قاطنة القلعة
ظُلمة
دهرٌ في الظلمة كان
يمتصُّ السوادَ من ثديّ؛
لا أصلَ له ولا وجود
سرابٌ في الخيالِ
ينعدمُ إذا جنَّ الليلُ
على غابة وَحْدته
ما البصرُ، ما السمعُ
ما الصوتُ، ما الرجعُ
دهرٌ في الظلامِ كان
حتى فتقَ الإله الفراغ
أنزلَ النورَ من العلياء
دارَ في الأرضِ عصورا
شعَّ من الرحمِ الوليدُ
جالَ في الأرض دهورا
حتى انتهتِ الظلمةُ بالنداء
سَماع
تعيشُ في الخَلْقِ الأول
شهدتْ انعدامَ العدمِ
ابيضاضَ الشمسِ وحمرَة الدم
النطقَ حين يُصوِّت
القبضةَ تحمل صخرَها
الجسدَ المرويَّ بالقُبَل
جريَ الوحوشِ، قتلَ الأُسودِ
طيورَ الفضاء، وأشجارًا تأكلها النار
متى مُبتداها، تليدةٌ في ذاتها.
حكايةٌ من لسانٍ إلى لسان
تمرُّ من الزمانِ إلى الزمان
فتقَ ذِكرها الأسماع
شدَّ الرحالَ إليها الرجال
ما عادَ من رحل؛
ما خلدَ من مات
حكاية في الأفواه
تدومُ إلى الأبد
شُروع
صحا النهار وأطلقَ تباشيره
اكتستِ الدُّنيا بالنورِ
اليومُ الأول ما زال يتكرر
والخضرةُ الفردوسيّة
تجذبُ الرعاة.
البحرُ الهائجُ يرفع لها الصلاة
تمرَّدَ الماءُ الملعونُ الأجاجُ
’ساعةُ الرحيل ِ
لا توانٍ ولا تأخير‘
طريقٌ طويل
بياضه وسواده سواء
’شمسٌ تحرسُ القلعةَ
قال الأولون بلا دليل‘
خطوة تتبعُ خطوة
حجٌ همجيٌّ بلا كَعْبة
اغبرَّت القدمان
وشَعِثَ الشَّعر
خمسون عامًا
خمسئمة عام
نسلُ الجُرهُميّ الجوَّال1
’ذئابٌ ما نامتْ
تنتظر فِنرنر2
يعوي بالانتصار‘
قلبٌ لا يعرفُ الضلال
أضاعَ السُبلَ والطريق.
’حولَ القلعةِ تدورُ الشَّمسُ،
اِلحقْ محاطَّ الضياء‘.
’يعوي الذئبُ حين لا ينام‘
أخطار
جولان دامَ دهورا
لا الشمسُ واقفةً ولا الذئبُ ينام
حرسٌ مُخلَّدون بأمرِ الإله
قلعةُ الملكوتِ؛ مأوى الغياب
جبالُ الوهم؛ دروبُ السَّراب
أصلها هواءٌ وذروتها سحاب
دليلها سؤالٌ ما له من جواب
يرفعُ البصرَ، اشرأبَّ العنقُ
تعبٌ من ملاحقةِ الخُطى الحافيات
’متى ترقدُ الشمسُ وتنامُ الذئاب؟‘
يصحو في غابةِ ظلمته
لا شمسٌ يتبعُ ضياها
ولا صوتٌ يمزِّقُ الظلام
أبَعْدَ قرونِ السعي
يهبطُ البنيان، إنانا3 يا رحيمة
هذا العالمُ في انتظار-
يدِّكِ المحلَّاة، ساقِكِ ذاتِ الخلخال
لا تموتي الليلة-
امكثي في الأرض بضعَ سنين
’اتبعْ ظِلَّكَ في الظلام‘.
رملٌ هي الأرض
كُثبان في صعود وهبوط
مَيلانُ عجائزَ وتكويرُ نُجُود
تِيهٌ يعكسُ وجه ليلٍ بهيم
وصول
لا وصول إلا بموتٍ
بعيدةٌ عن منال الأبصار
أو هبةٌ تنزلُ إلى الدُّونِ
أوتراها تَهبُ وتهبُّ
نسيمُ يخطفُ الرُّوحَ
ما رجعَ من هناك
كسائرِ من مضى
هذا الدربُ لا يُعيد
يلتهمُ الخطى؛
تبتلعها الرمال
ليلٌ يمضي ويُشرقُ نهار
وتحيا أجسادٌ وتفنى حياة
بالموتِ يصل
وكلٌّ إليها واصلون
رؤيا
نورٌ فوقَ نورٍ فوقَ نور
بعضُهُ من بعضٍ
يملأُ العينَ الناظرة
تخلدُ بعد الفوات
ذوبانٌ في الذات
محطُّ الأرواح الأخير
بعد السفرِ البعيد والقريب
نورٌ دونَ نورٍ دون نور
تجمَّدَ عمودًا يرفعُ السماء
سالَ فوق وجه الأرضِ
وكساها بعد القفارة بالنعماء
تحيا أبدًا وتبعثُ-
مَن سأل الرؤيا والخلود.
1- الحارث بن مضاض، آخر ملوك حِميَر، والمعروف بالجرهميّ التائه. يتيه الجرهميّ في حكاية إسطورية ثلاثمئة عامٍ في الجزيرة العربية.
2- فينرير في الأساطير النورديّة هو ابن لوكي، يتحرر قبيل معركة نهاية العالم وموت الآلهة (الراجناروك)، ويقتل أودين، سيد الآلهة الإسكندنافية في بانثيون آلهة الآيسر.
3- إلهة الحب والجمال والخصوبة، عبدها السومريون في بلاد الرافدين. وقصيدة هبوط إنانا إلى العالم السفلي أقدم قصيدة ملحمية في التاريخ البشري.