتقاسيم وجه قرمزية، ورغبة بالجدال مع أي شخص (وفي مشاجرتهم، وخاض عراكًا شهيرًا بالأيدي مع Wyndham Lewis في ساحة سوهو)، انحدر هيوم من ستافوردشاير، الريف الذي أخرج للعالم قبل قرنين كاتبَ رسائلَ جذَّاب آخر وهو الدكتور جونسون. قضى في بداية عشرينياته مغامرة قصيرة في لندن، ورحل إلى لندن، حيث أسسَّ “نادي شعر” وجادل الناس، وأكل الكثير من الحلويات (لم يشرب الكحول قط، وليس بمدخنٍ، مفضلًا عليهما أكلة suet pudding ودبس السكر)، وكتب في نشاطه العارم “بيان الشعر الحديث”. نال عزرا شرف الإعلان عن هذا، بعد تأسيس الحركة التصويرية رفقة آخرين، وقعَّد في مقالته A Few Don’ts by an Imagiste بعض قواعد شعر الحداثة، التي صاغها هيوم قبل خمس سنوات سلفًا. تشارك هيوم وعزرا في تأسيس التصويرية الشعرية، على الرغم من أن عزرا سيزيل دور هيوم بقسوة الذي لعبَ دورًا في تشكيل التطبيق التصويري الشعري. وبالعودة إلى تاريخ أول قصيدة حداثة كتبها هيوم، فلا مجال للتردد في تحديد تاريخها الكائن في السادس والعشرين من شهر أيّار/ مايو عام 1908 على ظهر فاتورة فندق، بدأ بها هيوم بإبداع مفهوم جديد للشعر، مبنيٌ على الوضوح، والدقة اللغوية، والتي سيطلق عليه عبارات مثل “جاف، وقاسٍ، وشعر كلاسيكي”. تُقرأ القصيدة “غروب شمس مدينة” كما لو أنها تفكير شاعرٍ بصوتٍ مسموع، ومألفةٌ كما يمضي شاعرها في البحث عن لغة جديدة، والذي ادَّعى أن العديد من قصائده كانت ارتجالية، ومنظومة من أجل موضوع عابر، تاركًا الصور تتنزل طبيعيًا إليه. تتألف “غروب شمس مدينة”:
فاتنٌ -إغواءُ الأرضِ- بأوهامٍ سامية
غروبُ الشمس الذي يسود في نهاية الشوارع الغربيّة
توهجُ سماءٍ مفاجئ
مربكٌ بغرابةٍ للمارِّ
برؤى سيثارا
-غريبٌ على الشوارعَ المديدة-
أو باللحم الناعم للسيدة كاسلماين…
***
جَذَلٌ قرمزيٌ
هو البهاءُ المنتشرُ للسماء
خادمُ العلياءِ المَرِح
تَبخترُ أذيالِ ثوبٍ أحمرَ
طوالَ أسطح المدينة الراسخة
وقت عودة العامةِ إلى المنزل
خادمٌ مغرور، وباقٍ، يأبى الذهاب
ابتدأ هيوم كتابة قصيدة بقافية ثنائية (Conciets/أوهام وStreets/ شوارع، وPasser by/ المار، Sky/ السماء) ثم تبنّى تطبيقًا جديدًا من الشعر الحر -ابتداءً من جذلٌ قرمزي- في قصيدته، بكتابة سطور غير مقفّاة متجنبًا فيها بحور الشعر المعتادة، وبنيوية الشعرية المقطعية، والتي ستوصف لاحقا من قبل روبرت فروست بصياغة لا تُنسى “مثل أن تلعبَ التنس والشبكة على الأرض”. من هذا التساقط الحر للسطور تبرز صورةٌ أو زوجان من الصور هما غروب الشمس، مجاز شعري تقليدي، مربوطًا بثوب امرأة حمراء برفرف على قمم المنازل. من جذر هذه الفكرة الواضحة، تطوّرت قصائدُ أخرى مثل “الخريف” التي يرتبط القمر فيها بوجه فلاح أحمرَ، و”فوق رصيف الميناء” التي يظهر القمر مجددًا لكن هذه المرة كبالونة طفل، و”الجسر” حيث سماء مزدانة كليا بالنجوم مرتبطة ببطانية قديمة تآكلتها العثة تائقةً بحزن لشخص ما ينام على مضض فوق شاطئ نهر التايمز. في كل قصيدة من هذه القصائد القصيرة صورتان -واحدة مرتبطة بلا نهائية السماء والعلياء، والأخرى مرتبطة بمظاهر الحياة اليومية الصغيرة- ينضمان لبعض معًا، كما لو أن هيوم في بحث لجلب الفضاء اللا محدود للشعر التقليدي إلى الأرض. وهذا بالضبط، كان أول فعل شعر الحداثة بتطبيقه على شيء ما غير ملحوظ، والحياة اليومية، مثل فاتورة فندق (كتب هيوم قصيدة أخرى على ظهر بطاقة بريدية). تشبه هذه القصائد القصيرة شعر الهايكو الياباني، الذي خَبِره عزرا بعد سنوات قلائل. ومنحت تجارب هيوم النهضة للتصويريّة، التي كانت الشعر الحقيقي الأول الذي يتعامل مع قضايا الحياة اليومية: وغالبًا ما تناولت التفاصيل العادية للعالم المعاصر، مثل الانتقال عبر الميترو، والمشي في شوارع لندن، ومراقبة الحشود وهي تغادر صالات السينما. ويسبق الشعرُ التصويري بعقدين من الزمن قصائدَ لـ Pylon Poets التي ذاع صيتها في ثلاثينات القرن العشرين. وبزَّت واحدة من قصائد هيوم القصيرة قصائد الهايكو الشعرية* بإيجازها إذ تتألف من ثماني كلمات: “كانت المنازلُ القديمة سقّالةً ذات مرة/ وصفيرُ عُمّال”. إن شبكة الأصوات فيها معقَّدة ومعتنًى بها، فكلمة “قديمة” تحظى بدعم من “سقّالة” التي تغلِّف الكلمة، في حين تعاودُ “كانت” الظهور في “عمَّال” حيث ترتبط الصورتان معًا عبر قافية داخلية وصدًى. وبالطبع فثمة ساحل شعري حداثي بديل يمتاز بكونه أكثر غموضًا وتلميحًا كما في أسلوب ت. س. إليوت، وجيوفري هِل- لكن الفكرة الأكثر شيوعًا لـ”الشعر الحداثي” بلا شك فكرةُ هيوم التي سادت التخيُّل الشعبي. اقترح كارول آن دوفي في عام 2011 بأن القصائدَ شكلٌ من أشكال الرسائل النصيّة للُغتها غير الراقية وإيجازها: مقارنةٌ مُوحية للشاعر الذي يمنحنا “نصًا” ربما يكون أول قصيدة جديرة بالملاحظة حول خبرة المراسلة النصيّة. لكن الشعر الإنجليزي كان قد نما سلفًا نحو صغر الشكل قبل مئة عام، قبل الهواتف الجوّالة وعوالم الرسائل النصيّة بكثير. فكّر هيوم بأن على الشعر أن يكون قصيرًا حتى يستطيع الشخص العادي قراءته وتقديَّره في الترام وهو في طريقه إلى العمل أو أثناء جلوسه على الكرسي بعد العشاء. ترك هيوم لنا حفنة من القصائد التي سيشيد بها ت. س. إليوت بأن “اثنتان أو ثلاث من أجمل القصائد القصيرة في اللغة”. أنزلَ الشعر من عليائه لكن ما حققه بعيد كل البعد عن الضآلة، فقد ساعد في إبداع شعر الحداثة كما نعرفه اليوم.
* يتكون الشعر الهايكو من بيت واحد مكون من سبعة عشر مقطعا صوتيا، يكتب بثلاثة أسطر، يتألف السطر الأول من 5 مقاطع صوتية والثاني من 7 والثالث من 5. المترجم.