برُنهيلد؛ صراع البكارة والافتراع في نشيد النبيلونغ
تنتمي برُنهيلد، إحدى الشخصيات الأنثوية الرئيسة في الكتاب الأول من نشيد النبيلونغ، إلى سلالة من المحاربات الأسطوريات، والإلهات الحاميات، والنساء الحسناوات، وفي ذات الوقت فإنَّها تُعرض في مرحلة لاحقة من حياتها، بعد افتراعها من غونتر، بهيئة المرأة العادية بكلِّ مشاعرها الرقيقة وعواطفها الأنثوية المُتحكِّمة بصاحبتها. لذا فإنَّ التعامل مع أصول شخصية برُنهيلد ينقسمُ إلى قسمين أحدهما أسطوريّ إلهيّ والآخر بشريّ عاديّ. في شطرها الأسطوريّ الإلهي فبين يدينا نموذجان غير جرمانيين عن برُنهيلد، يتمثَّل الأول في أسطورة أتلانتا اليونانيّة، إذ يتخلى عنها أبوها ويُلقيها رضيعة في الغابة إذ كان راغبًا بولد، فأرضعتها الدبَّة، وهي من تمثَّلات إلهة الحرب أرتميس، ثم عثرَ عليها صيادو الغابة بعد ذلك، فخصُّوها بالعناية والرعاية، فترعرعت في الغابة وشبَّت سريعةَ القدمين مُتجنِّبةً الرجال ونذرت نفسها للصيد وللإلهة أرتميس. وفي كتاب التحولات لأوفيد فإنَّ عرَّافةً تُشيرُ على أتلانتا ألا تتزوج ففي زواجها دمارها، لذلك وبعد أن عثرَ عليها والدها فقد اقترحت ألا تتزوجَ إلا من يفوز عليها في سباق الجري وتقتلُ كلَّ من تغلبه، ولامتلاكها قدمين سريعتين لا يُقارعان فكانت تغلبُ كلَّ من سابقها ثم تقتله. بقي الأمرُ على هذا الحال حتى جاء هيبومينس الذي هوى في غرامها، وما كان له بدٌّ من زواجها فتضرَّع إلى أفروديت أن تُعينه في مسعاه فوهبت له ثلاث تفَّاحات ذهبيَّات لا يُقاوم سحرَّهن مخلوقٌ، وطلبتْ منه أن يُسقطَ تفاحةً إثر أخرى حين يتسابق معها، فامتثلَ هيبومينس لمشورة أفروديت، وبدأ السباق بينهما فأسقطَ الأولى فانجذبت إليها أتلانتا لتأخذها، وكذا الثانية فالثالثة، وفي غمرة انشغالها بالتقاط التفاح الذهبيّ كان هيبومينس قد بلغَ النهاية وغلبَ أتلانتا وظفرَ بها زوجًا. عاشَ الزوجان في وئام لكن هيبومينس ارتكبَ خطأً فادحًا حين نسي أن يُقدم قرابين الشكر لأفروديت. خرج الزوجان ذات يومٍ للصيد فلعنتهما أفروديت بالغُلمة فتجامعا في معبدٍ لزيوس أو الإلهة الأم ريا، فمُسخا عقوبةً على ذلك أسدين محرومين من جِماع مخلوق من فصيلتهما بل يُجامعان النمورَ لا غير. قيل إنَّ هذه العقوبة من أرتميس إذ ليس مقدَّرًا على أتلانتا أن تُجامعَ الرجل ولا أن تفقد عذريَّتها، وأن تبقى بكرًا خالصةً لأرتميس.
أما النموذج الآخر لبرُنهيلد فهو أقدمُ زمنًا ويعود إلى أساطير وادي الرافدين والإلهة إنانا، إلهة الجنس والإخصاب والحرب، فتوصف بأنها إلهة الحبُّ وإلهة محاربة تقود الجيوش، لكنها أيضًا تغدرُ بعُشَّاقها حتى أهانها البطل السومري غلغامش حين طلبت زواجه، وعيَّرها بماضيها مع عشَّاقها وكال له سيلًا من الإهانات، ومما أهانه بها “أيٌّ من عشَّاقكِ من بقيتِ على حبه أبدًا، وأي من رعاتكِ رضيتِ عنه دائمًا، تعالي أقصُّ عليكِ مآسي عشَّاقك…”.1 وفي قصيدة سومرية يجري على لسانه قول يبين طغيانها واغترارها بنفسها:
“عندما اقتربت من الإيبيخ
لم يبجلني
ولأنه لم يبجلني
ولم يقبل الأرض تحت قدميّ
ولم يكنس التراب بلحيته من تحت قدمي
سأرفع يدي عن حماية هذي البلاد
وأعلمه كيف يهابني”.2
ولها مع دموزي الراعي العديد من قصائد الحبِّ والجِماع، لكن ما نفع دموزي حبُّه لها ولا حبُّها له إذ جعلته فداءً لها حتى تخرج من العالمِ السفلي الذي نزلت إليه بمحض إرادتها بغية السيطرة على مملكة أختها إريشيكغال. هذه هي إنانا التي لا تفرقُ كثيرًا عن برُنهيلد وأتلانتا في إهلاك عُشَّاقها بعد أن تقضي وطرًا منهم.
أما الشطرُ البشري في أصل نموذج برُنهيلد فيتمثَّلُ بالمحاربة الأسطورية الإسكندنافية والآيسلنديّة برِنهيلد، ومعنى اسمها المتأهِّبة للمعركة، وبرِنهيلد التي يردُ ذكرُ قصَّتها في ملحمة آل فولسونغ امرأة محاربة شرسة، تقود حشود المقاتلين، وتتقدَّم صفوف الأبطال، وتصرعُ الأشاوسَ في الميدان، بيد أنَّها لا تقتل عشَّاقها، وما قتلت أحدًا إلا حبيبها الوحيد سيغورد لأنها حسبته خان عهدها بزواجه، وخدعها بإعانة غونار على زواجها بالحيلة والخديعة.
يجتمعُ لنا في هذه العرض نماذجُ أولَّية نُسجَت منها، أو اغترفَ أو تشابه، شخصيةُ برُنهيلد في نشيد النبيلونغ، وهي على جوانب عدَّة، بدايةً من تجنُّبِ برُنهيلد الرجال وفرضت على من يتقدَّم لزواجها أن يغلبها في مباراة من ثلاث منافسات هي رمي الرمح، وقذف الصخر، والوثب، ولا بد أن تُغلبَ في هذه المنافسات الثلاث حتى ترضى بغالبها بعلًا. فكانت تُهلكُ الجميعَ وما غلبها إلا غونتر بمعونة سغفريد، البطل الصنديد، الذي ارتدى عباءة الإخفاء فكان هو من ينافسها ويتظاهر غونتر بأنه هو المنافس، فعزَّ عليها أن تغلبَ سغفريد الخفيّ عن الأنظار. تحقَّقَ لغونتر بمساعدة سغفريد زواجُ برُنهيلد، لكنه زواجٌ جلبَ عليها المصايب والمآسي. يعود غونتر بعروسه إلى بلاده المشرفة على الراين، لكنَّه في ليلة عرسه يواجه وحشًا خطرًا فوق فراش الزوجيّة، إذ ما مكَّنته برُنهيلد من نفسها حتى تعرفَ حقيقة سغفريد، ولمَ تزوَّج، وهو التابعُ، كريميهلد أختَ الملك، بل وتزوَّجها في عرسٍ واحدٍ مع زواج غونتر. شغلَ سؤال مكانة سغفريد الحقيقيّة نفسَ برُنهيلد، ولأجل ذلك ما سمحت لغونتر بافتراعها. يصعدُ إلى الواجهة صراع البكارة والافتراع، لا يُقدِّم الشاعرُ أسبابًا أو شروحًا لهذا الصراع لكن طبيعة الملحمة ومجريات أحداثها تكشف لنا عن كلِّ ما نحتاج إليه، وتنصُّ على أنَّ البكارةَ قوَّة وشدَّة وعزم وبأس والافتراع ضعف وهوان وارتخاء وذلَّة. كانت برُنهيلد تدافع عن قوَّتها وشدَّتها بدفاعها عن جسدها وبكارتها، فما أنْ تُمكِّن الرجلُ من جسدها إلا وتفقدُ كلَّ ما يُميِّزها عن غيرها من النساء.
تطرحُ الملحمة افتراع الأنثى على أنَّها البوابة التي يلجها الرجل ليُخضعَ المرأة، ويذلل قيادها، ويكبحَ جماحها، ويجعلها خالصة لنفسه، لكنَّ هذا ليس بالأمر الهيِّن الذي يستطيع أي زوجٍ في ليلة زواجه بل هو مزيّة الرجال الفحول، ولا يعني أنَّ أيَّ افتراعٍ هو إذلالٌ وإخضاعٌ للمرأة، بل لا يكون الافتراع إلا بفحولة غالبة قاهرة. افتقر غونتر إلى هذه الفحولة الغالبة لكن ما افتقرَ إليها سغفريد الفحل الهمام، فعرضَ على غونتر إعانته من جديد فوق فراش الزوجيّة وليذلل له قياد عروسه الحرون. ارتدى سغفريد من جديد عباءةَ الإخفاء، ودخلَ مخدعَ العروسين على غفلة من برُنهيلد فصارعته تحسبُ أنَّه غونتر الذي ما تعلَّم من درس البارحة، وعاد من جديد يحاول السيطرة عليها واعتلاء جسدها وافتراعها بقوَّته وفحولته. وجد سغفريد نفسه في مواجهة امرأةً شرسة، وتماسكا في الظلام، وتجاذبا، اضطُرَّ سغفريد ساعتها أن يُبدي قوَّته الرجولية وفحولته الجسدية حتى يغلبَ برُنهيلد. ويقول في قرارة نفسه “واأسفاه إذا خسرتُ حياتي على يد امرأة، ولتتعالينَّ كلُّ النساء على أزواجهن أبدًا، أما إن حدث سوى ذلك فلن تجرؤ إحداهنَّ على التصرف بوقاحة”. ما عاد الصراع فوق الفراش بين عروسين، بل صراع الرجال والنساء، كلُّ حزبٍ في خندق، ويُلزمُ هذا التحزُّبُ أن يشدَّ أعضاء كلُّ فريقٍ من عضد رفاقهم. إنَّ اقتراح سغفريد تذليل قياد برُنهيلد لزوجها، ليس إلا رمزًا لصراع الرجل والمرأة، وفي غلبة غونتر لبرُنهيلد انتصار الرجال على النساء، والعكس بالعكس، ليتحول الافتراع إلى معركة وجودية لا بد للرجل أن يُثبتَ نفسه فيها وإلا فالعار كلُّ العار. تمكَّن غونتر بعد أن أخضعَ سغفريد برُنهيلد من أجله أن يفترع عروسه، ويتمتَّع بجسدها، فما كان حال برُنهيلد إثرها؟ يجيبنا الشاعر ’شحبت بعد الجماع وتلاشت قوَّتها فأضحت كغيرها من النساء، تذوَّقَ غونتر بهجة جسدها الليّن، وما كررت مقاومتها وأيُّ فائدة تُرتجى منها؟ ها هو ذا حبُّه قادها إلى هذا الحال. فيا لرقِّة سلوك برُنهيلد الآن وعذوبتها وهي مستلقية بجواره حتى بزوغ الفجر”. انتهت على هذا بكارة برُنهيلد وأضحت زوجة عاديّة كغيرها من النساء، تطيعُ زوجها وتمتثُل لأمره، ولا تخرجُ عن شوره، لكن قدرها سابق إذ يبقى سؤال مكانة سغفريد في مكانه في قرارة نفسها ولا إجابة حتى الساعة تشفي غليلها. فهي وإنْ كانت تجاوزته ظاهريًا إلا إن اعتلاجه في صدرها موغلٌ إيغالا لا حدَّ له. ولكي تتشابه مع سلالتها من الأبكار اللائي أنهين حياةَ عشَّاقهنَ أو دفعنَ ثمن افتراعهن وخسارتهنَّ البكارة، كان لا بدَّ من قتلِ الرجلِ حقًا أو رمزًا. كان على برُنهيلد أن تقتلَ سغفريد حتى تستعيدَ بكارةً ضاعتْ بالخديعة على يده.
مثَّلتْ معونة سغفريد لغونتر في تذليل قياد برُنهيلد لزوجها حدثًا وجوديًا يمسُّ كرامة الرجل ليلة عرسه مع عروسه، كما تبيَّن لنا، وأرجحت أيضًا كفَّةَ الرجل على كفَّة المرأة، فسغفريد الفحل الهمام يُساعدُ غونتر، لكن من الذي ساعدَ برُنهيلد في ذاك الصراع؟ لا أحد. وحين حلَّ قدرُ الانتقام كان لا بدُّ أن يتخندق حزبُ النساء هذه المرأة جميعًا ضد الرجلِ. ارتكب سغفريد غلطةً ساعة إخضاعه برُنهيلد لزوجها إذ استلَّ في غفلة منها حزامها ورباط قميصها وخاتمًا من إصبعها، لا سبب واضح لفعلته هذه لكنَّها كانت كفيلة بأن تقلب له ظهرَ المجنَّ وتودي به. كانت كريمهيلد وبرُنهيلد في ساعة صفاء تتناقشان أيهما زوجُها الأفضل بين الرجال، فتشاجرتا حتى عيَّرت كريمهيلد زوجة أخيها بما فعله سغفريد معها، فأصابها ما عرفت بمقتلٍ، لكنه مقتل ألقيَ ثقله المُميت على كاهلي سغفريد، إذ عادت كريمهيلد حماقةً منها فكشفت لهاغن موضع ضعفِ سغفريد في ظهره، وتمَّت بذلك خيانة سغفريد فقتلَ عند النبع على يد أصهاره.
كما غُلبت برُنهيلد بالخديعة غلبُ سغفريد بالخديعة، وكما أعان عمدًا سغفريد غونتر على زوجته برُنهيلد أعانتْ سهوًا كريمهيلد برُنهيلد على زوجها سغفريد، والنتيجة واحدةً فقدتْ برُنهيلد بكارتها، وخسر سغفريد حياته، فبكارة المرأة تعدل حياة الرجل، وعلى المرأة في آخر المطاف إما أن تسلبَ حياة مفترعها بالقتل وإما أن تسلبَه رجولته بافتراعه فيحلُّ قتله رمزًا، وتتعادل ساعتئذ الكفَّتان ويعيشان في وئام، في الأقل هذا ما تشير إليه فحوى الأساطير القديمة والملاحم، ويبقى موضوعًا مشرعة أبوابه ليتناول من جوانب مختلفة نفسية واجتماعية وثقافية وتاريخية وأنثروبولوجية للوقوف على صراع البكارة والافتراع لما يعطي لهذا الصراع دلالتها الكاملة قدرَ الإمكان، ودراسته على الوجه الحقّ الذي يستحقه، لفَهمٍ أفضلَ لسلوكِ الإنسان وطبيعته وعلاقته مع النوع المغاير له.
1- ملحمة كلكامش – ترجمة طه باقر.
2- قصيدة إنانا تخضع الإيبيخ – ترجمة قاسم الشوَّاف.