التراث الأدبيالتراث العربي

ألف ليلة وليلة؛ ثنائية الحكاية والموت

حظي كتاب ألف ليلة وليلة بمنزلة كبيرة في القرون السابقة، لا سيما بعد ترجمته إلى الفرنسية من أنطوان غالان في القرن الثامن عشر، وصارَ كتابًا عابرًا للقارات والثقافات بتأثيره الأدبيّ والفنيّ. تعود أول إشارة موثقة حول كتاب ألف ليلة وليلة كما يشير الباحثون، من بينهم د. عبد الله إبراهيم، صاحب موسوعة السرد العربي، في كتابه النثر العربي القديم، إلى نص المسعودي في النصف الأول من القرن الرابع الهجري في حديثه عن كتاب ألف ليلة وليلة: “إنَّ هذه الأخبار موضوعة من خرافات مصنوعة، نظمها من تقرب إلى الملوك بروايتها، وصال على أهل عصره بحفظها والمذاكرة بها، وإن سبيل تأليفها مما ذكرنا مثل كتاب هزار أفسانه، وتفسير ذلك من الفارسية إلى العربية ألف خرافة، والخرافة بالفارسية يقال لها أفسانة. والناس يسمون هذا الكتاب ألف ليلة وليلة. وهو خبر الملك والوزير وابنته وجاريتها وهما شهرزاد ودينازاد، ومثل كتاب فرزة وسيماس وما فيه من أخبار ملوك الهند والوزراء، ومثل كتاب السندباد، وغيرها من الكتب في هذا المعنى”. ويذهب د. عبد الله إبراهيم في تحليله لنص المسعودي إن تأليف كتاب ألف ليلة وليلة ’قد تم على غرار الكتب المنقولة، وعلى نحو أدق فإن سبيل تأليفها هو سبيل تأليف كتاب هزار أفسانة‘ وأن ما يورده المسعودي في نصه يوحي إلى وجود أكثر من كتاب أحدهما مؤلف عربيا والآخر فارسي. وينتهي الدكتور إلى “إنَّ نص المسعودي يرجح أنه كان يضاهي كتابًا في الخرافات، هادفًا إلى التعريف به بكتبٍ نقلت إلى العربية وأصبحت معروفة في القرنين الثالث والرابع”. وثمة إشارات أخرى قديمة عن كتاب ألف ليلة وليلة كذلك لدى ابن النديم في “الفهرست”، وأبي حيان التوحيدي في “الإمتاع والمؤانسة”، والمقرِّي. وتدل هذه الإشارات إلى قِدم كتاب ألف ليلة وليلة وأنَّ للمؤلف وإن كان عربيًا “بمحتواه القصصي” فإنَّ ثمة أصولًا له أقلها في الإطار العام “قصة شهرزاد وشهريار” وعدد الليالي أو الخرافات، وكذلك التأثيرات التي نُسجت منها القصص وهذا ما يدعمه متن بعض القصص إذ التأثر بالمبالغة الهندية في الأعداد والإغراق في الشجاعة لدى الأبطال. 

تبقى أولى نسخ ألف ليلة وليلة محط اختلاف وشك ولم يُتفق عليها بتاتًا ويذكر د. عبد الله “إنَّ الكتاب قد نجح في اجتذاب الخرافات والحكايات الشعبية المتداولة في القرون الأولى، فضلا عن كتب الأخبار العربية، وربما تقدم خرافات الحيوان التي وردت متعاقبة في الكتاب، والأخبار العربية التي وردت هي الأخرى معا في مكان آخر، وحكايات الوعظ، والخرافات ذات الجذور الإسرائيلية التي يضمها مكان آخرـ دليلًا على اندغام خرافات ذلك العصر. يضاف إلى ذلك دخول حكاية خرافية هندية معروفة هي “سندباد الحكيم” اتَّخذت عنوانا جديدا “حكاية الملك وولده والجارية والوزراء السبعة”، والحقت به سيرة شعبية من غير نوع الخرافات هي “حكاية عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان” وشغلت جزءا منه، وبعض قصص البحار التي لا نعرفها إلا النسخ المتأخرة من حكايات السندباد”. 

يمتاز كتاب ألف ليلة وليلة، كما يرى سعيد الغانمي، بأنه كتاب قائم على التهام الكتب الأخرى، واستيعابها، فتغدو جزءًا منه، كما أنه منفتح على الأصناف الأدبية المختلفة مما يصيّره معتمدًا أدبيا قائما بنفسه، وهو في تجدد مستمر بعد كل رواية ونسخ وقراءة، لكن هذا التجدد توقف عند طباعته. وجرى تسابق وتنافس بين رواته ونُسّاخه في أن تكون روايتهم أو نسختهم تبزُّ التي قبلها وتفوقها، وانتقلت هذه التنافسية بين مترجميه إلى اللغات الأخرى، فكل ترجمة تحاول أن تفوق سابقتها، وهذا ما نراه في الترجمة الفرنسية والإنجليزية. كما أنَّ كلَّ نسخة من الكتاب أصلية ومزوّرة في الوقت نفسه. ولعل أخطر ما حدث لهذا الكتاب أنه بعد ترجمته إلى اللغات الأوروبية وشيوعه بين أدبائها وقرَّائها استطاع الولوج إلى المعتمد الأدبي الغربي والذاكرة الثقافية الشعبية، أي إنه توطّن هناك وصار جزءًا منهم لا دخيلا عليهم. إنَّ العملية التأليفية المستمرة باختلاف العصور التي مرَّ بها كتاب ألف ليلة وليلة تجعله يحمل من كل عصر سماته وحكاياته، وهو يكشف عن مدى القيمة المنوطة به مثل عربة قطار انطلقت عبر الزمن منذ أول محطة غادرتها شهرزاد وشهريار، وفي كل محطة زمنية يصل إليها يوجد راكبٌ/ مؤلفٌ يصعدها ويضع لمسته ويستقر في مقعده دون أن يعرفه أحدٌ عابرًا إلى محطة زمنية لاحقة وهكذا تباعا؛ إنه سجل أمة وأمم وخزانة أدبية لشعوب وعصور وبلدان وأشخاص وحقائق وخيالات وأحلام ورؤى ومؤلفين وجدوا فيه حقل إثبات الذات، ربما لم يجدوا وسيلة ليخلدهم الزمن إلا بمنح صوتهم إلى صوت شهرزاد، أن يسلِّفوها قصتهم إلى الأبد، أن يجعلوها تطيل لياليها مع شهريار، وبمنحهم إياها أصواتهم يمنحوها لياليَ إضافية وحياة. إنَّ كتاب ألف ليلة وليلة هو عربة قطار تسافر إلى المستقبل وتعود إلى الماضي في الآن نفسه، ففي الوقت الذي يُخلِّد أحدهم قصته في ليل شهرزاد فهو يعود إلى الماضي لينقذها، كل يد تُمد إلى هذا السِّفر ترسم ليلة وتغير مُجريات الماضي وتُنقذ شهرزاد التي تُنقذ شهريار على أمل الخلود، فهل خلد هؤلاء وما أهمية الخلود في ظل شهرزاد والانحباس في صوتها إلى الأبد فيتلاشون في صداه ولا يبقى صوت إلا صوت الشهرزاد.

شهرزاد تنجو من الموت 

يبدأ كتاب ألف ليلة وليلة بقصة شهريار وأخيه شاه زمان إذ يُفجع الاثنان بخيانتي زوجتيهما مع عبيدهما، ليقررا الخروج للسياحة في الأرض، وفي أثناء رحلتهما يلتقيان بامرأة خطفها عفريت وحبسها في قارورة، فإذا ما أخرجها العفريت عند نومه من القارورة خانته مع الرجال. ولما رأيا مصيبة الجنيّ هانت عليهما مصيبتهما، فأقفلا راجعين. لكن عادَ شهريار بجرحٍ غائرٍ في صدره، وحقدٍ دفين على النساء. قرَّرَ أن يتزوج عذراء كلَّ يومٍ وبعد أن يواقعها ليلًا ويأتي عليهما الفجرِ يُسلِّمها لوزيره ليقتلها. بقي على هذا الحال ما بين زواج وقتل حتى ندبتْ شهرزاد، ابنة وزيره، نفسها إلى هذه المَهمة العسيرة. واستطاعت بقصصها على مدار ألفِ ليلةٍ وليلة أن تُنقذَ نفسها وتشفي شهريار من علَّته. لكن ما سبيلها إلى هذه النجاة ؟ إنَّ نجاة شهرزاد من الموت المحتَّم الذي ذاقته جميع عذارى مملكة شهريار بدا لا فرار منه بشتَّى الوسائل في أول أمره، لكن شهرزاد كان لديها رأي مختلف، فجعلت من القصص التي تقصها على الملك شهريار المتعطش للقتل والانتقام الذي لا يروى- تؤجل قتلها ليلة بعد أخرى. بغض النظر عن العدد الحقيقي لللّيالي التي بقيت فيها شهرزاد تقص قصصها فيها (وبغض النظر عن عدد القصص الأصلية كذلك) فقد اتبعت منهجية في موضوع قصصها، وفي أسلوب قصها، أسست بفضلهما طريق النجاة والخلاص وصرف شهريار عن فكرة قتلها. كان أول ما طرقته شهرزاد في الشطر الأول لخطة نجاتها، أي نوع مواضيع قصصها، أنَّها بدأت بـ:

– قصص تحكي عن نجاة الشخصيات أو تأجيل موتها بقص القصص

بفضل هذا الموضوع القصصي تبدأ شهرزاد بنسج درع خفي لها يؤجل موتها في صباح اليوم التالي إلى يوم آخر بأسلوب غير مباشر تتولى فيه شخصياتها الدفاع فيها عن نفسها والدفاع عن شهرزاد الراوية، لذا فإن شخصيات هذه القصص لا تدافع عن نفسها بل وعن مبدعتهم أيضًا. لا تريد شهرزاد أن تكون في موضع دفاعٍ عن نفسها مباشرة، بل في أن تكون نجاتها في مستوى آخر يخاطب لا وعي المستمع الذي هو شهريار هنا. فشخصيات قصصها في الوقت الذي تخاطب فيه العفريت أو الأمير أو الملك أو أيَّ شخص مسؤول عن موتها فهي تخاطب أيضًا شهريار أيضًا، فتكون مهتمتها مزدوجة ونتائجها مزودجة، كل هذا وشهرزاد تبدو أنها مجرد راوية لهذه القصص ليس لها علاقة بكل النتائج المترتبة عليها. وبعد أن تنهي شهرزاد المرحلة الأولى من صرف نظر شهريار عن فكرة قتلها فلزاما عليها أن تنتقل إلى مرحلة جديدة تؤمن فيها الشوط الأول الذي قطعته وتمثلت المرحلة الثانية في:

– قصص ذات مواضيع شائقة وغرابيات وعجائب

إنَّ القصص ذات مواضيع لم تطرق من قبل مسامعَ شهريار تجعله في توق دائم للاستزادة منها ومعرفة المزيد والمزيد، لقد راهنت شهرزاد على رغبة المعرفة لدى شهريار، رغبة معرفة المجهول الذي لا يمكن له أن يعرفه من سواها، لقد جعلت من الأخبار ذات الطابع الخيالي، وما وراء الطبيعي، وذات الجموح الفكري، الطُعمَ الذي مدته فتناوله شهريار بكامل إرادته دون أن يشبع من قصة حتى يكون في انتظار الأخرى، وهكذا أصبح الآسرُ أسيرًا والمأسورةُ آسرةً بفضل القصص. نرى نتائج هذين المرحلتين في القصص في إبداء شهريار في نفسه ندمه على ما ارتكب من القتل في كما في الليلة 148، وفي طلبه مواضيع محددة في ليلتين 151 و 152. لا يمكن التأكد من أنَّ هجره لموضوع قتلها وإبداءه الندم على ما فعل، وفي طلبه منها قصصا في مواضيع محددة، أنها من أصل القصة الأصلية وليست مضافة من فعل الرواة والنسَّاخ، لكنها في الحالين تكشف لنا عن تطوُّر في علاقة شهرزاد الراوية وشهريار المروي له، وكيف أنَّ لهذه القصص ومواضيعها الدور في كسر شهوة الدم لدى شهريار وميله إلى شهرزاد فقد أحبَّها قاصة وأنيسة له، وأحبَّ قصصها وانطرب لها، وأُعجب بعقلها ومقدرتها على القصِّ ليطلب مواضيع محددة عرف أنَّه لن يجدها لدى غيرها. 

إنَّ هذين الشوطين اللذين قطعتهما شهرزاد لن يأتيا ثمارهما المرجوة دون الضلع الثالث والشوط الأخير الذي لا بد أن تُعلن فيه لا نجاتها فقط من الموت، ولا حتى صرف شهريار نظره عن قتلها، وقتل عذارى مملكته، وأنَّه أخطأ في الانتقام من أشخاصٍ لا جريرة لهم، بل وفي النقطة الأهم -التي من دونها لن تشعر شهرزاد بالرضا- المتمثلة في جعل شهريار يقع في غرامها ويعشقها بفضل:   

– قصص ذات مواضيع حب وغرام وأخبار العشَّاق، وما أصابهم من من لوعة الحب والفراق ونشوة اللقاء

لم تكتفِ شهرزاد بما وصلت إليه من ثمار لياليها القصصية من شهريار في النجاة وإنقاذ عذارى المملكة، بل لا بد من علاج شهريار من هذه الآفة التي أصابته، وبما أنَّ شهريار جرحت كرامته بخيانة زوجته له مع عبيد وجوارٍ في حفل إباحي جماعي فإنَّ كرامته انبغى أن ترمم وتُصان عن طريق المرأة أيضًا، لكن شهرزاد أذكى من أن تعرض نفسها على الملك حتى وإن كانت زوجته، لأنها تعرف أنه تزوجها ليقتلها في اليوم التالي. لذا فقد اتبعت ذات المنهاج الذي سلكته في الشوطين الأول والثاني؛ نجاة ثم استمالة ثم إيقاعه بغرامها عن طريق قصص تناولت مواضيع العشَّاق فعملت على إيقاد روح العاشق في نفس شهريار، هذا الإيقاد لا بد له من مَوْقَدٍ ومُوقِدٍ، وهذا المَوقِد كان قصصَ شهرزاد والمُوقِدُ شهرزاد نفسها. اتسمت قصص العشَّاق التي قصتها شهرزاد ذات حبكات رئيسة متشابهة تقريبا تمر بمراحل التعرَّف، ثم الوقوع في الحب من طرف واحد أو اثنين، ثم الالتقاء -برغبة الطرفين أو رفض أحد الطرفين- ثم الاجتماع، ثم الفراق لسبب ما أو مكيدة، ثم لم الشمل وحياة سعيدة حتى الموت. 

ففي الوقت الذي كان ينشغل فيه شهريار بالاستماع والاستمتاع بقصص الحب كانت شهرزاد تُداعب مشاعره وعواطفه، وتُشعل نار الحب في قلبه، وهكذا ليلة بعد أخرى وقصة بعد أخرى تكتمل الأشواط الثلاثة بأهدافها المختلفة والخاصة بكل مرحلة لتحصد شهرزاد ثلاث نتائج هي: 

– إنقاذ نفسها وبنات مملكتها. 

– إنقاذ شهريار من نفسه ونزعة الانتقام من النساء. 

– فازت بقلب شهريار فأحبها وعاش معها بعد أن تحقق لها ما سعت إليه. 

لكن هذه الأشواط الثلاثة ذات مواضيع النجاة في القصص، والإثارة والتشويق، والحب والغرام، لم تكن لتكتمل لو لم تتبع شهرزاد أسلوبَ قصٍ خاصٍ يضمن لها البقاء ليلة إضافية كل مرة. لذا تمثَّلتْ صفات أسلوبها الرئيسة في: 

– القص في الليل فقط

كانت شهرزاد واعية بمشاغل الملك شهريار الصباحية وواجبات ملكه لذا فكان لزاما عليه أن يخرج للحكم فوق تخت ملكه عند طلوع الصباح، وعليها أن تستغل وقت السكينة والهدوء وانعدام المشاغل والشواغل، فتبقى هي سيدة الليل التي تقص قصصها دون اعتراض أو إزعاج. لكن هل تكفي ليلة واحدة لقصة واحدة أو قصتين أو أكثر؟ ستكفي ليلة واحدة أو شطر ليلة لو كان غير شهرزاد من يتولى القص لكننا نتعامل مع امرأة ذكية حاذقة تعرف ماذا تفعل؟ 

– ليلة واحدة لا تكفي لإنهاء القصة 

جعلت شهرزاد الليل يمضي والصباح يطلع قبل أن تُنهي قصتها، أو تنتهي قصتها قبل طلوع الصبح وتشوُّق شهريار للقصة التالية التي يطلع الصبح ولم تبلغ نهايتها بعد وهكذا تواليا. يلعب عنصرا التشويق والزمن لدى شهرزاد دورًا جوهريًا في قصها، فهي تراهن على إثارة شهريار وتشويقه وطلبه المزيد من القصص، أو إكمال القصة التي بدأتها وتوازن ما بين التشويق والزمن المتمثل هنا بطلوع الصبح، أو نهاية القصة والليل ما زال مُسدلًا ظلمته عليهم، فلا أهمية لعنصر التشويق لدى شهرزاد إن لم يكن مرتبطًا بطلوع الصبح، فالقصة عندما تصل إلى نقطة معينة تحتاج إلى تكملة ويطلع الصبح فهي تتوقف، وتجعل من شهريار ينتظر إلى الليلة الأخرى مانحًا إياها يومًا إضافيًا في عمرها، وهكذا تبقى تلعب على وتري التشويق والزمن حتى تصل إلى مرادها.   

– تكرار مواضيع القصص وإطالتها 

هل كان لشهرزاد أن تنال ما نالته وتصل إلى النتائج التي وصلت إليها لو لم تكرر مواضيعها الرئيسة الثلاثة وتُطِل حجم قصصها لتأخذ أكبر عدد ممكن من الليالي حتى تنتهي؟ لا يبدو هذا محتملًا لو اكتفت بقصة أو اثنتين من كل موضوع، بل أكثرت من القصص ونوَّعت في أحداثها مع أنها تصبُّ باختلافها في مجرى واحد، فكان لتكرار المواضيع عمل المطرقة التي تنزل فوق رأس مسمار، فكل موضوع مكرر تُثبِّته في نفس شهريار وتضع فوقه خيطًا، وتجرُّه ثم تطرق بقصصها فوق رأس موضوع المسمار الثاني، وتُوصل الخيط إليه، وتلفه، وتجرُّه نحو المسمار الأخير، لتطرق فوقه بتكرار قصصها، وتوصل له رأس الخيط الثاني، وهي بهذا التكرار/ الطرق تثبَّت المواضيع/ المسامير في نفس شهريار، فإن لم تكتمل صورتها في نفسه بالخيط والمسامير لن يسهل على شهريار التخلص من أثر هذه القصص في نفسه. تُراهن شهرزاد على أنَّ التكرار سيؤتي بثمار مرجوةٍ، أدناها نجاتها وأعلاها فوزها به وبحبه.

القصص في مواجهة الموت 

بعيدًا عن قصة شهريار وشهرزاد بذاتها وقصص شخصيات شهرزاد التي تسعى خلف النجاة، وتأخير الأجل إلى أبعد وقت ممكن، فإننا نقف قُبالة جوهر الكتاب وكثير من قصصه المتمثل في “القصص في مواجهة الموت”. ترتقي بنا هذه الفكرة إلى بُعدٍ عالٍ وتأخذنا إلى تخوم بعيدة نحلُّق مسافرين لا نرى شيئًا سوى التدافع والصراع القائم ما بين نزول الموت المحتَّم الذي لا فرار منه الملاحق للشخصيات، وفي مقدمتهم شهرزاد، وبين دفع هذا الموت وتأخيره أو حتى تأجيله إلى أجل غير معلوم، لتستحوذ هذه القصة على أساس هذا الكتاب، وبغض النظر عما يحتويه الكتاب من قصص وأخبار وحوادث مختلفة وأقدار عسيرة يواجهها أصحابها، لكن تبقى القصة هي المنفذ التي يسعى من خلال صاحب القصة أو القاص أن ينقذ نفسه وينجو. 

إنَّ القصص هنا ليست محض منفذ وحصن أخير يلجأ إليه الإنسان بل هي كذلك إعلاء لقيمة المجهول الذي يُمكن أن يُكشف، وقيمته في نفوس من يريدون معرفته أو مستعدين لمعرفته، فهي مواجهة ما بين العلم والجهل. يأخذ العلم ثوب القصة وتلبَّس الموت قبله الجهل، ولزامًا على العلم والجهل أن يتمثلا في شيء محدد، فتمثل العلم بالقصة الغربية والخبر العجيب والحدث غير الطبيعي (أو فوق الطبيعي كما يسميه آخرون) وتمثَّل الجهل بشيء واحدٍ حَسْب وهو الموت، أما أداتهما فهو الإنسان بما أنه المخلوق الذي كان ينتظر الموت في معظم القصص، فكان الإنسان هو المحور الذي يتنازعه الموت والحياة والعلم والجهل. وحدد معيار غرابة الخبر، وجودته في أحيان أخرى، استحقاق صاحبه النجاة من الموت، ويبدو الموت في أحيان ثانية مجرد تهديد أو مُحفِّز للاتيان بقصص مثيرة وعجيبة لم يسمعها صاحب الموت. تتوسع المسألة إذًا مِنْ دفع الموت النازل على أصحابه بالقصص، وتحوله إلى أداة مُستخدمة تجبر المقضي عليه أن يأتي بجديد يُشنِّف به أذن المستمع، أو يثير أحاسيسه بهذه العجائب وصنائع الدهر في بني الإنسان. إنَّ القصص لا تواجه الموت فقط بل تواجه رغبة إدهاش الإنسان وإمتاعه وتسليته في أوقات ملله، وهنا تتضح معالم مختلفة في قيمة القصة، فهي تقف في صراع مباشر مع الموت والجهل والإدهاش والإمتاع والتسلية- تقف في مواجهة الإنسان نفسه وكل ما فيه من رغبات وتناقضات وفضائل ورذائل وحسنات وسيئات، تقف القصة وحيدة أمام كل هذا لا تملك شيئًا سوى الكلمات المنطوقة (أو المكتوبة في مكان آخر) لتؤدي غرضًا محددًا لا تعود فائدته على فرد واحد، بل تعود على الجميع الرواي والمروي له. فهي تجمع في الوقت الذي يبدو أنها بفشلها ستفرِّق، وتُنقذ حين يكون الهلاك في انتظار صاحبها. لذا فإن على الرغم من تعدد مواضيع ألف ليلة وليلة تبقى مواجهة الموت ودفعه بالقصص هي المستند الرئيس، والقاعدة الأساسية التي تنطلق منها كل الأحداث، فبدونها لن يحصل أيَّ تطور وتقدُّم فإذا نجحت القصة في الإدهاش والإمتاع وإثارة النفوس فقد كُتب لصاحبها عُمر جديد، وأُزيحَ عنه ظلُّ كاهل الموت الذي ينتظر أن يجثو عليه، وتبدأ بعدها مغامرة أخرى وقصة أخرى وإنسان آخر ينجو بالقص والقصص من موت يلاحقه أو قدر بمصيبة يطلبه.     

في خضمِّ هذا التدافع ما بين الموت والحياة لا تغفل شهرزاد عن حقيقة أنها تواجه شخصًا مريضًا، فالقصة قد تُنجيها هي وحدها، لكنها لم تكُ تطمح أن تنقذ نفسها دون أن تنقذ الآخر المستمع، أن تنقذ شهريار معها، لتكتمل ثمار القصة ويجني الطرفان فائدة القصة. لذا فقد كان القص علاجًا أيضًا لدى شهرزاد.

صراع شهرزاد وشهريار

سعت شهرزاد منذ أول ليلة قضتها مع شهريار منتظرة الموت أن تُبعدَ عن نفسها شبح الهلاك، وتجذبَ شهريار إلى مملكتها الخيالية، لتنقي نفسه من شوائبها التي علقت بها، وتشفيه من علِّته المريرة المتمثلة بفقدانه الثقة بالنساء وسعيه المحموم للانتقام منهن واسترداد كرامته المهدورة بسفك الدماء. لم يكن مسعى شهرزاد بالسهل ولا الهيّن، وتطلَّب مقدرة عالية في التدبير ابتداءً باختيار مواضيع القصص، وتنسيق مراتبها، وأسلوب قصِّها، في صيرورة علاجيّة قصصيّة تكشف عن دهاء هذه المرأة. إنَّ شهرزاد ليست محض شخصية خيالية بارزة في تاريخ الخيال الأدبي حَسْبُ بل ظاهرة أدبية تمثلت في الراوية العليمة التي بدلًا من كتابة قصصها؛ ألقتها بصوتها، راوٍ عليم متجسّد في داخل العمل، تقف وحيدة شامخة في مواجهة الموت بالقصص، راوية تنبع منها القصص لألف ليلة وليلة، ودائما ما كان في جعبتها المزيد عن غرائب الدهر وعجائب الزمان وصنائع الإنسان. حملت على كاهلها وكاهل قصصها مهمة محفوفة بالخطر المُحدق من كل اتجاه في مواجهة ملك آثر الانتقام من نساء مملكته بعد اكتشاف خيانة زوجته له. شهرزاد رمزٌ للأنثى في مواجهة العنف الذكوري المتمثل في شهريار، لذا فإنها ليست قاصة بل وامرأة تُصارع في عالم يظلمها ولم تملك سلاحًا إلا لسانها وعقلها وما يحفظه من القصص، استطاعت بفضله ترويض الرجل ليلة تلو ليلة، وقصة إثر قصة، مضت في طريقها بإقدام دون أن تأبه للموت. 

والسؤال عن شخصية شهرزاد وجرأتها لا بد أن يبدأ من نقطة الانطلاق لمَ غامرت شهرزاد بحياتها في الطلب من أبيها أن يزوجها بهذا الملك، ويبدو تبريرها في إما أن تعيش وإما أن تكون فداءً لبنات مملكتها جوابًا لتقنع فيه أبيها لتزويجها، فهل أحبت شهرزادُ شهريارَ قبل أن تعرض على أبيها طلبها أن تتزوجه؟ وهل كان حبها لهذا الملك دافعها؟ وإن كان كذلك لمَ لم تطلب من أبيها تزويجها قبل أن يكثر القتل على يد شهريار؟ أو تراها أرادت مغامرة تجرِّب فيها ما حفظته من أشعار وأخبار الملوك وقصص التاريخ؟ أو أنَّ الأمر كله قدر مكتوب لا يد لشهرزاد فيه؟ لكن هل يمكن لمثل من أُوتي علم شهرزاد وقصصها أن يترك حياته في مهب ريح القدر دون أن يكون قد خطط لما يريد قبل أن يشرع بالتنفيذ؟ 

إنَّ ذكاء شهرزاد ونجابتها في مواضيع قصصها وأسلوب قصِّها على شهريار يمنعننا من أن نميل في الإجابة إلى ما أوردته من أسئلة من كون طلب شهرزاد كان خيارًا أخيرًا أجبرتها الظروف عليه دون إراداتها. وما طلبها الزواج بشهريار إلا بدافع الحب والمغامرة. وأراني ميَّالًا لفكرة حب شهرزاد لشهريار قبل أن تتزوجه وحين واتتها الفرصة المناسبة عرضت على أبيها أن تتزوجه لتتحقق لها الخطوة الأولى ثم بدأت بالمرحلة الثانية هي الخلاص من الموت بالقصص والفوز بشهريار بعد شفائه من علَّته، فوز تطلَّب منها رحلة علاج قصصية تجاوزت ألف ليلة، لتحقق في نهاية المطاف مبتغاها. تمتعت شهرزاد بذكاء في السرد واختيار مواضيع قصصها، وكانت تقيس دائما مدى استجابة شهريار لها ولقصصها، ففي بدايتها كانت تستأذنه في أن تقص عليها ثم تتحول بعدها إلى القص بدون استئذانه بل تشوِّقه لقصة جديدة بعد أن تُنهي الأولى، واحتفظت بلباقتها طوال الرحلة، فكانت مثالا للشخصية المتزنة، والرابطة الجأش، والقوية، والجريئة، والفصيحة، والواعية بخفايا نفس مستمعها، لذا فدائما ما كانت مُرسلة لقصصها ومتسلِّمة لتأثيرات هذه القصة في نَفْس ملكها الموتور والمتأزم نفسيًا، فبعد كل قصة ترفع الحجاب عن قصة جديدة وتُسدل الستار على أخرى سابقة، متأنية وماضية ببطء في هذا الطريق الذي يتخطَّفُ الموت سالكيه بسيف الملك المسلول. ولنا مع ذكائها السردي وخيالها القصصي وقفة. دافعت شهرزاد عن نفسها من الموت بشخصياتها، ففي الوقت الذي كانت تأبى شخصياتها الموت كانت هي من تأبى الموت، وحين يحاولون بكل جهد الدفاع عن أنفسهم بالقصص في مواجهة العقاب النازل عليهم المستأصل لشأفتهم كانت هي من تدافع عن نفسها، كل صوت من أصوات شخصياتها كانت تبث فيه صوتها، شهرزاد امرأة بألف لسان وألف صوت، شهرزاد قصة تروي قصة، شهرزاد تتماهى في شخصياتها وتذوب فيهم وترفع سيفهم لتقارع به سيف شهريار، لكنَّ كل هذا يجري في التواري خلف جدار من الخيال ومُآنسة الوعي ومخاطبة اللا وعي لشهريار، ففي الوقت الذي تقص عليه تراقص نفسه، وحين تسلِّيه تلاعب مشاعره، وحين تشوِّقه تُوقعه في حبائلها. إن انتصار شهرزاد هو انتصار امرأة على رجل، ونساء على رجال، وعقل على قوة، وذكاء على تهور، وعلاج على مرض. 

ولا مناص لنا من تحية شهرزاد على ما فعلته في لياليها الألف وليلة، فمن يملك هذا الصبر المنقطع النظير ليلة بعد ليلة في قص دؤوب قادر على تحقيق مساعيه، فهي مثال للإنسان المجِّد والمثابر، والمقاتل لأجل حياته ومصيره، وهي نتيجة لما تعلمته، وثمرة من ثمرات ما قرأته، فلو كانت شهرزاد مجرد ابنة وزير مدللة لا تعرف من القصص والأخبار شيئًا، ولم تطّلع على شيء، هل كانت ستواجه هذا الملك بلسان عقلها وعقل لسانها، بالتأكيد لن تفعلها، وستكون رقمًا مقتولًا لا غير. فهي مثال للصبر والعلم، والجدِّ والاجتهاد، ولا عجب أن تخلَّد في الأدب ويكون لها ما لم يكن لغيرها، ويكون تأثيرها بارزًا في عقول من عرفوها وقرأوها في الأدب والفن، ومكانتها محفوظة ضمن أكثر الشخصيات الخيالية تأثيرًا في الأدب الإنساني. علمتنا شهرزاد معنى أن تخلد، وتكون لك اليد العليا بالعلم والمعرفة، فهي مُعلِّمة، وهل نبالغ لو كلنا لها المدح وأثنينا عليها؟ لا مبالغة في حضرة شخصية عظيمة مثل شهرزاد. 

جُمع في شهرزاد الكثير من السمات والصفات والرموز ومثَّلت طيفًا كبيرًا من المواضيع فهي عالمٌ كامل تجسَّد في امرأة. ويبقى سؤال ما أكثر ما تميَّزت به شهرزاد، ربما يكون الجواب في الغالب هو أنها قاصة تحفظ عشرات القصص، لكني أرى أن أهم ما تميَّزت به شهرزاد -تمنحنا هنا مثالا في كيفية استخدام الأدب والخيال والقصص في دعم قضايانا- هو كيفية تطويعها القصص لتخدم قضيتها الأولى في النجاة، فلا يهم كم تحفظ شهرزاد من القصص بل كيف تقصها وأيُّ قصة تختار قبل الأخرى وكيف يكون الانتقال من قصة إلى الأخرى والأهم موضوع القصص واستثماره ليؤتي ثماره المرجوة. لذا مما أثار شكوكي في القصة السادسة والثمانين، ليالي 963-978، أنَّ موضوع القصة كان خيانة النساء، فهل حكمة شهرزاد يجعلها تُذكِّر شهريار بخيانة الزوجات وهي التي سعت جاهدة أن تنسيه طوال مئات الليالي السابقة، والأمر إما أن يكون هفوة من شهرزاد، وأربأ بها عن مثل هذا الخطأ الساذح، وإما خطأ في موقع القصة من الليالي أو أنها مضافة إلى القصص. 

لقد كانت شهرزاد واعية ومدركة لأهمية القصص ومواضيعها في خدمة ما أرادته وسعت لأجله، فمعلمتنا الكبرى علَّمتنا كيف نقص ولماذا نقص ولأجل ماذا نقص.

في الطرف الآخر من الصراع كان شهريار الملك المفجوع في زوجته الخائنة وسط العبيد والجواري، قد شرعَ، بعد عودته من السياحة في الأرض ولقاء امرأة العفريت، في زواج عذارى مملكته وقتلهنَّ. تبرز هنا قضية القتل في الرد على الخيانة الزوجية لكنه ردٌّ تجاوز الحدود وأُخذت البرئية بجريرة غيرها، حتى وصل إلى شهرزاد التي كان لها معه ليالٍ وليالٍ استطاعت أن تنقذ نفسها وإياه والمتبقي من عذارى ممكلته. صُدمَ شهريار بزوجته صدمة يبدو أنها أكبر من قدرته على التحمل والاستيعاب فقرر الانتقام لمجرد الانتقام من المرأة وأيّ مرأة، لكنه لم يرد انتقاما عاديًا، لذا فقد كان يتزوج ويقتل في اليوم الثاني، ومع كل امرأة يقتلها يحاول أن يرمم جزءًا من كرامة الملك المجروحة، يحاول أن يعوض بقتل كل امرأة عدد المرات التي خانته فيها زوجته، ومع كل جريمة قتل جديدة يزداد الشرخ ولا يرأب الصدع. لكن هل أراق شهريار كأس عقله كاملًا أو بقي في الكأس ثمالةٌ بعد كل ما اقترفته حين تحول إلى وحش سفَّاح؟ وهل يمكن أن نتعاطف معه بأي شكل من الأشكال؟ وهل تعاطفت شهرزاد معه وسامحته على جرائمه السابقة مع النساء؟

لم يهرق شهريار كأس عقله كله وإلا لما استطاعت أن تخاطب شهرزاد ما تبقى من عقله، وهو أيضًا ليس بالمتجبر والمتكبر في آخر المطاف إذ تمكنت شهرزاد بالمداومة والاستمرارية أن تفتح منافذَ إلى قلبه والتجول في نفسه مرممةً ما استطاعت ترميمه من صورة النساء الممزقة بعد خيانة زوجته له، والتشوُّهات التي خلفتها الخيانة في ذاته، وتعزز فيه كرامته التي ديست بأقدام زوجته الخائنة. ما كان لشهرزاد أن تصل إلى ما وصلت إليه لو تمكنت شهوة سفك الدم من شهريار، فكانت خشبة أخيرة تمكن شهريار من التشبث بها بعد غرق سفينته في بحر النساء المظلم وتمكَّن من الوصول إلى بر نساء الأمان بفضل امرأة أخرى. شهريار مثال للرجل الأضحوكة الذي تتلاعب به النساء، فهو مهما كان جبارًا وطاغية سفاحًا فهو يمرض على يد النساء ويشفى على أيديهن أيضًا، كائن مفرَّغ ليس فيه ما يُحسد عليه.   

هل يمكن أن نتعاطف مع شهريار بعد كل ما ارتكبه من جرائم بحق من تزوجهن؟ قد يكون الخيار الوحيد للمتعاطف معه هو بوصفه مريضا نفسيا يحتاج إلى العلاج، وهذا ما فعلته شهرزاد معه بيد أنَّ هذا في الأخير عُذر أو مرض قد يُصيب كل مجرم أو سفَّاح قبل أن يتحول إلى ما سيصبح عليه. إنَّ التعاطف مع شهريار تعاطف مع الجريمة وازدراء النساء، ولا يمكن تفهُّمه تحت كل الأعذار والحجج التي قد يُجادل بها. لقد كان شهريار رمزًا للجريمة الاجتماعية المنظَّمة تجاه المرأة، وهو الآخر يمثل قوى الشر التي صارعتها شهرزاد طوال لياليها الألف وليلة. لكن ما الموقف مع شهرزاد في كل هذا، شهرزاد التي وجدت نفسها تدافع عن نساء مملكتها لكنه دفاع ناقص لأنها في الأخير تواطأت مع شهريار، فهو لم يُعاقب على ما ارتكبه من جرائم وهي اكتفت في النهاية بما سعت إليه، وقد تكون مساعيها شخصية وليست لأجل النساء بل لأجل أن تكون زوجة ملك قد تكون أحبَّته وغامرت بحياتها لأجله. 

يتعقَّد الموقفُ الأخلاقي من شهرزاد كثيرًا حين يرتبط بشهريار فهل غلب شرُّ شهرزاد خيرَها، وماذا نفعل مع جرائم شهريار الذي تزوجته ورضيت به بعلًا، لقد رضيت برجل سفَّاح قتل الكثير من النساء قبلها. إنَّها إشكالية يثيرها النص وتبقى دائرة الجواب التي نتحرك فيها قليلة الخيارات والاحتمالات، فهل تُكافأ شهرزاد على إنقاذ النساء أو أن يُؤخذ عليها قبولها زواج هذا الملك والرضا به، والسعي من أجل تخليصه مما أصابه من المرض. ويلعب مقام شهريار ملكًا حجرة عثرة في محاكمة شهريار وشهرزاد أخلاقيًا فمن سيحاسبه. بالتأكيد ليس بإمكان شهرزاد أن تحاسبه وليس بمقدورها سوى الانتقام منه لكنها لم تفعل ذلك. اشتركت شهرزاد بجريرة السكوت على ماضي شهريار. ففي الوقت الذي تكلمت شهرزاد وأنقذت المستقبل بصوتها ولسانها فقد أبقت جزءًا من القصة مطمورًا، وخرست في حضرة الماضي تغافلًا وتناسيًا كأنه لم يُوجد، وتعزز في هذا فكرة أنَّ كف يد الظالم عن ظلمه كافٍ ومُرضٍ للرعية في الوقت الذي كف يد الظالم عن ظلمه ينبغي أن يكون بقطع يده لا مسح الدم منها، وهذا ما فعلته شهرزاد لقد مسحت الدم من يد شهريار بقصصها. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى