المقامات اللزوميّة – أبو الطاهر السرقسطيّ
كتبَ المقامات بعد الحريري لفيفٌ من الأدباء، وكان من أوائل من كتب مقاماتٍ متأثرًا بالحريري الأديبُ أبو الطاهر إسماعيل بن خلف السرقسطي. يقول عنه ابن خلكان “كان لغويا أدبيًا شاعرًا، ومعتمدًا في الأدب، فردًا متقدما في ذلك في وقته. مات بقرطبة يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين وخمسمئة”. أما مقاماته المُسماة باللزوميّة أو السرقسطيّة فيقول أبو الطاهر في افتتاحها “فهذه خمسون مقامة أنشأها أبو الطاهر محمد بن يوسف التميميّ السرقسطيّ بقرطبة من مدن الأندلس عند وقوفه على ما أنشأه الرئيس أبو محمد الحريري بالبصرة، أتعب فيها خاطره وأسهر ناظره، ولزم في نثرها ونظمها ما لا يلزم فجاءت على غاية من الجودة والله أعلم”. إنَّ القارئ لهذه المقامات يعرفُ مدى الجهذ المبذول فيها، لا سيما في أسلوبها اللغوي وما ألزمَ السرقسطي نفسه فيها ما لا يلزم، لكنها مع ذلك فقد جاءت وعرةً ليست بالسلسلة ولا السهلة، ضعيفةً في روحها الأدبية والإبداعيّة. اقتفى السرقسطي الحريري في بُنية مقاماته إذ وقفها على شخصيتيّ الراوي السائب بن تمّام والبطل أبي حبيب السَّدوسي، وهما يشبهان سابقيهما الحارث بن همَّام وأبا زيدٍ السَّروجي، بتوطئة ثم الحدث الرئيس ثم التعارف والفراق. جدَّد السرقسطيّ تجديدًا طفيفًا في مقاماته، ويبرزُ أول تجديدٍ أنَّ مقاماته يرويها روايان، فيروي المنذر بن حُمام عن السائب بن تمّام، وبعض المقامات يرويها مباشرة السائب بن تمام (لا أدري أمن السرقسطي أم حذفُ النُسَّاخ). وجاءت أغلب المقامات مرقَّمة بدون عناوين، وظهرت المرأة في بعض المقامات ليكون الموضوع في الحبِّ والتصابي، وتبرزُ سمةُ السرقة عند السدوسي. وكثيرًا ما يعرف السائب حيلة أبي حبيب السدوسي برقعةٍ فيها شعرٌ يتركها السدوسي وراءه بعد أن يُتمَّ حيلته. ويأخذ السرقسطي شخصياته إلى بلادٍ جديدة كما في الصين والهند. كما يلعبُ السدوسي دور راويةً للقصص كما في مقامة الرّخ، السادسة والثلاثون، وهي ذات موضوعٍ شبيه لمغامرات السندباد، يقص السدوسي على جماعة من أهل الصين حكاية، حيث كان في جماعة يضربون في الأرض حتى وصلوا إلى أرض ملساء، فتحركت واتجهت نحو البحر ثم غاصت فيه وبدأوا يسبحون حتى وصلوا إلى جزيرة، وبعد أيام رأوا في السماء طائر كبيرا، والتقوا، أثناء ظهور الطائر في هذه الجزيرة، بعابد عرفوا منه أن الطائر هو الرخ ويمتثل لأمر العابد، وعلموا أن تلك الأرض الملساء هي السلحفاة، ثم وصلوا إلى أرياف النيل بمساعدة العابد، الذي طلب من طائر الرخ أن يوصلهم إلى بلادهم، ونصح السدوسي وأصحابه أن يصعدوا فوق جسد الطائر ويتشبثوا به حتى يصلوا إلى بلادهم إذ سيمر الطائر ببلاد كثيرة. ومن المقامات اللافتة مقامة الأسد، وفيها يهاجم الأسد السدوسي وأصحابه في سفرهم، فيفرون ويبقى وحده، فيخاطبُ الأسدَ قبل أن يهاجمه، فيحجمُ الأسدُ عنه ويتركه. وفي المقامة الأخيرة، يتوب السدوسي مثل سلفه السروجي، لكن لا يُبقي السرقسطي على السدوسي فيُتبعُ توبته بالموت.