قصائد إنمركار وابنه لوغال باندا
شكَّل الطوفانُ حادثةً جوهريةً في تاريخ وادي الرافدين وأساطيره، ونُسجت عن تلك الحادثة الرهيبة الكثيرُ من القصص والقصائد منها النشيد الملحميّ أترا-حاسس وقصيدة زيسودرا، فضلا عما ذُكرَ في ملحمة غلغامش البابليّة واللقاء ما بين ملك أوروك والبطل غلغامش والناجي الخالد من الطوفان أوتونابشتم. كما قسم الطوفان تاريخ وادي الرافدين إلى قسمين، القسم الأول ما قبل الطوفان وهو أشبه ما يكون تاريخٌ أسطوريّ بدأ بهبوط الملكيّة من السماء على ألوليم الذي حكمَ نحو ثلاثين ألف سنة ودامَت خلافته مع من جاءوا بعده ربع مليون سنة. والقسم الآخر ما بعد الطوفان وهبوط الملكيّة مجددًا من السماء وحلَّت في مدينة كيش، تبعد اليوم 80 كم إلى الجنوب من بغداد، ودام حكم ملوك كيش نحو ربع مليون سنة أيضًا قبل أن تُسلب الملكيّة من كيش وتنتقل إلى مدينة أوروك أو الوركاء. كانت هذه المدينة على قسمين، يُسمى الأول الإيانا حيث معابد المدينة، والآخر يُسمى كلاب أو كلابا. يُورد ثبت الملوك السومريّين أنّ أول ملوك الإيانا هو ميسكيغاشر ابن أوتو (إله الشمس)، وخلفَ في الحكم ابنه إنمركار، ثم لوغال باندا، ثم دموزي، ثم غلغامش، ثم البقية، ودام حكم ملوك أوروك نحو 2400 سنة.
كُتبت الكثير من القصائد البطولية والملاحم وقصائد الحب عن إنمركار ولوغال باندا ودموزي وغلغامش، مع عدم التيقُّن إنْ كان الشخصُ هو نفسه إذ تختلف الأنساب، فنجد أنَّ الإله دموزي/ تموز حبيب وزوج إنانا كان ابن الإله هدد، وفي أخرى ابن أنكي، وفي ملحمة غلغامش فإن غلغامش هو ابن لوغال باندا، وفي قصائد أراتَّا يبقى إنمركار والدَ لوغال باندا. سيقتصرُ الحديث في هذا المقال عما يُعرفُ بـ”مسألة أراتّا” أو “قصائد إنمركار” وهي أربعُ قصائد رئيسة اثنتان منها عن صراع المدن ما بين أوروك وأراتّا، واثنتان منهما عن لوغال باندا.
يُروى عن إنمركار في ثبت الملوك السومريّين أنَّه مُشيِّد مدينة الوركاء إذ جمع ما بين قسميها الإيانا وكلابا، وكان غلغامش من بعده الذي بنى أسوار المدينة كما تقول ذلك ملحمة غلغامش. كان الملك إنمركار على صراع مع مدينة أسطوريّة غنيّة تُسمى أراتّا تقع في الأجزاء الغربيّة من إيران، وكانت تمرُّ بها القوافل، ويسعنا من استقراء قصائد إنمركار الاستدلال على طبيعة الصراع ما بين المدينتين إذ سعى إنمركار لفرض نفوذه على أراتَّا، وأخذ خيراتها لا سيما الأحجار الكريمة كاللازورد في تشييد وتزيين معابد مدينته، وفي سعيّ للاستئثار بفضل إنانا وبركاتها إذ كانت معبودةً في المدينتين.
تروي القصيدة الأولى صراع إين-سوهغير-آنا (حاكم أراتّا) وإنمركار (حاكم أوروك)، الصراعَ بين الحاكمين في محاولة الفوز بإنانا والتفرُّد بها، والمنافسة بينهما على من يحظى بها دون الآخر، ويثبت نفسه الأفضل. يتبين أنَّ الاستئثار بإنانا هو الدافع للصراع بين الحاكمين فيبتديه إين-سوهغير-آنا إذ يرسل رسوله برسالةِ تفاخرٍ إلى إنمركار فيباهله ويغلبه ويرده خائبا إلى مولاه. يقر إين-سوهغير-آنا بهزيمته إثرَها لكن لا يتوقف الصراع إذ ينتدبُ الساحر أورغرنونا نفسه من مدينته ليعلن قدرته على هزيمة أوروك. فتأتي جولة أخرى من الصراع وهذه المرة ليس بالتفاخر والمباهلة إنما بالسحرِ فيسحرُ أورغرنونا ماشية أوروك فتجف الضروع والمخضَّات وتصيب الناس المجاعة في مدينة إنمركار. والسحرُّ لا يُغلبُ إلا بالسحر لتظهر هاهنا ساحرة أوروك ساغ-بورو، الضليعة من فنون السحر والشعوذة، وتغلبُ بسحرها سحرَ أورغرنونا وتعيد الحليب إلى الضروع والمخضَّات وينجو الناس من هلاك المجاعة. يعترف حاكم أراتَّا مجددًا بأفضلية إنمركا وتفضيل إنانا له على حسابه.
في القصيدة الثانية، صراع إنمركار وحاكم أراتّا، فإنَّ المنافسة بين المدينتين تتكرر يبقى إنمركار ملكَ أوروك لكن يغيب ذكر اسم حاكم أراتَّا. يبرزُ الدافع التجاريّ والنفعي في هذه المرّة ويبتدئ الصراع إنمركار بطلب معونة إنانا في أخذ الأحجار الكريمة وجلبها من جبال أراتّا إلى أوروك لتزيين معبدها. تشير عليه إنانا بإرسال رسول فصيح كليم إلى حاكم أراتّا برسالة شديدة اللهجة ليخضعَ لإنمركار وينفذ طلباته. يمتثل إنمركار لمشورة إنانا ويبعثُ برسوله، الذي سيبقى في ذهاب وإياب مرات عديدة، لكن حاكم أراتّا يرفض طلبه ويعرض عليه تحدياتٍ إذا غلبه فيها يكون له ما أراد، وهي ليست كالتحديات المعتادة بل ألغاز عصية الحلِّ. كما أنه أبطنَ النيّة على المماطلة، فكان يلجأ إلى لغز بعد آخر لكيلا يستجيب لطلبات إنمركار.
ابتدأ حاكم أراتّا بلغزه الأول فطلبَ أن تجلب له أكوام القمح محمولة في شبكات على ظهور الحمير، احتار إنمركار في أمره وأسقطَ في يده عاجزًا عن معرفة الجواب، وبإلهام من الإلهة نيسابا تمكن إنمركار من حل اللغز بأن فصل القمح القديم عن الجديد وغمره بالماء فنبت له براعم وصغّر عيون الشبكات، وحمّلها على ظهور الحمير إلى أراتّا. كانت المدينة تعاني نقص الغذاء والمجاعة ففرح أهلها بهذا المير وطلبوا من ملكهم الخضوع لكنه رفض، وعاد بلغزٍ ثانٍ طالبا صولجانا غير مصنوع من أي نوعٍ معروفٍ من الخشب تعجيزا لإنمركار. عجزَ إنمركار عن الحل لتتدخلَ الآلهة مرةً أخرى فيشير عليه أنكي أن يجلب مادة جلدية ويلفها ثم يدكها بمِدكٍ ويصبها في قصب مجوف وينقّلها بين الشمس والظل حتى صلبت وقطعها بالفأس ثم أرسلها إلى حاكم أراتّا. ما قنع حاكم أراتّا وجاء بلغزٍ ثالث فطلب كلبا لا أبيض ولا أسود ولا أحمر ولا أرقش، وعليه أن يتنافس مع كلبه وإن غلبَ كلب إنمركار سيستجيبُ له. وفي المرة الثالثة يعجزُ إنمركار عن الحل، فتتدخَّل الآلهة مجددًا وبمعونة إنليل يحظى إنمركار بكلب سماوي له لون غريب، وأشارَ إنليل عليه أن يبعثَ مع رسوله رسالةً شديدة اللهجة لحاكم أراتّا ويحذره بإثارة شعبه عليه (كما حدث في أول رسالة) إن ماطل أكثر، وفي أثناء حضور رسول إنمركار في أراتّا، يقوم إيشكور ابن إنليل بإمطار السماء وغمر الأرض بالماء فتعود الخيرات إلى حقول أراتّا ويرى إنمركار أن هذه أمارة حب إنانا لمدينته ورفضها لخضوع إراتا لأوروك. ثم ينتهي النص بابتهاج إنانا وتزينها ويأمر إنليل بالتجارة بين البلدين ونقل ما يحتاج إليه لتزيين الإيانا، معبد إنانا، في أوروك.
نرى في القصيدة الثانية أنَّ التفضيل كانت لمدينة أراتَّا وحاكمها، وعلى الرغم من مساعدة الآلهة لإنمركار في حلِّ الألغاز، والتفضيل الظاهري له على منافسه، فنهاية النص توحي بغير ذلك، ثم يأمرُ إنليل بإحلال السلم بين المدينتين وأن يكون حصول إنمركار على ما يحتاج إليه بالتجارة لا الغلبة والإخضاع. فهل يرعوي إنمركار عن طلبه في السيطرة على مدينة أراتَّا، هذا ما سنعرفه مع القصيدة الثالثة والرابعة.
لوغال باندا ابن إنمركار
وصلت إلينا قصيدتان منفصلتان عن لوغال باندا، الأولى معروفة بعنوان لوغال باندا في البرية (أو في الكهف)، والثانية عودة لوغال باندا، لكنهما في موضوعهما قصيدة واحدة تكمل الثانية، عن لوغال باندا والطائر أنزو، ما بدء به في الأولى عن مرض لوغال باندا وترك الجيش أوروك له في كهف مع طعام وشراب.
يتحرك إنمركار في القصيدة الأولى بجيشه نحو أراتّا ليُخضعها وينتفع من خيراتها، ويرأس جيشه جاعلًا أبناءه الثمانية قادة الجيش. يطيح لوغال باندا الصغير مريضا، وشك القوم بنجاته فتركوه في كهف مع الطعام. في ذاك النهار والحياة باقية في أوصاله تضرع لوغال باندا إلى الشمس لتشفيه (الإله أوتو) فاستجابت له، ثم إلى إنانا، وإلى سين (القمر) فاستجابا له. وفي اليوم الثاني استعاد لوغال باندا صحته، وخرج للصيد فاصطاد ثورا وتيوسا، ثم عاد إلى الكهف حيث نام الليلة الثانية، ورأى في الحلم أنَّ إله الأحلام، زانغارا، يطلب منه أن يضحي بالثور والتيوس له قبل شروق الشمس. صحا لوغال باندا وضحى بالثور والتيوس وأقام بما عنده من طعام مائدة للآلهة آن وإنليل وأنكي ونينخورساج. نزلت الآلهة وأكلت الطعام. ويبدو أن هذا شكرٌ لها على شفائه وقرابينُ قدَّمها لهذه الآلهة على ما حفَّته به من رعاية. تنتهي القصيدة بالحديث عن صراع آلهة النور والظلام وينتهي بفوز النور بظهور النجوم والشمس عند الفجر.
أما القصيدة الثانية المكملة فهي بذهاب لوغال باندا إلى جبال زابو حيث الطير أنزو بعد خروجه من الكهف. كان لوغال باندا عارفا بعشِّ الطائر ومقدرته وراغبا بمساعدته وإن لم يكشف النص عن ذلك، فقدم الطعام لفراخه في غيابه وزوجه ووضع الكحل لأعينها. عندما عاد الطائر وصاح بصوته ولم يتلق استجابة معتادة من فراخه؛ غضب وظن أن أحدهم جرؤ على مهاجمة فراخه، ثم ظهر لوغال باندا وكشف له عن حقيقة الأمر وخبيئته. أراد أنزو أن يكرمه بالخيرات من أحجار كريمة ومعادن ثمينة لكن لوغال باندا رفض ذلك، وعرض عليه السهام الحادة التي تمزق الأعداء والسلاح ولأمة قتال شديدة لكنه رفض أيضا، وعرض عليه الحليب الوفير والزبد والدهن فرفض كذلك. رفضَ لوغال باندا الثراء والسلطان والغنى فطلبَ منه أنزو أن يسأله ما يريد، فسأله أن تكون قدماه سريعتين لا تعرفان التعب، ويذهب إلى أي مكان يريد بلمح البصر فمنحه ما أراد وصار أنزو في السماء ولوغال باندا في الأرض، صنوان في السرعة. لكنَّ هذه الهبة من أنزو ليست للمفاخرة والزهو إذ ينصحُه الطائر ألا يكشف سر سرعته لأحد حتى لا يجلب عليه الأمر المصائب.
فارق بعدها لوغال باندا أنزو وقصد الجيش المحاصر لأراتّا واستمر الحصار عاما لكن ما نتج عنه شيء، وتحمل الجيش أضرار الحصار وخشي إنمركار من الهزيمة، وصعب على جيشه العودة إلى أوروك فخاف من الهلاك. طلب إنمركار من رجل أن يعود إلى أوروك ويطلب مشورة إنانا في هذا الأمر، فلم يخرج رجل لإداء المهمة سوى لوغال باندا ورفض أن يصاحبه أحد (حتى لا يكشف سره) وحمل إلى إنانا رسالة أبيه، ووصل إليها قبيل هبوط الليل بفضل سرعته الخارقة. أشارت عليه إنانا بما يفعل، فدلته على بحيرة يسبح فيها إله سمك الشبوط السوخورماش، وبالقرب من البحيرة أشجار طرفاء تروى من ماء البحيرة، وعلى إنمركار أن يقطع شجرة منها ويصنع دلوا، وينتزع القصب من جذوره في ذاك المكان المقدس ويجمعه بيديه، ثم يصطاد إله السمك الشبوط السوخورماش ويضحي به لسلاح إنانا أنكار، قوة المعركة، وسينجح حينئذ في حملته. هذا على الراجح ما كان، وتنتهي القصيدة بتمجيد لوغال باندا.
تُرجمت هذه القصائد الأربع في كتاب The Epics of Sumerian kings بترجمة وتقديم Herman Vanstiphout.