ملحمة إيرَّا من النصوص المهمة والبارزة في أدب وادي الرافدين، بل إنه يتمتع بسمات أسلوبيّة وفنيّة وموضوعيّة فريدة تُميزه عن النصوص الأخرى من قصائد أسطورية وملاحم مثل گلگامش، وهبوط إنانا إلى العالم السفلي، وأترا حاسس، وحينما إيليش (قصة الخلق البابلية)، لأسباب سنتبيَّنُها.
يعود تاريخ تدوين هذا النص باللغة الأكدية إلى القرن الثامن ق.م. (765-763) على يد شاعر، ذكر اسمه في آخر القصيدة، هو كبتي-إيلي-مردوخ ابن دابيبو. يتكوَّن النص من 700 سطر، وعثر على أربعين نسخة منه في أماكن متفرقة، مما يدل على شهرته وذيوعه حتى تكاثرت نسخه وتوزَّعت في مناطقَ مختلفة.
تتميز ملحمة إيرَّا بتقديمها قراءة دينية للتاريخ، فشاعرها عارف بتاريخ البلاد وضليع من حروبها ومآسيها، فعرض هذا التاريخ الدموي المتقلب على أنه غضبة إله العالم السفلي إيرَّا، يعينه على قلب نظام الكون وإشاعة الفوضى والدمار- معاونوه السبعة ومساعده إيشوم. كثيرًا ما نقرأ، لا سيما في المراثي، أنَّ خراب المدينة وذهاب ريحها مرتبطٌ بتخلِّي الإله الحامي عنها، ورفع يده عنها، ويجعلها غَرَضًا لأيدي أعدائها. يكشف هذا التفكير عن بلوغ الإنسان في وادي الرافدين إلى مرحلة من العجز عن فَهم لمَ بلغَت بهم الحال هذه النهاية، بعد أن عمرت بلادهم وكثرت خيراتهم، وأقاموا معابد الآلهة وأقاموا الصلاة وأدَّوا النذور وتعاهدوا على الطقوس، ولم يخرجوا عن أوامر الآلهة؟ سؤال أعملوا فيه عقولهم لكنهم ما وصلوا إلى جواب مقنع أو تفسيرٍ مُرضٍ، وما كان لهم إلا التسليم بأن هذه إرادة الآلهة التي كتبت عليهم الهلاك وعلى مدينتهم الدمار. ومع ملحمة إيرَّا فإنَّ التفسير في غضبة هذا الإله وتسيّده الكون وإزاحة مردوخ والآلهة وإخضاعه العالم لسلطته، ونشر الدمار في المدن وإهلاك البشر والشجر والحشر والحجر وإشاعة الفساد، وكل هذا اندفاعا منه لظنه أن البشر يزدرونه. فيمضي لا يلوي على شيء حتى يعيده إلى جادة الصواب مساعده إيشوم حين يعدد عليه فعائله، وتطيب نفس إيرَّا الغضوب مما سمع وما سببه من دمار وخراب، فيقرر أن يعفو عن البشر ويوقف نزول عذاباته عليهم.
إنَّ غضبة إيرَّا وسكوته عنها ما هي إلا نتيجة أزمة نفسية يعاني منها هذا الإله، فقاده شعوره أنَّه مُزدرى من البشر إلى أن يغضبَ عليهم، ثم سكت عن غضبته وأعادَ نظام الكون والحياة إلى سابق عهده بكلامِ مساعده إيشوم الذي تلا عليه إنجازاته التدميريّة. كان إيرَّا يريدُ شعورًا بالتفوِّق والإجلال والعظمة، وأنَّه ليس إلهًا ثانويًا ولا مُزدرى، وما قام به إلا ليجذبَ الأنظار إليه ويقول أنا موجود، ولا يمكنكم أن تتجاهلوني.
برزت شخصية إيشوم في كونه المحرك لهذه القصيدة فهو مساعد إيرَّا في إنزال عذابه ودماره على البلاد والعباد، وهو من يهدئ إيرَّا بذكر أفعاله الشريرة ومكانته بين الآلهة، وهو خبير بنفس إيرَّا المغرورة المحبة للمديح، فأبدعَ هذا المقاتل الأديب ملحمة تروي قصةَ إيرَّا وصنائعه، ثم أوحاها إلى الشاعر، وجعل الملحمة سببا لتمجيد البشر لإيرَّا. هذا التمجيد لا لشيء إلا ليعرف إيرَّا أن البشر يعظِّمونه، ولكي يتنعم بالهدوء ولا ينزل العقاب عليهم بسبب الظن. يلعب إيشوم دورا وسيطا بين إيرَّا والبشر فهو من جانب يُسكر مولاه بشراب مديح البشر وتمجيده، ومن جانب آخر ينقذ البشر من نزوات إلهه العنيفة والمدمرة.
يذكر الشاعر في آخر الملحمة أن إيشوم قد أوحى إليه بها في الليل، غالبا في نومه، وأنه استعادها في نومه ولم يغفل عن شيء منها، ودونها سطرا سطرا. يُذكِّرنا هذا بما كان في ملحمة المهابهاراتا إذ يكون للآلهة دورها في التأكيد لشاعرها فياسا ما سيكون لمحلمته من مقام رفيع، الملحمة التي تلاها فياسا على الإله غانيشا فدوَّنها، وبالنصوص التي تعتمد على الرؤيا في المنام في نسجِ أحداثها أو ما يعرف بـ Dream Vision في نصوص مثل قصيدة رواية الوردة، والكوميديا الإلهية، وبرلمان الطيور، ومنام الوهراني. استمع إيرَّا إلى الملحمة فأعجب بها والتذَّ لقصصها وباركَ كل إله يقدّر هذا النشيد وأكثرَ من ثرواته، وصارت الملحمة جالبةً النصر والبركة والعلم والثقافة على القادة والكهنة والنساخ والمنشدين. بل يطلب في آخر الأمر من كلِّ بلاد تستمع إليها أن تحتفل ببطولته، وكل شعب يتعرف إليه أن يشيد بمجده ويُنشدها.
يُطرح سؤال عن نوع نصِّ إيرَّا هل هو ملحمة أو قصيدة أسطوريّة؟ فذهب بعضهم إلى عده ملحمة لتوافر عناصر الملحمة فيه من تأسيسيّة النص، وموضوعه الحربي، زمنه البدئي، وشخصياته الإلهية. وراح آخرون إلى عده قصيدة أسطورية. والغالب على نصِّ إيرَّا أنَّه من القصائد الملحميّة.
شكرا جزيلا على القراءة الوافية لهذه القصيدة، لقد احطت بابعادها تفكيكا كما السوار حول المعصم، والذي استحال الى شغف رائع، اراه يتمظهر في اهتماماتك الاصيلة بالأدب العراقي القديم.اتمنى ان يجد هذا العمل ( لشعري الغنائي – المسرحي) طريقه الى خشبة المسرح العراقي يوما .
تقبل خالص امتناني وتقديري
كل الشكر والتقدير لك أستاذ عبد السلام، وأرجو أن ينال هذا النص الملحمي والنصوص الرافدينية الأخرى ما تستحقه من مقروئية وانتشار وتأثير وتمثيل أدبيّ وفنيّ محليا وعربيا وعالميا.