تأثير الأوديسة في قصة يوريواكه
لا تكاد تتوقف عجلة الأوديسة عند موضع معين حتى تستأنف دورانها في قرطاس الأدب العالمي، ما بين تأثير في آداب الأمم الأخرى، أو محاكاة لها، أو اقتفاء أثرها واتباع هيكليتها وبنيتها الموضوعية والفنيّة، أو إتمام مغامرات أوديسيوس، أو ترجمة جديدة لهذا الملحمة اليونانيّة الخالدة. برز قدر الأوديسة في أول الأمر مع الإغريق الذين دونوها بعد أن كانت ملحمة شعرية شفوية ودرسوها، وأصبحت معروفة لدى الجميع على الرغم من صعوبة صياغتها وأسلوبها، واستخدام هوميروس كلماتٍ مهجورة، كما تبيَّن لأولئك الإغريق الذين تلقَّفوها بعد قرون من نظمها، وكان لهوميروس الذي تُنسب إليه الملحمة مع سابقتها، الإلياذة، مقام رفيع عند الإغريق فتنازعت الجزر على أصله وانتمائه إلى واحدة دون أخرى، ونحت لنفسه بملحمتيه الشعريتين عرشًا في مقدمة شعراء الملاحم والأدباء في التاريخ الإنساني. ومن أوائل ملامح تأثير الأوديسة في الأدب العالمي، ما نراه في التشابه مع ملحمة الرامايانا الهندية. نجد التشابه ما بين الملحمتين في مواضيع منها القوس (قوس راما وقوس أوديسيوس في مسابقة الزواج) والنفي (البحر في الأوديسة، والغابة في الرامايانا) ووفاء الزوجتين (بينيلوبي وسيتا).
استمرَّ التأثير الهوميروسيّ في فرجيل وملحمة اللاتين، الإنيادة، وكان اقتفاء فرجيلوس لخطى هوميروس في ملحمتيه واضحا، وأبرزُ تأثير للأوديسة في الإنيادة يتمثل في رحلة البحر، التي مرَّت بها سفن الطرواديين الهاربة بعد سقوط طروادة إلى الأرض الموعودة لتأسيس وطن جديد في لاتيوم – إيطاليا، بقيادة البطل الطروادي أنياس، وما تعرضوا له في طريقهم إلى لاتيوم قد شابه مغامرات أوديسيوس ومصاعبه إلى حد كبير تطابقًا أو ما اختلف على نحو يسير ملائما أحداث الإنيادة، وتوازي شخصيات الملحمتين، ودور الآلهة في رحلة العودة إلى إيثاكا ورحلة الوصول إلى لاتيوم، وكذلك التشابه في حكي بطلي الملحمتين ما وقع لهما ورفاقهما في البحر وجزره على مسامع ألكينوس وقومه وديدو وقومها، والحديث في الملحمتين يطول وليس هذا مقامه.
لم يكن أدبنا العربي في منأى عن التأثر بالأوديسة على الرغم من أنه لا يوجد ما يُثبتُ أن العرب نقلوا قديما قصيدتي هوميروس الإلياذة والأوديسة، وما عرفوه عن الشاعر قليل جدا، ولم تنقل ملحمة الشاعر الأولى “الإلياذة” إلى العربية حتى بداية القرن العشرين بتعريب سليمان البستاني. أما الأوديسة فهي لم تترجم إلى العربية ترجمة كاملة إلا في القرن العشرين من أمين سلامة، لكن ما يثير الشك حول معرفة العرب بالأوديسة قديما هو ما تكشفه بعض قصص ألف ليلة وليلة مثل حاسب كريم الدين والسندباد البحري وجلنار وبدر باسم، وهي معرفة ليست سطحية أو عابرة، لكنها معرفة متعمقة تصل إلى دراسة الأوديسة على نحو ينفي عدم معرفة من كتب هذه القصة بالأوديسة، ورحلة عودة أوديسيوس إلى إيثاكا وتيهانه في البحر وجزره، وما واجهه في رحلته من مخاطر وغرائب المخلوقات، وكذلك معرفة لجغرافية جزيرة سيرسي وقصرها/ بيتها الذي يتوسط الجزيرة.
أما أقصى آسيا، فهي الأخرى قد وصلت إليها الأوديسة، وتأثَّر الأدب الياباني الشعبي بها في قصة يُوْرِيوَاكَهْ. يعود تاريخ شيوع هذه الحكاية إلى القرن السادس عشر الميلادي في جزيرة كيوشو، ثالث أكبر جزر اليابان الخمس الرئيسة، وتقع في أقصى الجنوب من بين الجزر الأربع الكبرى (باستثناء جزيرة أوكيناوا)، ويرتبط شيوع هذه القصة بالحملات التبشيرية الإنجليزية التي وصلت إلى جزيرة كيوشو في القرن السادس عشر. تختلف الآراء في ربط هذه القصة بالحملات التبشيرية، لكن ما هو أكيد أن نقل هذه القصة إلى خارج جزيرة كيوشو كان مع العائدين من هذه الجزيرة. ولا يهمنا كثيرًا سواء أنَّ القصة نُقلت إلى جزيرة كيوشو بالحملات التبشيرية، الأمر الذي لا يبدو معقولًا إذ يُتوقَّع من المبشرين أن يكرزوا بالإنجيل لا الأوديسة ثم عادوا محمَّلين بها إلى أوروبا، أو أنَّ القصة تأثرت بالأوديسة التي وصلت إلى سكان جزيرة كيوشو بمصادر لا نعرفها، فإنَّ الأمر المهم من هذين الاحتمالين هو أننا نملك نصًا تراثيًّا شعبيًّا يابانيًّا يحاكي الأوديسة اليونانيّة، وبطلها نظير لأوديسيوس، وقصته تشبه في نواحٍ كثيرة قصة أوديسيوس. لكن كعادة النصوص الأدبية المتأتية من التأثر بالأوديسة فقد خرجت قصة يُوْرِيوَاكَهْ وفقًا لآلية ثقافية لمجتمع كيوشو اليابانيّ، أضفتْ على القصة سماتها الشعبية والعقائدية والاجتماعية والثقافية وحتى نظام الحكم الإمبراطوري، ولم يغفل من ألَّف القصة، أو من تعاقبوا على عملية التأليف الجماعي للقصة، عن إضفاء لمسته بأحداث أو شخصيات أو عناصر عملت على تقدم الحكاية والتأثير في أحداثها، وهو ما يثبت أنَّ قصة يُوْرِيوَاكَهْ ليست محاكاة سطحية مجرَّدة من أي مزية إبداعية على العكس تماما، فالإبداع حاضر، والمحاكاة محصورة في خطوط البنية الرئيسة وهيكل القصة عموما. فلدينا الأعداء الذين يرحل يُوْرِيوَاكَهْ لمحاربتهم والقضاء عليهم بأمر الإمبراطور، ثم يخونه ضابطاه رغبة في الذهب والمجد والاستئثار بهما دونه، ويتركانه وحيدًا في جزيرة صغيرة وسط البحر المترامي الأطراف، الذي لا يقرُّ له قرار ولا يعرف مدياته بحَّار، كما ذهب أوديسيوس من أجل محاربة الطرواديين بأمر ملك الآخيين أجاممنون، ثم تيهانه في رحلة العودة إلى إيثاكا التي تحكيها الأوديسة. ويسبغ راوي قصة يُوْرِيوَاكَهْ على الأخير صفات الشجاعة والإقدام والولاء للإمبراطور والوفاء للزوجة، والحيلة والذكاء ثم الانتقام من الأعداء، وهي سمات نجدها في أوديسيوس لكن ما يفضلُ به أوديسيوس يُوْرِيوَاكَهْ أنَّ الرواي لم يمنح يُوْرِيوَاكَهْ مزية الحكَّاء، فلا تكشف قصته أنه كان حكَّاءً عارفًا بفنون القص والرواية على النقيض تماما من أوديسيوس الذي تميَّز بكونه حكَّاء مجيدًا مُتقنًا لفنون القص وأساليبه. قد يعود سبب عدم منح هذه السمة ليُوْرِيوَاكَهْ رغبة المؤلف/ آلية التأليف الجماعية في حكي القصة على نحو مباشر تصاعديا دون الحاجة إلى تقسيمات الأصل الزمنية لبُنية الملحمة (إذا افترضنا وجود معرفة سابقة لها)، وقد يكون الأمر لا يعدو أكثر من كون هذه القصة شعبيةً، لذا فهي تُحكى وتُتناقل شفهيًا بأيسر أسلوب ممكن وأوضحه حتى يسهُل حفظها. وبما أننا نتحدث عن المزايا والفروق بين البطلين، فقد امتلك يُوْرِيوَاكَهْ طائرًا يرافقه في موطنه وفي رحلاته الداخلية، وهذا الطائر هو طائر البازي، واسمه، ميدوري–مارو، كان له دورٌ في القصة بإعلام زوجة يُوْرِيوَاكَهْ، السيدة كاسوجا، بأنَّ زوجها الحبيب، الذي أُشيعَ خبر موته على يد الأخوين بيبو اللذين خانا سيدهما وتركاه وحيدا، حيٌّ يرزق بعد أن أُلهم الطائر من الإله هاتشيمان أن يذهب إليه. (لا يرد في القصة ذكرٌ لهذه الاستجابة من الإله هاتشيمان إذ كانت السيدة كاسوجا تتضرع إليه أن يردَّ زوجها إليها، لكننا نعرف أن يُوْرِيوَاكَهْ قد ابتنى معبدًا لهذا الإله وبقي يتضرَّع له ولكل الآلهة التي عرفها من أجل إنقاذه من هذه الجزيرة، وتمَّ في النهاية بفضل الصياديْن، ونرى كيف وصل ميدوري–مارو إلى الجزيرة دون أن نعرف الدافع أو المرسل له حتى يبدو الأمر تدخُّل الرواي أكثر من نتيجة تفاعل الأحداث وتداخلها التأثيري بعضها في بعض). لم يكن لميدوري–مارو دورٌ في إنقاذ سيده سوى أنه ألقى السكينة على قلبي الزوجين بإيصال أثرٍ من كلا الزوجين إلى صاحبه، إذ يموت وهو يحاول أن يوصل أدوات الكتابة إلى يُوْرِيوَاكَهْ بعد أن بعثتها السيدة كاسوجا معه.
تمثُّل السيدة كاسوجا معادلا موضوعيا لبينيلوبي، زوجة أوديسيوس، من ناحية الوفاء والحب والانتظار، وإن بدت كاسوجا مع ضآلة ما يرد في القصة عنها أكثرَ عقلًا واتزانًا وسلوكًا من بينيلوبي التي قلَّلت سنوات الانتظار العشرين من رجاحتها وسلوكياتها، ولا تبدو المقابلة هنا منطقية إذ الاختلاف بين حالي الزوجتين، واختلاف المدة الزمنية في الانتظار، ومقام الزوجين إذ كان أوديسيوس ملك جزيرته في حين أن يُوْرِيوَاكَهْ هو ابن وزير الإمبراطور، لكن عموما فإن للسيدة كاسوجا فضلٌ بالعقل كما يتراءى لي على بينيلوبي. تعارض كاسوجا مثل بينيلوبي محاولات الزواج التي يُبديها الأخ تارو بيبو معها، لكنها تأبى رافضةً ومقرَّةً بحبها لزوجها يُوْرِيوَاكَهْ وأنها كانت وستبقى زوجته حتى يحبسها بيبو، ويترك لها خادمًا تقوم على أمر خدمتها.
تضمُّ قصة يُوْرِيوَاكَهْ شخصيتين رئيستين هما يُوْرِيوَاكَهْ وزوجه، السيدة كاسوجا، ويغيب المعادل الموضوعي لابن أوديسيوس، تيليماكوس. ويقوم الأخوان بيبو مقام الخطَّاب اللذين كانوا يضايقون بينيلوبي وتقدمهم لطلب يدها للزواج، إذ يقدم تارو، الذي شارك أخاه، حكم كيوشو إثر إشاعتهما خبر موت يُوْرِيوَاكَهْ، على خطبة السيدة كاسوجا التي ترفض مرارًا وتكرارًا. ويبرز موضوع العودة إلى الوطن موضوعًا رئيسًا ومُهمًا يبذ بقية المواضيع التي تتضمنها قصة يُوْرِيوَاكَهْ، لكنها عودة محفوفة بالمخاطر لا تقل خطورتها عن عودة أوديسيوس إلى إيثاكا. فبعد أن يصل يُوْرِيوَاكَهْ إلى جزيرة كيوشو يجد نفسه أعزلَ، ولا رفقة تُعين، وزوجته محبوسة، ويبرز هنا سؤال لمَ لم يتوجَّه إلى الإمبراطور أو أبيه الوزير ليكشف لهما حقيقة ما حدث له وخيانة الأخوين بيبو له، وهو سؤال يبدو منطقيًا جدًا وثغرة في بُنية أحداث القصة. لكننا إن عرفنا أنَّ القصة تركِّز على مآثر يُوْرِيوَاكَهْ البطل وشجاعته ستتبددُ أيُّ بواعث للشك، فالبطل لا يحتاج إلى مساعدة ولا يلوذ بأحدٍ إلا عند الضرورة القصوى، وما يؤكد هذا الاعتماد على النفس أنَّ القضية ليست قضية جماعة بل هي قضية فرد، تتمحور أولًا حول استعادة المنصب الذي كان يشغله فبأي وجه سيقابل يُوْرِيوَاكَهْ أهل جزيرته إن استعان بآخرين ليستردَّ ملكه، وهي استعانة ليست بالخاطئة، وكما يقول هوميروس في الأوديسة “ليست محمودة عزّة النفس للمرء ساعةَ الحاجة“، لكن من ألَّف هذه الحكاية أراد إبقاء البطولة كاملة ليُوْرِيوَاكَهْ وخالصة له دون الناس، والمحور الآخر، وهو أكثرُ فرديّة وخصوصية، كان في حبس زوجته، السيدة كاسوجا. انبغى ليُوْرِيوَاكَهْ أن ينقذ امرأته بنفسه فلا يرضى لشرفه أن يُثلم أو يُهان قبالة ناظريه وهو ساكت لا يقوى على الرد، لذا فترقَّب الفرص حتى أتت تلك التي استطاع من خلالها المشاركة بمسابقة الرمي بالقوس والسهم وجاء انتقامه لشرفه وخيانة الأخوين بيبو، كما فعل أوديسيوس بعد عودته إلى إيثاكا وانتقامه من الخطَّاب الذين احلتوا بيته، وبددوا خيراته وضايقوا زوجته، وتآمروا على قتل ابنه.
إنَّ حكاية يُوْرِيوَاكَهْ، على الرغم من تأثرها بالأوديسة واقتفائها أثر أوديسيوس الذي أصبحَ يُوْرِيوَاكَهْ، تبقى حكاية شعبية قصيرة، لا يمكن الاعتماد عليها كثيرًا فنيًّا، وتقتصر قيمتها تقريبًا على الجانب الشعبي والموضوعي، وتاريخها القديم في وقتنا المعاصر. لكن هذا بعد كل شيء لا يقلل من قيمتها، ولا يحطُّ من يُوْرِيوَاكَهْ وكفاحه من أجل نفسه وأهله ومُلْكِه.