عُرفتْ إميلي، أكثر الأخوات برونتي غموضًا، بانزوائها عن الفضاء الاجتماعي وابتعادها عن الضوء السنة وتملُّصها من أقلام كُتَّاب السيرة. قيل عنها انعزالية، انطوائية، غريبة الأطوار، طاغية، ذكر في جسد أنثى، عنيدة، متصلبة الرأي، لا تُنازع في أمر، وكما وصفتها شارلوت إذا أرادتها فعل شيء فلا تبيِّن لها هذا لأنها ستفعل العكس دائمًا. أبقتْ هُويتها مجهولة في كتاباتها الشعرية والروائية حتى وفاتها، ولم ترضَ قط أن تكشف عن هويتها الحقيقية. ظلَّ اسم إيليس بيل اسما مستعارًا بل وهُوية تشي بكاتب عميق الفكر مرهف الحس مفرط العنفوان غارق في فلسفته الذاتية المتمحورة حول وجوده بأنه أصل الكون وأن قواه وإلهه يقبع في داخله. حلَّقتْ بشعرها إلى أبعاد سماوية ومجازات عليّة وحفرت بروايتها الوحيدة الأرض حتى الأعماق فمزجت بين الطبيعة والاتحاد معها وبين التحرر من سجن الجسد والامتزاج في أفكار متدفِّقة من نبعٍ داخليّ وآخر مجهول المصدر ظلَّ يرفِدها بمياه الإلهام ويُغذِّيها بأمبروزيا العبقرية الخالدة.
لم تختلف حياة إميلي عن تلك التي عاشتها عائلتها وقاستها. وُلِدت إميلي جين برونتي –سميَّة عمتها– في ثورنتون في الثلاثين من تموز/ يوليو 1818، الأخت الرابعة والخامسة في تسلسلها. انتقلت مع عائلتها بعد ولادة آن بسنة إلى هاورث في سنة 1820 حيث المنزل (بارسونج) الشهير الذي ستقطنه عائلة الخوري باتريك. تُوفيت والدتها إثر هذا الانتقال بشهور معدودة لتعيش في يتمٍ قاهرٍ منذ الثالثة من عمرها، فلم تعرف للأمومة شعورًا ولا ذكرى، فترعرعتْ يتيمةً لكنَّها أمٌّ لنفسها. فرضتْ عليها طبيعةُ حياة بلا أمٍ، وسلوكُ والدها الخوري الصارم مع رقَّته، وانعزالُها عن العالم الخارجي في هاورث، وحبُّها للطبيعة، ونشأةٌ في عائلة عزَّزت حبَّ التعلم، وإخوَّةٌ بزغت منها نبتة الإبداع الأدبي، سماتٍ متعددةً تميَّزت بها عن أختيها وأخيها أبرزها حبُّها للسريّة الحالكة في الكتابة، وتعلُّقها بالبيت فلا تكاد تخرج منه في سفرٍ طويل أو مكوث بعيد حتى تُصاب بحنين مَرَضيّ إليه، وعلاقة خاصة مع الطبيعة والبريّة بأشجارها وأزهارها وحشائشها وجداولها فرأت نفسها في الطبيعة الممتدة الحرَّة القويّة التي لا تعرف الرحمة فتجسَّدت الطبيعة فيها، فكأنها الطبيعة لو كانت بشرًا، رقيقة المظهر مع قسوّة الباطن، وضعف الهيئة مع قوَّة الداخل، وحبسٌ في التجسُّد مع تحرريّة مطلقة من كل قالبٍ سابق الصنع. وكما تصفها شارلوت فالحرية النَّفَسُ الخارج من منخريْ إميلي، وتفنى من دونها.
كثيرًا ما شدَّت إميلي وما كتبته بعد وفاتها أنظار من التقاها، ومن درس حياتها. يصفها قسطنطين هيغر عندما درَّسها في بروكسل سنة 1842، واختلفتْ معه حول منهجية تدريسه طلبته الأدب: ’كان يجب أن تكون رجلًا. تملك عقلا منطقيًا ومقدرة على الجدال، من غير المعتاد أن تجدها في رجل، ومن النادر حقًا أن تملكهما امرأة‘. وتقول شارلوت ’لم أرَ شيئًا مثيلًا لذلك، لكن في الحقيقة لم أرَ قط ما يوازيها في أي شيء. أقوى من رجل، أبرأ من طفل، متفرِّدة في ذاتها‘ وحين اتُّهمتْ ممن لم يصدِّقوا أنها كتبت رواية “وذرينغ هايتس” وعَزوا ملكية التأليف إلى أخيها كانت من بين حُججهم “أنَّى لامرأة أن تكتب رواية كهذه، ولا يستطيعها إلا رجل“. وراح آخرون كما في كتاب إميلي برونتي: المهرطقة لستيفي ديفيس، إلى تسليط الضوء على السمات الرجوليّة لدى إميلي.
رُبط جزءٌ من صورة إميلي في ذهن متلقِّيها بالرجل، سواء كانت رجلًا بالكامل أو لها صفات رجوليّة أو حتى نصف رجلٍ، عزَّز هذا خيوط أدلِّة من هنا وهناك كتعليم والدها إياها دون أخواتها الرماية بالمسدس في صباها، أو بوصفها بأنها كانت طاغية على سلوك شارلوت في بروكسل حانية بقامتها على أختها الأقصر، أو حتى طبيعة كتابتها القوَّية والصارخة والمليئة بالعنف والشدَّة والساديّة. حتى إنَّ بعضهم شطح في قراءتها واستنبط من علاقة هيثكليف وكاثرن في روايتها أنها تكشف عن ميلٍ سحاقي في إميلي، وقراءة النص الحرَّة تُفسح المجال أمام هكذا تأويلات، لا أستبعدها بنفسي، لكن هذا الميل نحو المثيل ليس أكثر من قوَّة ذكوريّة تُنازع ضديدتها الأنثوية داخل إميلي. إذًا، فنحن أمام طبيعة غامضة لا يمكن تحديد ملامحها في ذاتِ إميلي لكن ما نستطيع التأكد منه أن هذا التنازع الداخلي والغليان التنافسي بين قوَّتين ظهرتا بوضوح في كتابتها صابغةً إياها بصبغات الأصالة والإبداع، وكما ذكرتُ آنفًا لو كانت الطبيعة بشرًا ستكون إميلي. لكن السؤال هنا أهي إميلي المرأة أم إميلي الرجل؟ قد تتجاذب الأجوبة إميلي وتأخذها إلى حقول استقرائية متحيِّزة جندريا أو مبالغة في الاحتضان، لكن ما أراه إنَّ إميلي هي الكائن الخنثى بذكوريتها وإنثويتها، هي لا تنتمي إلى نوعٍ محددٍ دون سواه، كانت مرأة ورجلًا في آن واحدٍ ولعل ما تذكره شارلوت عن آخر حياة إميلي يعطينا صورة واضحة عن هذا المخلوق ومدى تجبُّره وكبريائه ورقَّته كذلك ’وأبشع ما في الأمر أنها في الوقت الذي فاضتْ فيه رحمة على الآخرين لم تُظهر على نفسها أيَّ شفقة، كانت روحها متصلبة حتى جرثومتها، من يديها الراعشتين، وقدميها المتوتّرين، وعينيها الغائرتين، وكل شيء في صحتها يُنتزع وأن تقف وتشاهد ذلك ولا تتجرأ أن تعترض لهو أمر مُوجع لا تُعبِّر عنه الكلمات‘. تبيِّن الكلمات طباعَ أمِّ رؤوم وأبّ متزمِّت، وتذكر غاسكل في سيرة شارلوت برونتي كيف أن شارلوت وآن كانتا توقفان ما يشغلهما وتنصتان إلى سعالها أو لهاثها أو خطواتها المتعثرة دون التجرُّؤ على تقديم يد المعونة. صورة تأخذنا إلى هيثكليف بقسوته وفظاظته وتوحُّشه، فلماذا كان بطل روايتها رجلًا هو هيثكليف، ولماذا كان الطرف المقابل له هو كاثرن إرنشو المرأة، وإلى أين يأخذنا سؤال الهُوية، وقد استقرأتْه ستيفي ديفس مليًا، حين تقول كاثرن ’أنا هيثكليف‘. فمن هم إميلي وهيثكليف وكاثرن؟ سؤال قد يكون باختصار هم مخلوق واحد متداخل ومتوازٍ في آن واحد ومتجسُّدٌ في شَخْص إميلي.
غادرت إميلي رفقة أخواتها إليزابيث وماريا وشارلوت في سنة 1824 إلى المدرسة الداخلية، كاون بريدج، لكنها مغادرة سرعان ما انتهت مأساويًا بسبب سوء المدرسة غذائيًا وصحيًا فماتت الأختان الكبريان إليزابيث وماريا في سنة 1825. كانت هذه الحادثة ثاني المصائب التي نزلتْ على آل برونتي، فانقطعتِ الأخوات عن الالتحاق بالمدرسة واستمَّرَ تعلمهن المنزليّ والذاتيّ. يرى الكاتب نيك هولاند أنَّ إميلي أحبَّت أختها إليزابيث وأرادت أن تُخلِّد ذكرها عندما اختارت اسم إيليس اسمًا مستعارًا لكتاباتها المنشورة. خلال هذه المدَّة ابتدأتِ الأخوات الثلاث وأخوهن برانويل بالكتابة الإبداعية لقصص ومجلات وحكايات وحتى أشعار، تولَّى تدوين معظمها شارلوت وبرانويل. لم تسلك إميلي طريقها الخاص في الكتابة مع أختها آن إلا بعد ذهاب شارلوت للدراسة في مدرسة رو هيد الداخلية في سنة 1830، فكتبت مع آن حكايات ويوميات لم ينجُ منها إلا القليل وأشهر ما كتبت إميلي وضاع هو حكايات الغوندال، الجزيرة الخيالية في المحيط الهادئ، وما زال بين يدينا ثلاثون ونيّف من قصائد غوندال. كما أن بقاء إميلي وآن وحدهما عزَّز العلاقة بين الأختين وكما تصفهما إيلين نوسي فكانتا مثل توأم غير متماثل لقربهما الشديد وعلاقتهما الوطيدة، ولإميلي تأثير ملموس في حبِّ آن للطبيعة كما يميل بعض الدارسون.
بعدما عادت شارلوت إلى المنزل إثر إكمال الدراسة في سنة 1832 درَّستْ أخواتها ووجَّهتهن واستمررن بالكتابة الإبداعية دون انقطاع، وأخذتْ إميلي معها للدراسة في سنة 1835 حين رجعتْ إلى مدرسة رو هيد لتعملَ معلمةً هذه المرة. كشفَ هذه الابتعاد الجديد، عن المنزل للمرة الثانية بعد نحوٍ عشر سنوات عن الأول الذي شهد وفاة أختيها، عن طبيعة إميلي المتعلِّقة بالبيت وعدم القدرة على الحياة بعيدًا عنه، ومن المحتمل أنَّه مرتبط بشعورها بالأمان وخروجها منه ابتعاد عن الأمان الذي يكتنفها بين جنباته تولَّد لديها بعد وفاة أختيها. لكن المثير في الأمر أنَّ إميلي بسبب سلوكها الصامت وغير التعبيريّ لم تبيِّن هذا كلاميًا فانعكس في اعتلالها صحيًّا؛ تعلل شارلوت في رسالة لها عن أسباب ما حدث: ’تُحب أختي إميلي البراري. تتفتَّح أزهار أزهى من الورد في سويداء قلبها، وبإمكان عقلها أن يُنشئ جنةَ عدنٍ في أكثر بقعة جوفاء متجهِّمة في جانب التل الشاحب. تجد في العزلة الكئيبة أعزَّ مباهجها وأكثرها، وليس آخرها وأحبَّها إلى قلبها– الحرية. فالحرية النَّفَسُ الخارج من منخريْ إميلي، وتفنى من دونها. فشلت إميلي في تحمَّل الانتقال من منزلها إلى المدرسة، ومن عالمها الهادئ جدًا والمنعزل، لكن بطبيعة حياته غير المقيَّدة والفطريّة، إلى عالم الانضباط اليوميّ (مع أنه تحت أكيسَ رعاية). وأثبتت فطرتها هنا أنها أقوى من أن تتجلَّد بتطويعها. يندفع إليها كل صباحٍ بعد أن تستيقظ مرأى المنزل والبريّة، فيُظلم عليها نهارها ويُكَّدر عليها يومها الذي ينتظرها. لا أحد يعلم ما يُوعكها هنا سواي. عرفتُ وَحْدي هذا تماما. لقد تدهورت صحَّتها في هذا الصراع بسرعة، وهددها انتكاس جسيم. شعرت من أعماق قلبي أنها ستموتُ إذا لم تعد إلى البيت، وبهذه القناعة حظيت بعودتها. قضت ثلاثة أشهر فحسب في المدرسة، وانسلخت عدة سنوات أُخر قبل أن تتكرر تجربة الابتعاد عن المنزل مجددًا‘.
أقفلت إميلي راجعةً إلى منزلها في هاورث وبراريها وأخذت آن مقعدها الدراسي. ثم وبعد سنة تقريبًا أُمِّن لإميلي وظيفة في مدرسة في لوو هِل بالقرب من هاليفكس، لكنها تجربة مريرة فيها لطول ساعات العمل والتعب الدائم وشدَّة الحال فلم تستمر طويلا. تقول في رسالة لشارلوت بتاريخ 2-10-1836 ’إنني أعمل من السادسة صباحا وحتى الحادية عشر ليلا، يتخللها نصف ساعة استراحة فحسب. هذه عبودية. أشعر أني لا يمكنني مجاراتها أبدًا‘. لتتركَ العمل بعد ستَّة أشهر وتعود مجددًا إلى هاورث بيد أن هذه التجربة لم تكن بلا ثمار تماما فيُرجَّح أنها ألهمتها جزءًا من قصة روايتها من حياة عائلة حقيقية كانت تدعمُ المدرسة في لوو هِل.
أول صفحة من دفتر قصائد غوندال يتضمن قصيدة “هناك يطلعُ القمر There shines the moon”
مرَّتْ على إميلي سنواتٌ لا يُعرفُ عنها الكثيرُ إلا ما دوِّنَ في رسائل شارلوت والقصائد المدوَّن عليها تاريخُ كتابتها في هذه المدة، مما يكشف أن إميلي لم تنقطع عن الكتابة حتى سنة 1841 حين بدأت تتبلور فكرة مشروع المدرسة الداخلية عند شارلوت فأقنعت خالتها به وقررت السفر لزيادة كفايتها وأختها من الأدب واللغتين الفرنسية والألمانية والفنون نظرًا لحدة التنافسية بين المدارس الداخلية حينها. سافرت إميلي في شباط/ فبراير 1842 مع أختها وأبيها إلى بروكسل واستمرَّت هناك حتى شهر تشرين الأول/ أكتوبر من ذات السنة حين وصلت رسالة بوفاة خالتهما، فعادت الأختان إلى هاورث مجددًا. لم يُعرفْ عن إميلي على وجه الدقة أنها اشتاقت إلى هاورث أو أثَّر ذلك في دراستها التي أبدت تقدمًا ملحوظًا فيها على شارلوت لا سيما في الفرنسية والألمانية ولها مقالات محتفظٌ بها كالقطة والفراشة كتبتها في درس الأدب لقسطنطين هيغر الذي أُعجبَ بعقلها واختلفتْ معه بشأن طريقة تدريسه القائمة على المحاكاة مفضِّلةً الأصالة في الكتابة الإبداعية. رفضتْ إميلي مرافقة شارلوت في العودة إلى بروكسل مجددًا وآثرتْ البقاء في المنزل لأسباب عديدة منها تعلُّقها بالبيت وبريّة هاورث، والاعتناء بوالدها الذي بدأت تتضح عليه معالم التعب والمرض، ولتدبير شؤون المنزل لأن الخادم، تابي، كانت مسنة. أقفلت شارلوت وحيدة في كانون الثاني سنة 1843 إلى بروكسيل لإكمال دراستها وعملها معلمة للغة الإنجليزية في مدرسة البنات الداخلية حتى عودتها مكلومةً بحبٍ لم يندمل في مطلع السنة التالية.
حلَّتْ الصدفة التاريخيّة في خريف سنة 1846 بعثور شارلوت على دفتر أشعار إميلي فأُعْجِبتْ به وأقنعتها بنشره، فكان ذلك في ديوان مشترك تحت أسماء مستعارة، اتَّخذَتْ فيه إميلي اسم إيليس. كان لفشل الديوان تجاريًا وفنيًّا أثره في خطوة أكثر جرأة في التحول نحو الكتابة الروائية، مع أن إميلي كانت الوحيدة تقريبًا من نالتِ الإشادة في شعرها بين الأخوات، واعتُرِفَ بها شاعرةً بعد قرنٍ من وفاتها تقريبًا وصدرت أعمالها الشعرية كاملة في سنة 1908 بطبعة حققها كليمينت شورتر، ضمَّت كلَّ قصائد إميلي حتى تلك الخاصة بجزيرة غوندال المتبقيّة. بيد أنَّ شارلوت لم تتركْ عددًا من قصائد أختها دون تحرير فحررت عددًا منها، ووفقًا للوكاستا ميلر فإن هذه التحريرات كانت تعبِّر عن شارلوت وشوقها إلى أختها أكثر من تجويد النص. ومن الواردِ جدًا أنَّ شارلوت غيَّرت بعض المفردات التي ترى فيها تجديفا أو حوَّرت بعض المقاطع بما يتناسب دينيًا مع الشريحة الكبرى لقراء المجتمع الفيكتوري الذي لم تتجرأ شارلوت على الاصطدام بهم كثيرًا عكس أختيها إميلي وآن.
صدرتْ رواية إميلي “وذرينغ هايتس” في نهاية سنة 1847 في طبعة مشتركة من ثلاثة أجزاء من الناشر Newby، شغلتْ روايتها الجزئين الأول والثاني وخُصص الجزء الأخير لرواية آن “أغنيس غَرَي“. لا يُمكن القول قطعًا بفشل الرواية تجاريًا لكنها لم تكن بنجاح رواية “جين إير” لشارلوت التي استحوذت على الأضواء كلها قبل شهرين. نالتْ رواية “وذرينغ هايتس” إشادةً وهجومًا على حدٍ سواء نظرًا لطبيعة موضوعها وعنف شخصية هيثكليف الساديّة الشريرة لكنه شرُّ ممزوج بإميلي بالطبيعة فتشعر بأصالته وقد قدمته جليا وزاهيًا، وهو ليس بحالٍ من الأحوال عَرَضَيا أو وليدَ الصدفة. في الرسالة التي كتبها باتريك يتحدث فيها عن اكتشافه موهبة أطفاله وامتلاكهم عقلًا متميزًا فيذكر إميلي ’وحين سألت التالية [إميلي]: ما أفضل ما يجب أن أفعله لأخيها برانويل الذي كان أحيانًا شقيًا؟ أجابت: تُحدِّثه بالعقل، وحين لا يستجيب للعقل تجلده‘. هذا الفكرُ لطفلةٍ ترى في الجلدَ وسيلة للتأديب تطوَّر كثيرًا بشدَّته خلال السنوات، لا سيما تلك الحادثة حين أخبرت تلميذاتها بأن كلبها أعزُّ عليها من هنَّ، أنتجَ رواية قلَّتْ نظائرها لا لعنفها بل لطبيعة شخصياتها وسؤال الهُوية ولغتها وحتى تجديفها، وأبدعت حبًا كما تصورته فجمحت فيه متجاوزة كل الحدود.
يسأل فالنتين كونينغهام ’كيف أمكن العوانس الثلاث، اللائي نشأن في بيت خوري صارم في هاورث الكئيبة، أن يكتبن أعمالًا مثل هذه‘. سؤال ما زال مطروحًا للإجابة عنه.
يبدو أنَّ إميلي قد قالت كل ما أرداتْ قوله في روايتها، فشهدت حالتها الصحية تدهورًا تدريجيًا تفاقم بعد وفاة أخيها، وتدوِّنُ شارلوت حالتها برسالة في تشرين الأول/ أكتوبر 1848 أوردتها غاسكل في كتاب السيرة ’تبدو نحيفة وشاحبة. تُسبب لي طبيعتها المتحفِّظة اضطرابا عقليّا. فمن غير المجدي سؤالها عن صحتها؛ لن تحظى بجواب. وما زالت الكمادات بلا نفع لأنها لم تُستخدم قط. ولا يمكنني أن أغمضَ عينيّ عن هشاشة بُنية آن الجسمانية، ما حدث مؤخرا زاد من قلقي أكثر من المعتاد… انحدرتْ صحة أختي إميلي، لم تكن طوال حياتها قط متريِّثة في أي عمل يقع على عاتقها، ولم تتريث في هذا الحال أيضا. لقد غادرت بسرعة خاطفة. وحثَّتِ الخطى في مغادرتنا… يومًا تلو آخر حينما رأيتها قُبالة عينيّ تعاني تطلَّعتُ إليها بكربٍ ممزوجٍ بالعُجب والحب. لم أرَ شيئًا مثيلًا لذلك، لكن في الحقيقة لم أرَ قط ما يوازيها في أي شيء. أقوى من رجل، أبرأ من طفل، متفرِّدة في ذاتها. وأبشع ما في الأمر أنها في الوقت الذي فاضتْ فيه رحمة على الآخرين لم تُظهر على نفسها أيَّ شفقة، كانت روحها متصلبة حتى جرثومتها، من يديها الراعشتين، وقدميها المتوترين، وعينيها الغائرتين، وكل شيء في صحتها يُنتزع وأن تقف وتشاهد ذلك ولا تتجرأ أن تعترض لهو أمر مُوجع لا تُعبِّر عنه الكلمات‘. تُعلِّق غاسكل إثر إيرادها الرسالة قائلة ’في الحقيقة لم تُغادر إميلي المنزل بعد الأسبوع التالي لوفاة برانويل، ولم تشتكي ولم تتحمل أن تُسأل، ورفضتْ أي تعاطف ومساعدة. وكثيرا ما تركت شارلوت وآن الحياكة أو توقفن عن القراءة للاستماع بقلبٍ مُعذَّب إلى الخطوات الواهنة والتنفُّسِ العصيب والتوقف المتكرر أثناء الخطو لأختهن أثناء صعودها السلالم، ولم تتجرآ على الإشارة لما لاحظتاه بوخزٍ معاناةٍ أقسى مما عانته أختهما. رفضتْ إميلي رؤية الطبيب بإصرار عندما ارتفع نبضها ليصل إلى 115 دقة في الدقيقة، وعندما استُدعي الطبيب ووصل إلى البيت رفضت مجددًا مقابلته، ووصفت له أختاها أعراضَ ما لاحظتاه، ووُصفَ لها الدواء الذي لم تتناوله مُنكرةً أنها مريضة. وفي صباح التاسع عشر من شهر كانون الأول/ ديسمبر 1848 تفاقم وضع إميلي سوءًا حتى الظهيرة وهمست لاهثة لشارلوت “إذا استدعيتِ الطبيب فسأراه” لكن بعد فوات الأوان إذ وافتها المنية في الثانية ظهرًا‘. ماتت إميلي واقفة كشجرة ضاربة جذورها في الطبيعة كما عاشت حياةً ممزوجة بالقوة والغموض ولم تحنِ رأسها قط لمصيبة أو تثنِ عزمًا في عيش حياةٍ أرادتها أو مغادرتها حين رفضتها.
مصادر ومراجع المقالة:
المصادر:
– Wuthering Heights by Emily Bronte
– The complete poems of Emily Brontë, Edited by Clement Shorter
المراجع:
– The life of Charlotte Brontë by Elizabeth Gaskell
– The Brontë Myth by Lucasta Miller
– Anne Brontë by Winifred Gerin
– Emily Brontë: Heretic by Stevie Davies
– The Brontë in Brussels by Helen MacEwan
– Anne Brontë at 200 by Nick Holland