
نشيد النبيلونغ ملحمة شعرية جرمانيّة عن عالم الملوك والفرسان الأبطال، وكل ما يتَّسمُ به من أعراف الفروسية والشهامة والبسالة عارضةً حياة هؤلاء وعاداتهم وسلوكياتهم وأخلاقياتهم سواء في داخل القصور والمساكن أو خارجها وفي أوقات السلم والحرب والاحتفالات والجنائز. تقدّم عالمًا محددًا يرتبط بعلّيّة القوم، فهُم مادة الملحمة وأصلها وكل تفرعاتها، في حُلَّةٍ بهيّة من القوة والجمال والعظمة والأسطوريّة والشجاعة الخارقة والشرف والوفاء وحفظ العهود والكلمة والطاعة المطلقة لمن هم أعلى قدرًا ومكانة، وإنْ خُرقت بعض هذه الصفات فإنها تُخرق لأجل عارضٍ أكبر أو على مضضٍ ولا تُصوَّر إلا بطوليًا في أكثر الأحيان. لم يقتصر حضور هؤلاء على الرجال حَسْب، بل وشمل النساء كذلك وإن غلبَ الرجال عليهن لكنَّ الحضور الأنثوي بارزٌ، وهو المحرِّك لمعظم أحداث الملحمة المهمة المتمثل في شخصيتين بارزتين هما كريمهيلد وبرُنهيلد. يرجع تاريخ تدوين هذه الملحمة إلى العصر الجرمانيّ الأعلى الوسيط الممتد ما بين سني 1050 و1350 م، ويحدد أحد مترجميها إلى الإنجليزية، آرثر توماس هاتو، تاريخ تدوينها ما بين سنيّ 1191-1204 م، بالاعتماد على ما وردَ في الملحمة من إشارات إلى أماكن أو أحداث أو مفردات تخص الثياب أو الطعام وما شابه ذلك، وإلى تاريخ المخطوطات الأم. واتباعًا لأعراف شعراء الملاحم البطولية في تلك الحقبة وإبقاء أسمائهم مجهولة، فلا توجد أيُّ معلومة متفق عليها بخصوص الشاعر، وكل ما يرد عنه تحليلاتٌ وتكهُّنات فقط. لا يقتصر الأمر على الشاعر بل كذلك على راعي هذا الشاعر الذي يكتب عنه هاتو بأنه قد يكون ولفغير، أسقف باساو (منطقة جنوب بافاريا)، ومن المرجَّح كذلك أن تكون نسخته، المنقَّحة عن آخر نسخ الشاعر في سنة 1204 م، مُحدِّدَةً لتاريخ كتابة الملحمة، ومن الوارد أنها دوّنت قبل هذا التاريخ. اختفت مخطوطات نشيد النبيلونغ ونُسخها المتعددة في نهاية القرن السادس عشر، وعُثرَ في أواخر القرن الثامن عشر على كثير من هذه المخطوطات، التي يتراوح زمنها ما بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر، في جنوبي ألمانيا. توجد اليوم نحو ثلاث وسبعين مخطوطة، منها إحدى عشرة مخطوطة كاملة، مع بعض الفوارق اليسيرة بينها كوجود مقاطع أو تتمة في أواخر الفصول غير موجودة في أخرى، أو الاختلاف في السطر النهائي من النشيد، لكنها لا تؤثر شيئًا في الحبكة وتسلسل الأحداث. يتكوَّن نشيد النبيلونغ من 2400 مقطعٍ، وعنوان القصيدة مشتق من السطر الأخير منها “هذه نهاية قصتنا، وآخرة سلالة النِبيلونغ“. يرى كارل لاخمان، في دراسة منشورة عام 1816 م، بأنَّ نشيد النبيلونغ يتألف من عدد من الأناشيد والأغاني المميزة، واستنادًا إلى معاييرَ محددة، كما يذكر دانييل ب. شوموي، فقد حذفَ لاخمان عدَّة أجزاء من نشيد النبيلونغ اعتقد أنها متأتية من زيادات أو إضافات لسدِّ الفراغات في النص، وأنتجَ نصًّا رأى فيه الصيغة الأصلية من النشيد، ويتكون من عشرين أنشودة لا غير، هي نفسها التي أنشدها شعراء مختلفون في زمانها. كُتبَ نشيد النبيلونغ باللغة الجرمانية العليا الوسطى، وكانت الجرمانية العليا لغة الكلام والكتابة ما بين سني 1100 و1500 م، وبالتحديد كُتبَ النشيد باللهجة النمساويّة في القرن الثاني عشر تقريبًا، لكنه يضمُّ الكثير من الكلمات البائدة مما يُرجّح أنَّه خضع للكثير من التنقيحات والتعديلات. نُظمَ نشيد النبيلونغ بالشعرِ الجِناسي، وهو نظام شعريّ للقصائد الطويلة، ويتألفُ كلُّ سطرٍ من شطرين، يطغى على كلِّ شطرٍ صوتٌ واحدٌ يتكرر في كلمتين أو ثلاث ليمنحَ الشطرَ نَغَمًا مُعيَّنًا. وكان هذا النظام معتمدًا قبل استخدام القوافي والبحور الشعرية في الشعر الجرمانيّ والإنجليزيّ القديم، وبقي هذا الأسلوب في النظم مُستخدمًا وإنْ قلَّ استخدامه في العموم، ومن بين المتأخرين الذين استخدموه في بعض كتاباتهم وترجماتهم الكاتب الإنجليزي ج. ر. ر. تولكين، والشاعر الأمريكي عزرا باوند في بعض قصائده.
ينتمي نشيد النبيلونغ إلى الأساطير البطوليّة الجرمانيّة، والتي هي بدورها جزء من الحكايات الشعبيّة الجرمانيّة. انبثقتْ هذه الحكايات البطوليّة الأسطورية في حقبة الهجرات التي اجتاحت أوروبا ما بين القرنين الرابع والسادس للميلاد، وشهدت أجزاء شرق وشمال أوروبا العديدَ من التغييرات على المستوى الإثنيّ والسياسيّ ونُظم الحكم، وقيام ممالك وسقوط أخرى، وبروز ملوكٍ واندثارِ آخرين. لذا فإن الكثير من هذه الحكايات البطوليّة والأناشيد ذات الطابع الأسطوريّ تتعلّق بزمن بدائي عن تلكَ الحقبة، وتُشدد على قيم أخلاقية رفيعة وسلوكيات إنسانية سامية مثل الشجاعة والوفاء والحب العفيف والعدل والمجد والبطولة. يضع الأستاذ فكتور ميليت شرودر ثلاثة معايير للحكايات البطوليّة الجرمانيّة، الأول ارتباطها بحقبة الهجرات نشأةً أو أحداثًا. والثاني إنَّ هذه الحكايات تؤسطرُ (أو تُخرِّف) العصرَ البطوليّ، وتفقد ارتباطها بالتاريخ، وتتعلق بشخصيات أسطوريّة لا يُمكن أن تُوجد في الحقيقة. والأخير إنَّ الأساطير الجرمانيّة لا تتقاطع مع الأساطير الأخرى وإذا ما حدثَ ذلك فهو نادرٌ. من هذه الأساطير الجرمانيّة انبثقَت ملحمة نشيد النبيلونغ مُقدِّمةً شخصياتها الخيِّرة والشريرة في نموذج مثالي عالٍ، وهذا ما تمتازُ به الملاحم عموما. ويضع فلادمير بروب ثلاثة معايير لتصنيف الملحمة: زمنها هو الزمن البدئي التأسيسي أي العصور الغابرة حيث مثالية العالم حتى الشر مثالي، وموضوعها القوميّ (أو الوطنيّ) فهي تعبر عن نشأة أمة، وتدوينها في زمن لاحق على أحداثها مستمَدّا من الحكايات البطولية والقصائد الشفويّة. تجتمع هذه المعايير في نشيد النبيلونغ، ويزيد على ذلك أهميَّتها في توثيق الحقبة الوثنية (ما قبل النصرانية) في شمال أوروبا والحقبة النصرانية في تزاوجٍ نراه بجلاء في بلاط الملكِ إتزل، والأحداث التاريخية ما بين القرنين الخامس والسادس للميلاد، وتقديم نصٍّ أدبي مثالي عن عصر الفروسية والشهامة والحب الفاضل الشائع في آداب القرون الوسطى. شاعَ نشيد النبيلونغ منذ القرن الثاني عشر حتى القرن السادس عشر، نظرًا لكثرة المخطوطات التي يعود زمنها إلى تلك الحقبة، ونُسيت بعد شهرتها العالية بانتهاء عصر الفروسية، ويعود فضل كبير في إحياء هذه الملحمة إلى الموسيقار الألماني فاغنر ودراماه الموسيقية “خاتم النبيلونغ The Ring of Nibelung” التي اقتبسها في القرن التاسع عشر من نشيد النبيلونغ وسيرة آل فولسونغ والأساطير الإسكندنافيّة. وتعدُّ اليوم ملحمة وطنيّة ألمانيّة تعبِّر عن جوهر الروح الألمانيّة والأخلاق الجرمانيّة الأصلية.
موضوع الملحمة
يتنقّل موضوع الملحمة ما بين الفرح والحزن، والبهجة والأسى، والانتصار والهزيمة، والشجاعة والجبن، والوفاء والغدر، ولعلَّ آخر سطور الملحمة تدلُّ على فحوى الملحمة وفكرتها الأساس حين يقول شاعرها “وانتهى احتفال الملكِ السامي بالمأساة، كأي فرحةٍ مآلُها في الختام الأحزان“. تتسم الملحمة في فصولها وتقلباتها بسمة تعاقب المسرَّات والأوجاع، ودائمًا ما عقب الحزنُ الفرحَ، فما من حزنٍ دائمٍ أو فرحٍ لا ينتهي لكنهما متتابعان تتابعَ الليل والنهار، وللحزن الكعب الأعلى في هذه الاقتياف، فموت سيغفريد وكريمهيلد والأبطال من ملوك وفرسان يسمُ الملحمة بالأسى والألم، فهي إنْ مجَّدت البهجة طورًا فقد مجَّدت الحزن أطوارًا. لا يقف دور الحزن وتفتيته الأكباد في كونه يعقب الفرح حسب، بل في أنَّه محفِّز للأفعال باقتياته على ذوات الشخصيات ومؤجج لنيران الثأر من رماد النسيان وإنْ طواه الزمن آمادًا. ولعل نيران الانتقام والحقد التي ما خبا سعيرها في صدر كريمهيلد دليل على نجاعة ما يفعله الحزن في النفس البشرية، لا سيما باحتياج المرء إلى أن يُطفئ من نيرانه بالثأر لموت عزيزٍ، فهو حزن من نوعٍ أعلى، ممزوج برغبة الثأر، والحقد، والكراهية، والضغينة، وكما يقول شاعر قصيدة بيوولف: “لمن الخير دائمًا أن نثأر لأعزائنا على أن ننغمس في النحيب“. لا ترفع الملحمةُ الحزنَ والفرحَ إلى حلبة تصارعِ متنافسيْن اثنين بل في كونهما من الطبيعة البشريّة، وعنصرين مُهمين في هذه التركيبة النفسية، فلا يوجد انتصار لطرف على آخر بل في تقديم ما تفعله هذه المشاعر في النفوس وما تحضُّ عليه من أفعال عظيمة أو دنيئة. والملحمة كذلك لا تُمجِّد أبطالها تمجيدًا مطلقًا فثمة مثلبة تُنقصُ كلًا منهم على حدة، وفيها ما يكفي لأن يفسَّر ضدَّها، وإن بدت بعض الأفعال بدافع الخير كما لدى سيغفريد في أثناء رحلته مع غونتر لزواج برُنهيلد في آيسلندا. في خضمِّ كل هذا، فإنَّ الملحمة وفيّة لعالمها البطوليّ الذي أنشدته، فنحن في آخر المطاف نقرأ عن البطولة والبسالة التي يبذلها المقاتلون في سوح الاقتتال، وكلما حميَ وطيس القتال اشتدَّت ذروات الملحمة لتحافظ على جوٍ دمويّ من صراع يفوح بالإقدام والرجولة والعزيمة والجراءة، فلا شيء يردع الشجاع من أن يسقي خصومه كأس الردى، والملحمة في بعض أجزائها تنتقل بتعظيمها لهؤلاء المقاتلين إلى نوع من الوحشيّة والهمجيّة كما في شرب الدماء إرواءً للعطش في أثناء القتال في معركة القصر وانعدام الماء، بل وإنَّ مذاق الدماء أطيبُ من الخمر. فصناديد الفرسان لا يخشون موتًا ولا يرغبون في حياةٍ لا يختارونها بأنفسهم فهم يجدون في الاستسلام مذلةً وفي إغماد السيف وقتَ إشهاره عارًا لا تُحتمل الحياة بعده، وأنَّ رباط الصداقة والأخوَّة ورفقة السلاح عروةٌ وثيقة لا تنفصم وتزداد شدَّةً بتقدِّم القتال. تتغنى الملحمة بمآثر الأبطال والملوك والفرسان التي تُبرزُ علانيةً أو ضمنية متجسِّدة بالأفعال، فالحفاظ على هذه الأعراف طوال فصول الملحمة يُثبِّتها في وجدان المتلقي ليكون حكمه في صواب وخطأ ما يبدر من الشخصيات سابقًا لحكم الشخصيات بعضها على بعض أو تعليق شاعرها.
ولا أغفل بحالٍ من الأحوال عن موضوع الحب في الملحمة، فالنصف الأول من الملحمة الذي دار حول سيغفريد منذ سفره لأجل زواج كريمهيلد وحتى نهايته، لم يكن ليتمَّ أيُّ حدثٍ فيه لولا سفره بدافع الحب الذي يكنَّه لكريمهيلد والوفاء والولاء لإخوتها وأهلها باسم حبِّه لها، والحبَّ نفسه هو المُحرِّك للنصف الثاني من الملحمة الذي تركَّز حول كريمهيلد ورغبتها في الثأر لزوجها من أهلها، وكل ما فعلته منذ زواجها من الملك إتزل وحتى أخذها ثأرها بإسراف أبادتْ فيه فرسانًا وأبطالًا وملوكًا من أنصارها وخصومها، ولم يردعها شيء عن تنفيذ ما رمتْ إليه سنين طويلة حتى تحقق مرادها في الأخير. إنَّ امتزاج الحب بالثأر لا يلغي فيه أحدهما الآخر فهو امتزاج وانفصال في الوقت نفسه، فمشاعر الحب واضحة ورغبة الثأر جليّة، فطغى الحب على سيغفريد وأعمى بصيرته فمنح ثقة مطلقةً لمن يحبهم حتى كانت نهايته على يدهم، وحرَّك الثأر كريمهيلد وتغلَّب على أواصر الدم والقرابة والنَفْس حتى كان لها ما سعت إليه بعد مقتل زوجها. لذا فالثأر من مواضيع الملحمة التي سعى الشاعر لتصويره وتجسيد تأثيراته في الملحمة من دون هوادة، فتجندُل الفرسان ومَقتل الشجعان ما هو إلا ثمرة نقمة الثأر التي بُذرت في نَفْسِ كريمهيلد بخطف سيغفريد منها، الثأر الذي اتصل بالحزن والأسى والضغينة والحقد فتغذَّى على أوجاع صاحبته، ونما مستفحِلًا حتى صار وحشًا ضاريًا أهَلْكَ القريب والغريب والشريف والوضيع، ومن لم يرتشف من كأس المنون فقد حقَّ عليه النوح والبكاء على من خسرهم في انطلاقة وحشِ كريمهيلد.
أكَّدت الملحمة الأخلاق التي امتازت بها الشخصيات الرجالية في فصولها العديدة وفي أحلك ساعات القتال والصراع، ومن أبرز المواقف التي أكدت أخلاق الفرسان ما حدث مع رودِغر الذي رفض طلبَ ملكه إتزل وزوجه كريمهيلد بقتال غونتر وأتباعه، متعذِّرًا بأنه استضافهم في بيته وأطعهم طعامه وسقاهم شرابه وهو الذي أوصلهم إلى هنغاريا لحضور احتفال الملك إتزل، وكان هو المبعوث الذي رحل إلى مملكتهم في فورمز، وزوَّج ابنته غيزلهير، أخي غونتر، فهو يهين شرفه بقتال من استضافهم وأوصلهم إلى مملكة إتزل، بل وزاد أن طلبَ من ملكه أن ينزل له عن كل أراضيه وقلاعه مقابلَ أن يعفيه عن قتال غونتر وأتباعه، ورأى في الموتِ راحةً من فعل ذلك، لكنه وباسم الولاء والخضوع لملكه قاتل غونتر ورجاله قتالًا سُبقَ بما دمعت له مآقي الفريقين وما وقع فيه من إفصاح لدوافع القتال والاضطرار إليه من قبل رودِغر بل وإهدائه درعه لخصمه.
يتجلَّى في الملحمة كذلك عالمُ الملوك وما فيه من آداب وضيافات وعادات وتقاليد وتشريفات واحتفالات واجتماعات، وتكشف التفاصيل الواردة أنَّ الشاعر عارفٌ بهذا المجتمع والعالم الملوكي أو قد يكون جزءًا منه. ويتعلق أبطال الملحمة وأهم أحداثها بالملوك الذين هم فرسان أيضًا، تبدأ الملحمة بذكر ملك البلاد المنخفضة (النيدرلاندز) “سغموند“، ثم لاحقًا ابنه الملك “سيغفريد“، وملك فورمز “غونتر“، وملكي السكسونيّن والدنمركيّين “لودغير ولودغاست“، وملكة آيسلندا “برُنهيلد“، وأخيرًا ملك هنغاريا “إتزل“. ينقل الشاعرُ حياةَ البلاط وفعالياته الرسمية وطقوسه والبعثات الرسمية للرسل حتى إنه خصص فصولا يعرض فيها كيف استعد الملوك للسفر، وكيف تنقَّل الموكب الملكيّ في رحلاته، وكيف استُقبل عند وصوله، وما شابه ذلك من مواضيع قُدِّمت كاملةً ومن كل جوانبها الممكنة. ويقتصر عالم الملحمة على البشرِ والمعقول تقريبًا لكنه يضم في بعض فصوله وأحداثه غيرَ المعقول والأسطوريّ والسحريّ. وفي الملحمة أجناس أخرى غير البشر كالأقزام الذين كانوا أتباع سيغفريد، والعمالقة في أرض الأقزام، وجنيات الماء (Nixie)، والوحوش كالتنين، لكن هذه الأجناس غير البشرية دورها محدود لا يكاد يُذكر إلا عند الحاجة إليه. ويتمتع سيغفريد وغونتر وهاغن والأبطال الآخرون بشجاعة لا تُضاهى ولا مثيل لها، وامتازت المعركة في القصر بين الهنغاريين والملك غونتر وأتباعه بشجاعة البرغنديّين الخارقة في دليل على أسطوريتهم القتالية، إذ تقتل فئةٌ قليلةٌ المئاتِ والآلافَ في مبالغة واضحة لا تتناسب مع العالم البشري الضام لهذه الملحمة، فقوَّة وشجاعة هؤلاء الفرسان خارقة للطبيعة وللمعتاد منها، ليُوسَمَ هؤلاء الأبطال بسمة الأبطال الآلهة الذين لا يموتون إلا على يد أبطال آلهة مثلهم، وعلى الرغم من غياب الآلهة التي كانت تحفظ الأبطال في ملحمة الإلياذة والإنيادة فإن مقاتلي نشيد النبيلونغ يتمتعون بتلك الشجاعة التي تقوم مقامَ حِفْظ الآلهة ورعايتها للأبطال، فبسالتهم وإقدامهم هو الإله الذي يدعمهم ويُنجيهم من كل المخاطر المحدقة من ضربات السيوف وطعنات الرماح وكل ما يؤذيهم. ومن الأمور الخارقة للطبيعة في الملحمة ما تمتَّع به سيغفريد من جلد لا يُخترق بعد أن اغتسل بدم التنين الذي قتله خلا موضع في عظم الكتف، وكذلك العباءة السحرية التي تُخفيه عن الأنظار إذا ارتداها.
شابَ أحداث الملحمة بعض التناقضات في أقوال الشخصيات في الفصول المختلفة كما في تبرئة غيرنوت نفسه من دم سيغفريد وهو الحاضر عند التآمر عليه، أو القرارات التي تتخذها الشخصيات ولا يمكن الوقوف على تفسير مقنع لها، كما في قبول الملك غونتر قتل سيغفريد مع أن الأخير كان مخلصًا له ووفيًا وزوجَ أخته، ثم شعوره بعد ذلك بخطأ الفعلة لكنه يوافق بعدها على سلب هاغن كنزَ أخته، كريمهيلد، أو في رفض كريمهيلد العودة إلى مملكة زوجها المقتول في البلاد المنخفضة والبقاء في مملكة أهلها، في مدينة فورمز المطلة على نهر الراين، مع إدراكها أنَّ إخوتها وتابعهم هاغن هم من قتلوا زوجها. وينقطع ذكر بعض الشخصيات في الملحمة انقطاعا تامًا مع أنَّ لها بروزها وحضورها في فصولٍ سابقة، أو انبثاق شخصياتٍ فجأة ليكون دورها الكبير في الأحداث التي تلج إلى قلبها كأي بطل من أبطال الملحمة الثابتين. يغيب مفهوم تأثير الزمن في الشخصيات لا سيما الفرسان وما يتمتعون به من القوة والشجاعة التي بدا أنها لا تتأثر بتقدم السن وصروف الدهر وكأنهم يتمتعون بشباب خالد وقوة أبدية. وتُذكر أعداد كبيرة لا يسعها المكان المذكور لا سيما تلك المعارك التي حدثت في القصر في مملكة هنغاريا في فصول الملحمة الأخيرة التي بدت أسطوريّة وخياليّة ومبالغ بها كثيرًا بمقاييس الواقع.
سيغفريد الفارس الهمام
لسيغفريد دورٌ بارزٌ في الملحمة؛ يشغل النصف الأول منها، ويقترن بكريمهيلد التي سعت بعد موته للانتقام من قَتَلتهِ، فثأرت له وقتلت قاتله بسيفه في النصف الثاني، لذا فلم يغب ذكر سيغفريد طوال الملحمة سواءً بحضوره الفعلي أو بغيابه الحاضر الذي حرَّك الأحداث وكان جزءًا منها ضمنيًا. يتَّسم سيغفريد بكل سمات البطولة من شجاعة وبسالة وإقدام وجمال وعظمة وفروسية ورفعة النسب فضلًا عن كونه ابن ملك وملكًا على البلاد المنخفضة، وأتمَّ في شبابه مغامراتٍ وحقق مآثر كقتله التنين الذي استحمَّ بدمه فمنحه صلابة الجلد فلا يخترقه شيء، عدا موضع في عظم كتفه الأيسر لوقوع ورقة شجر عليه، وحصل على عباءة الإخفاء السحرية، وأخضعَ أقزام النيبلونغ، واستولى على كنزهم العظيم، ثم بعد رحلته إلى مملكة فورمز شارك في قتال السكسون وهزيمتهم وأسر ملكيْهم وساعد الملك غونتر في الفوز بملكة آيسلندا، برنهيلد. زادُه كل صفات الأبطال الذين تزخر بهم الملاحم فهو لا يقلّ شيئًا عن البطل الهوميريّ آخيل وأدويسيوس وهيكتور الطرواديّ، أو آينياس الطروادي في ملحمة فيرجيل، أو أبطال الهنود في ملحمتي المهابهاراتا والرامايانا، أو عن البطل رستم في ملحمة الشاهانامه، ويضعه هذا في مصاف أولئك الأبطال، لكنه يقلِّ عنهم بشيء واحدٍ فقط وهو الموت المبكر في منتصف الملحمة أيَّ إن الشاعر لم يمنحه المجد الكامل في أن تكون الملحمة منظومة في التغني بحياته وشجاعته. لم يكن موته بِدعًا من موت الأبطال من قبل فقد مات آخيل في حرب طروادة مع أن الإلياذة تنتهي قبل أن تذكر ذلك، لكن القارئ يعلم هذا بذكر موته في الأوديسة، وكذا الحال مع أبطال المهابهاراتا فهم يموتون أيضًا في نهاية الملحمة، ويموت رستم الفارسيّ لكن في حقبة متأخرة من الشاهانامه التي تتحول بعد وفاته إلى الجانب التاريخي أكثر من الجانب الأسطوري والخيالي العجيب، إذ امتازت به في حِقبها التاريخية السحيقة التي عاش فيها رستم، ويطوي موت رستم صفحة الأبطال الخارقين فلا يظهر بعده بطل تتغنى الشاهانامه بمآثره وعجيب صنائعه. لكن موت سيغفريد هو موت في منتصف الملحمة ليغيب عن أعظم معارك الملحمة وأشدَّها ضراوة تلك التي خاضها غونتر وهاغن والبقية في بلاط الملك إتزل في هنغاريا، فهو بموته لا يختم ذكر الأبطال ويطوي برحيله مسيرتهم لكنه يسلِّم الراية لأبطالٍ آخرين لا يقلون عنه قوة وبأسًا فكان واحدًا من مجموعة لم يتفوَّق عليهم بالمطلق مع استحقاقه هذا، وينقص من قدره أيضًا نهايته التي كانت غدرًا على يد أقارب زوجته الذين والاهم وأخلصَ في صُحبتهم، وهنا كذلك لا يتشابه موته مع موت رستم الذي قتله أخوه غدرًا لأن رستم عاش حياةً مديدة عاصر فيها ملوكًا وممالكَ وخاضَ حروبًا وكان قَلْبَ البطولة حيث حلَّ، وموته نهاية لأحداثٍ كثيرة ولم يسعَ أحدٌ للثأر له كما سعت كريمهيلد، وفي هذا السعي انتقاص من قدر سيغفريد كذلك فهو لم يمت في سوح الوغى كما مات آخيل في طروادة، وأن يسعى أحدهم للثأر له فهذا يشير إلى أن الطريقة التي مات فيها لا تليق ببطل فالأبطال حين يموتون يكونون بالضرورة قد أخذوا ثأرهم سلفًا وليسوا بحاجة بعد رحيلهم إلى أن يثأر لهم أحد، فمثلهم ليس لهم نظير أو كفؤ حتى يُثأر منه، ويوحي الثأر بالضرورة أن قاتله فاقه في سمة من السمات كالشجاعة أو الدهاء أو المكر، ومع سيغفريد فإن الثقة المفرطة وقلة التدبير وأخذ الحيطة والحذر هي التي سهَّلت موته على يد هاغن، ووقع في خطأ كشف السر لزوجته مرتين، وهاتان المرتان هما السبب في تعجيل قتله. لا يقلل ذلك من قيمة البطل سيغفريد وثقله في الملحمة لكنه يضعه بشكل أو بآخر في مقام أدنى من أبطال الملاحم الآخرين.
منحَ الشاعرُ سيغفريد حياةً بطولية، ومما يبدو أنه أسبغَ عليه من سمات الإله الإسكندنافي بالدر، الذي أخذت أمه الإلهة فريج عهدًا من كل ما موجود على ظهر البسيطة ألا يؤذي بالدر. اكتسب بهذا مقدرةً حصَّنته من كل ما يمكن أن يؤذيه ما عدا نبات الهدال الذي رأت فريج في غضاضته ما يمنع أذية ابنها، لكنها تُخطئ الظن ويموت بالدر بسبب هذا النبات بعد أن يرميه عليه أخوه هوث بمكيدة من الإله لوكي، وكان موته مُنبّئًا باقتراب معركة راغناروك ونهاية العالم. لهذا فإن سيغفريد، مما يتراءى لي، هو تجسيّدٌ بشري للإله بالدر سواء بما امتلكه من جلدٍ لا يُخترق ما عدا موضع في عظم كتفه الأيسر أو في كون وفاته هي بداية النهاية لمملكة فورمز والبرغنديين. فهو وإنْ كان بشريًا فانيًا وبطلًا انتهت حياته مبكرًا فقد جمعَ في شخصه وقصته الإلوهية البشريّة والشجاعة الإلوهيّة الأسطورية.
راغناروك الفرسان
إنَّ الفرسان هم مادة الملحمة وعالمها إذ يشغلونها منذ البداية إلى النهاية، فقيم الفروسية والشجاعة وأخلاقياتهم وكل ما يمتُّ إليهم بصلة مقدَّم على ما سواه، فحتى مثالبهم وما يعيب قيم الفروسية من غدرٍ أو نقض العهود والمواثيق يُصوَّر على نحوٍ بطولي أو سرعانَ ما يُتجاوز عنه فتطغى عظمة الفارس على الأخطاء المحرَّم الوقوع فيها، فهاغن الذي يغدر بسيغفريد على الرغم مما قدَّمه لغونتر والبرغنديّين ينال من المكانة والحظوة في الملحمة ما يرفعه إلى أن يكون ثالث أهم شخصية في الملحمة بعد سيغفريد وكريمهيلد، وفي موته الذي استحقه ما يُثبت أنَّ الفارس في الملحمة مقدَّم على كل ما سواه، وقدره محفوظ من الثلم على يد غير الفرسان، فيرثيه الملكُ إتزل ’وا أسفاه، إنَّ خيرَ فارسٍ حملَ ترسًا في الميدان يُسقى كأسَ المنايا على يد امرأة! كان عدوِّي حقًا لكن يُحزنني قتله صدقًا‘. ويصيح الآخر هيلدبراند ’لن تنجي بفعلتكِ وتفرحي بإقدامكِ على قتله وإنْ كان دونَ ذلك شرطُ الحداد، سأنتقمُ لمقتلِ أميرِ ترونِك الباسل وإنْ هلكتُ دون ذلك‘. تُبرز لنا هذه الحادثة المهمة، وهي خاتمة الملحمة، أنَّ الفارس لا ينال منه إلا فارس نظير له في المقام والفروسية وليس من حقِّ أي امرئ ليس بفارسٍ أن يُخطئ بفعلته مع فارسٍ. هكذا أكَّدت الملحمة مجدَ الفرسان وعلوهم وشرفهم، وأنها ملحمة تخص الفرسان وحدهم سواء أكانوا ملوكًا أو أمراء أو قادة، فالفروسية شرط لا بد منه ليحجزَ البطلُ مقامًا رفيعًا له وسطهم. فلم تعظِّم الملحمة أيَّ شخصية ولم ترِد على ذكر أيّ رجلٍ ما لم يكن فارسًا وهكذا أُقصي جميع الرجال خلا الفرسان من الملحمة فلا موطئ قدمٍ لهم وسط هؤلاء. ولعلَّ أهم ما أعلى شأن الفروسية والفرسان في الملحمة هو التصوير البطولي لأخلاقيات الفارس مع رودِغر، تابع الملك إتزل وزوجته كريمهيلد، حين طلبا منه أن يقاتل والبرغنديّون في القصر، فرفض قتال البرغنديّين لأنه أضافهم وشاركهم طعامه ثم يضطر في الأخير لقتالهم، لأنه تابع ومفروض عليه أن يلتزم بما عاهد عليه ملكَه من ولاء، فهو يقع بين كماشتيّ مبادئه وفروسيته فهو يُخطئ في الرفض ويُخطئ في القبول، كل هذا منحه قتالا بطوليًا ونهاية بطوليّة. والأمر الآخر الذي أعلى من شأن الفروسية هو معركة القصر، والقصر إشارة إلى فالهالا، القصر الذي ابتنته الآلهة الإسكندنافية “الآيسر“. كان كبير الآيسر، أودين، يختار الشجعان الذين يسقطون في سوح الوغى ويجمعهم في فالهالا استعدادًا لمعركة راغناروك، معركة نهاية العالم وموت الآلهة، وهنا يتَّضح لنا أن الفرسان هؤلاء هم فرسان أودين الشجعان، والآلهة البشرية التي تتحارب فيما بينها، ويُفني بعضهم بعضًا وهذا ما حدث في نشيد النبيلونغ.
لا يمكن لقارئ الملحمة والمطَّلع على الأساطير الإسكندنافية/ الجرمانيّة التغافل عن التشابهات والإشارات الواردة في الملحمة وتلك الموجودة في عالم الآلهة الأسطوري في معتقد الإسكندنافيين والجرمانيين. يبرزُ تشابهان اثنان سأفصّل في بيانهما: الأول ما بين سيغفريد والإله الإسكندنافي بالدر، والآخر ما بين معركة القصر ومعركة راغناروك (أو معركة موت الآلهة).
يقص سنوري ستورلوسن في كتابه The Prose Edda، في الفقرة الحادية والخمسين من القسم الأول في الكتاب، عن مقتل بالدر على يد أخيه الأعمى هوث (أو هود). تبدأ القصة مع بالدر الطيب المعروف برؤاه المتحققة بخيرها وشرِّها، ورأى في إحدى المرات رؤيا تشكِّل خطرًا على حياته إذا ما تحققت، وهي متحققة لا محالة. لذا ارتأت الآلهة أن تحميه من كل أنواع الأخطار. وأخذت أمه فريج عهدًا من جميع ما موجود على وجه المعمورة من مخلوقات وجمادات وأشياء غير ماديّة من صخور وأمراض وسموم وأشجار وطيور ووحوش وهوامٍّ ألا تؤذي بالدر وتحفظه من السوء، وبعد أن أُخذَ العهد عليهم اجتمعَ الآيسر للتسلية ووقف بالدر على المِنصَّة، وبدأ الجميع يحاول أذيته بالرمي والحذف والقذف ومحاولة الجَرح. سألت امرأةٌ بعدها فريج إن كانت أخذت العهد على جميع الأشياء فأجابت فريج بنعم عدا نبات، وهو الهدال، ينبت شرق فالهالا رأته غضًّا على أن يؤذي بالدر. ليستغل لوكي، الإله الشرير في الأساطير الإسكندنافية، هذا بعد أن سمع الكلام، وأخذ غصنًا من النبات وأتى إلى هوث، وسأله لماذا لا يرمي هودر فأجابه لأنه لا يراه فضلًا عن أنه أعزل. أزَّ لوكر هودر على رمي أخيه ورماه بمعونته بغصن الهدال فقتله. أشاع موته بين الآيسر الحزن والأسى وبكوا عليه جميعًا وماتت زوجته، نانا، كمدًا حين رأت جثمانه مسجّى على متن سفينة متجهة نحو مثواه الأخير في هيل (منزل الأموات وهيل اسم إلهة عالم الأموات). لم يهدأ بال الآلهة حتى أرسلت هيرمود الجريء، ابن أودين، في إثر جثمان بالدر، ووصل إلى هيل وطلب منها أن تعيد بالدر إلى الحياة وتخرجه من الجحيم لكنها رفضت ذلك وشرطت على إعادته أن تنوح جميع المخلوقات على بالدر حتى يخرج من الجحيم مجددًا. أخبر هيرمود الآلهةَ بعد أن أسرع عائدًا إلى آسغارد، ثم بُعثتِ الرسلُ إلى كل أجزاء المعمورة لتطلب من المخلوقات أن تنوح على بالدر، وكان لها هذا ما عدا عملاقة اسمها ثوك، تسكن كهفًا، رفضت أن تنوح عليه وقالت:
ستذري ثوكُ دمعًا بلا ماء
على بالدر ورحلةِ الشقاء
حيًا أو ميْتًا لم أحب يومًا ابنَ القديم
لتحتفظْ بالذي حصلتْ عليه السعير
تنتهي عند هذا قصة إله بالدر الذي لا يعود إلى الحياة إلاّ بعد معركة نهاية العالم راغناروك، وما يهمنا من هذه الحكاية عدم أذية كل ما موجود على الأرض لبالدر بعد أن أخذت أمه فريج من كل الأشياء عهدًا بألا تؤذيه، وأرى في هذه القصة البذرة في فكرة الاستحمام بدم التنين فافنر، الذي أكسبت دماؤه سيغفريدَ مناعةً وحصانةً وصلابةً لا يخترقها أيُّ سلاح عدا ذلك الموضع في عظم كتف سيغفريد الأيسر، بسبب سقوط ورقة شجر زيزفون عليه حين استحمَّ بدم التنين، فمنعت إكسابه الحصانة الكاملة ليكون هذا الموضع نقطة ضعفه الوحيدة. تأخذنا هذه الحكاية إلى آخيل وعقبه الأيسر حين لم يصل إليه الماء عندما غسلته أمه، ثيتيس، بماء نهر ستيكس، عندما علمت أنَّ ابنها سيموت شابًا، فغسلته من أجل حمايته لكن يخيب مسعاها إذ يُقتل آخيل في حرب طروادة بسهم باريس الطرواديّ بمعونة الإله أبولو الذي أرشده بخبر عقبه. تبدو قصة آخيل اليونانية ممكنة التأثير في الشاعر في حالة ثبت وصولها إليه، لكني لا أميل لهذا لسببين الأول هو القرب المكاني والزمني والتشارك الثقافي والديني ما بين الأساطير الإسكندنافيّة والجرمانيّين الذين ينتمي إليهم الشاعر، والآخر هو في حبكة موت بالدر وسيغفريد:
– يموت بالدر بعد أن حاولتْ أمه حمايته وأخذت العهد من كل الموجودات على الأرض بعدم أذيّته. وهذا ما حدث تماما مع سيغفريد إذ يموت بعد أن حاولت زوجته كريمهيلد، متطوعةً دون استشارته أو العودة إليه، حمايته من الموت.
– يأتي موت بالدر بسبب أمه التي أفشت السر للمرأة التي سألتها إن كانت أخذت العهد من جميع الموجودات على الأرض، فتخبرها بسر نبات الهدال الذي لم تأخذ العهد منه وسمع ذلك لوكي واستغله في قتل بالدر. تتشابه القصة مع كريمهيلد حين تُخبر هاغن بسر الموضع في عظم كتف سيغفريد الأيسر، وكيف أنه لم تصل إليه دماء التنين عندما استحمَّ بها سيغفريد. ونتجَ موت الاثنين عن إفشاء سرٍ لا يجب أن يُفشى لأي أحد.
– يُقتل بالدر على يد أخيه الأعمى هوث، لكن هذا الأخير لم يكن ليقتل بالدر لولا معرفة لوكي بالسر، ولوكي هو من الآلهة الآيسر الذين ينتمي إليهم بالدر، وهو أخو أودين، والد بالدر، بالعهد والولاء لا النسب، فهو من الناحيتين قريبُ بالدر، وموت بالدر جاء بسبب أقاربه، أمه ولوكي وأخيه هوث. في حين يُقتل سيغفريد على يد هاغن البرغنديّ، تابع غونتر، أخو كريمهيلد زوج سيغفريد، فموت سيغفريد هو الآخر جاء على يد قرابة الزواج والمصاهرة.
– ما يستبعدُ تأثير قصة موت آخيل في قصة موت سيغفريد هو أنَّ آخيل قُتل على يد عدوٍ واضح العداوة كان يحاربهم، ولم يقتل آخيل إلا بعد أن ساعد الإله أبولو باريسَ وأرشده إلى نقطة ضعف آخيل، وهذا لا يتشابه مع موت سيغفريد.
– إنَّ موت بالدر كان بداية نهاية العالم والسابقة لمعركة راغناروك التي يموت فيها أغلب الآلهة، كما هو تأثير موت سيغفريد الذي فتحَ صفحة جديدة من الملحمة هيَّأت نهاية البرغنديّين على يد أختهم كريمهيلد. قد يتشابه هنا أن نهاية الطرواديّين أتت عقب قتلهم آخيل كما حدث للبرغنديّين، لكن نقطة قتل سيغفريد على يد أقاربه، تدعم استبعاد قصة آخيل من التأثير وتُبقي تأثير الأساطير الإسكندنافية. لكن قد تكون الأساطير الإسكندنافيّة متأثرة باليونانيّة أو أنهما تنهلان من مصدر واحد، وهذا بحثٌ آخر.
أما التشابه البارز الآخر فهو المتعلق بفالهالا ومعركة راغناروك في الأساطير الإسكندنافية من جهة ومعركة القصر في هنغاريا في نشيد النبيلونغ من جهة أخرى. فالهالا قصرٌ في آسغارد يجمع فيه أودين، كبير آلهة الإسكندنافية وهو بمقام زيوس في الأساطير اليونانيّة، الشجعانَ الذي يسقطون في المعارك وترفعهم إلى السماء محارباتُه الفالكيريات، اللائي يطفن على سوح الوغى بعد أن يخمد وطيس المعارك فيخترن القتلى الشجعان، وبعد أن يرفعنهم إلى السماء يجتمعون مع أودين في فالهالا في انتظار معركة راغناروك، التي تدور ما بين فريقين، الأول حزب أودين وآلهة الآيسر والشجعان المختارين، والحزب الثاني هم العمالقة ولوكي والموتى والذئب فينرير والثعبان ميثغارثسورم وآلهة أخرى، تنتهي المعركة بموت عديد الآلهة والذئب والثعبان ثم يحترق العالم بأجمعه، ويعود الكون هوَّةً من الفراغ قبل أن ترتفع الأرض من الماء مجددًا، ويعود بعض الآلهة بما فيهم بالدر وهوث إلى الحياة، وهكذا تبدأ سيرة الحياة مجددًا. ينتهي نشيد النبيلونغ بمعركة القصر في هنغاريا فتتقاتل جحافل الفرسان الهونيّين والبرغنديّين، لتدور كأس الردى والموت الزؤام على الأبطال واحدًا تلو آخر، في معركة ملحمية قطفت الرؤوس الرفيعة رأسا إثر رأس وجندلت الأجساد العظيمة جسدًا تلو آخر، في نزالات ومواجهات فرديّة وجماعيّة أبانت عن بسالة الفرسان وإقدامهم ومدى عظمتهم التي أُشيدَ بها بذاك التصوير الملحميّ لبطولتهم وبسالتهم التي قلَّ نظيرها. وما بين نزال وآخر ومعركة أخرى، تبرزُ قُبالتنا معركة راغناروك التي صُوِّرت في القصيدة الآيسلنديّة فولوسبا، نبوءة العرَّافة، فموت أودين بمخالب الذئب فينرير، ثم موت الذئب على يد فيثار، ثم موت ثور والثعبان العملاق ميثغارثسورم بعد أن يقتلَ أحدهما الآخر، لا يفرق عن نزالات غيزلهير وولفهارت، ورودِغر وغيرنوت، وفولكر وهيلدبراند، والنزالات الأخرى كلها نزالات تُعيد إحياء معركة راغناروك في عالمٍ بشريّ داخل قصر الملك إتزل. ويمكننا إيجاد التقارب بين صورة فالهالا موطن الشجعان في ضيافة أودين وبين بلاط إتزل ورمزيته عن فالهالا بالفرسان المجتمعين فيها للاحتفال والأكل والشرب ثم في تجمعهم فيها للقتال، وكأن قتالهم في فالهالا الأرضية هو تحضيرٌ لينتقلوا بعد موتهم إلى فالهالا السماويّة. فالقتال الذي يدور بين الهونيّين والبرغنديّين في القصر إشارةٌ لا يُغفل عنها إلى معركة راغناروك وموت الآلهة. الفرسان هنا في مقام الآلهة المتقاتلة فيما بينها ورمزٌ لها، وليس الجوهر في أن نعرف من الفارس الذي يرمز إلى ذاك الإله أو أي فريق يمثِّل هذا الطرف في معركة راغناروك، لأن الغاية من المعركة هي نهاية عصر زماني وبداية عصر آخر، وموت الفرسان وأبطال الملحمة جميعًا، هي نهاية حقبة وعالم فروسيّ تغنَّت به الملحمة طوال فصولها ونهايتها بموت فرسانها وتلاشي عالمهم. لا تصبغُ الملحمةُ فرسانها النصارى بالصبغة الوثنية على الرغم من التشابه أو التأثر بالقصص الوثنية الأسطورية للشعوب الإسكندنافية، وكذلك لا تشنِّع على الديانة الوثنية، ويغيب على نحوٍ ما أي مفهوم ديني أو فضائل دينية يتمتع بها الفرسان، فمعتقدهم هو الفروسيّة وما يرتبط بها من سلوكيات وأخلاق ومواثيق. وبهذا تُجرِّد الملحمة من أي توجهات عقائدية يمكن أن تُفهم على هذا النحو أو ذاك على الرغم من ذكر بعض الطقوس النصرانية، وهي ليست غالبة أو مؤثرة أو حاضرة على نحوٍ بارز تقريبا.
تعليق واحد