الحكاية الإطارية في كليلة ودمنة
هي حكاية واحدة تضم مجموعة من القصص الداخلية، ليس بينهما أي رابط، فهذه القصص قائمة بذاتها ببنيتها وحبكتها وموضوعها وشخصياتها.
إنَّ الحكاية الإطارية في كليلة ودمنة هي من إبداع ابن المقفع، الذي يجعل من بَيْدبا الفيلسوف الهندي وحواره مع الملك دبشليم حكاية تضم القصص الأربعة عشر الداخلية يرويها ديبيا على الملك. ويعد العرب أول من وضع هذا الأسلوب الأدبي في تجميع القصص عبر ابن المقفع، وهو أول من استخدم الإطار الحكاياتي بهذا الشكل وإن ظهر سابقا في أعمال مثل المهابهاراتا والأوديسة والرامايانا والحمار الذهبي، إذ تقص الشخصيات قصصها أو بعض ما وقع لها على شخصيات أخرى. لكن يمكننا تميز الحكاية الإطارية وقصصها التي ظهرت مع ابن المقفع بسمات ظهرت لاحقًا في ألف ليلة وليلة وقصص كانتربيري والديكاميرون:
١- الحكاية الإطارية هي حكاية تطغى فيها الغاية الفنية التجميعية الإطارية على باقي غاياتها، فيظهر دورها كأنه في التجميع لا أكثر. ولا ينفي ذلك غاياتها الموضوعية أو أو خصائصها الفنيّة الأخرى أو السردية.
٢- الراوي ليس جزءا من قصصه. إن من يقص هذه القصص مفارق لقصصه، فهو لا ينتمي إليها زمنًا ولا مكانًا وليس جزءًا من الحدث حتى. ووظيفته القص فقط.
٣- القصص الداخلية هي الأساس. إن المقصد في كليلة ودمنة هي قصص الحيوان لا قصة الملك وبيدبا، لذا فإن مادة العمل الرئيسة تتمثل وتتركز في القصص المروية.
يمكن أن نعدَّ هذه السمات هي التي تجعل من الحكاية الإطارية إبداعًا خاصًا بابن المقفع. فمثلا تظهر الحكاية الإطارية في رواية الحمار الذهبي، لكنها ليست إطارًا جامعًا بل تتركز في رحلة الحمار ومغامراته وما يشهد ويُقصُ عليه أو يقصه، وكذلك فإن القصص الداخلية ليست الأساس بل رحلة الحمار هي الأساس. وكذلك تظهر في المهابهاراتا حين ينشد فياسا على الإله غانيشا ملحمة المهابهاراتا، وهنا نجد أن الحكاية الإطارية قد استوفت السمة الأولى والثانية لكنها لم تضم بداخلها قصص متعددة بل قصة واحدة متطورة ومتشعبة تخص الملك شانتو وذريته. وتظهر كذلك في الأوديسة، حيث يأخذ أوديسيوس دور القاص لا سيما ما قصه على ملك الفياكيين بعد أن وصل إلى جزيرتهم في محطته الأخيرة قبل الوصول إلى إيثاكا، وهنا كذلك الحكاية الإطارية ليست إطارًا بل قصة رئيسة متمثلة برحلة العودة، وأوديسيوس هو جزء من قصته وليس مفارقًا لها، وتظهر السمة الثالثة لكن القصص هنا ليست متفرقة ولا يربطها رابط فالرابط موجود وهو أوديسيوس ورحلة العودة المحفوفة بالمخاطر. لكننا نرى في أعمال لاحقة، مثل ألف ليلة وليلة، أن الحكاية الإطارية في حكاية الملك شهريار وشهرزاد التي تقص عليه قصصًا مختلفة لا يربطها رابط، ولا تجمعها شخصية، والقاصة مفارقة لقصتها. وانتقل هذه التأثير الإطاري إلى آداب الأمم الأخرى. تقول كاثرين سلاتير جيتيز في كتاب “قصص كانتربيري والإطار التقليدي العربي” بأن الحكاية الإطارية في كتاب “كليلة ودمنة” عن الأصل الهندي المعروف بـ”بانجاتنترا” هو إطار عربي أضافه ابن المقفع أثناء تعربيه للكتاب(١). وتعد نسخة ابن المقفع النسخة الأصل الوحيدة التي بقيت من كتاب بانجاتنترا، بعد أن فُقدت النسخة الفهلوية والسنسكريتية، وكل النسخ السنسكريتية الموجودة هي مترجمة عن النسخة العربية لابن المقفع. وتضيف العرب لا الهنود هم أول من وضع هذه القصص داخل إطار. ونجد أن تجميع عدة مواضيع في إطار واحد موجود في القصائد العربية، التي تتنوع مواضيع أبياتها ما بين الوقوف على الأطلال وذكر الحبيبة والمفاخرة وذكر أيام قبيلة الشاعر، إلخ. اطّرد هذا الأسلوب “الحكاية الإطارية” فظهر في قصص ألف ليلة وليلة ثم انتقل إلى الآداب الغربية. مع الجدير بالذكر أن الآداب اليونانية كانت تعنى بالوحدة الموضوعية وأن يكون العمل (ملهاة أو مأساة) ذا وحدة موضوع. وكان أول من نقل الحكاية الإطارية إلى الآداب الأوروبية هو الإسباني بطرس ألفونس في القرن الثاني عشر ميلادي، حين جعل كتاب كليلة ودمنة نموذجا لبناء كتابه “التأديب الكهنوتية”. وبعد رحيله إلى إنجلترا أصبح الرابط بين ثقافتين إسلامية ومسيحية، وتأثر به بوكاشيو في كتابه “الديكامرون” وهو مجموعة قصص يرويها شبّان وبنات. وكذلك الإنجليزي تشوسر، وكما تذكر جيتز، “قد أشار تشوسر إلى بطرس ألفونس وروايته خمس مرات في حكايات كانتربيري”. (٢) وبهذا يعدُّ العرب أول كتب الحكاية الإطارية في الآداب العالمية وأول من استخدم أسلوب التجميع عبر كتاب كليلة ودمنة الذي نقله إلى العربية ابنُ المقفع.
السرد وتقنياته في كليلة ودمنة
للسرد مستويان رئيسان في حكايات كليلة ودمنة، فالمستوى الأول وهو الإطاري، متمثل بقص ديبيا حكاياته على الملك دبشليم. ولهذين الشخصيتان قصة سابقة حين نصح ديبيا الفليلسوف دبشليمَ الملكَ بسبب سوء حكمه وتصريفه لشؤون رعيته فعاقبه بالحبس وبعد أن ندم أخرجه من السجن وأكرمه وأعلى منزلته، وطلب منه بعدها كتابة كتاب يرفع ذكره ويحفظ اسمه كأسلافه الذين ضمَّت مكتبة الملك كتبهم، فكان نتيجة لذلك هذه القصص. فكما يتضح هنا، أن الحكاية الإطارية من إبداع ابن المقفع إذ إن هذه المحاورة والمسامرة بين الرجلين ليست في الحقيقة من أصل النص القصصي، وما حوار الفيلسرف والملك إلا حادثة خارجية جعل منها ابن المقفع حكاية حاوية لقصص كتاب ديبيا. وهنا يتشكل المستوى السردي الأول في قصص كليلة ودمنة، فديبيا فهو السارد الأول للقصص وبذات الوقت هو المؤلف لها، لكن السارد الرئيس الخفي فهو ابن المقفع الذي يقص حكاية ديبيا والملك. (ثمة تداخل ما بين عالم السرد المتخيل وعالم التأليف الحقيقي بفضل إبداع ابن المقفع الأسلوب الإطاري). أما المستوى السردي الثاني فهو متمثل بقصِّ بعض شخصيات الحيوانات لقصص ثانوية على الحيوانات الأخرى في القصص الرئيسة، وهكذا في متوالية سردية قصصية وصلت فيها مستويات السرد إلى المستوى الرابع.
١- سارد رئيس (ابن المقفع) يقص حكاية ديبيا والملك في مستوى سردي أول.
٢- سارد أول (ديبيا) يقص قصصه على الملك دبشليم في مستوى سردي ثانٍ.
٣- سارد ثانٍ (الحيوانات “الشخصيات الرئيسة”) تقص قصصها على حيوانات أخرى في مستوى سرد ثالثٍ.
٤- سارد ثالث (حيوانات “الشخصيات الثانوية” في قصص ثانوية داخل القصص الرئيسة) تقص حكاياتها على حيوانات أخرى في مستوى سردي رابع.
وهكذا فإن مستويات السرد تأخذ منحنى سردي تنازلي ثم تعود لتأخذ منحنى تصاعدي تنتهي بمستوى السرد الأول.
(1) (2) موسوعة السرد العربي (ج٢) – د. عبد الله إبراهيم.