(كتبت إيميلي برونتي هذه المقالة في 11 آب/ أغسطس 1842، وأُخرَ غيرها حين ذهبت مع أختها شارلوت للدراسة في مدرسة البنات الداخلية Pensionnat. كُتبتْ هذه المقالات في الأصل بالفرنسية في فصل الأدب الذي كان يُديره المسيو قسطنطين هيغر. أُعجب هيغر بإيميلي وعقليتها رغم الخلاف بينهما وقال عنها “كان يجب أن تكون رجلًا. تملك عقلا منطقيًا ومقدرة على الجدال، من غير المعتاد أن تجدهما في رجل، ومن النادر حقًا أن تملكهما امرأة”. تَرجمتْ هذه المقالة عن الفرنسية الكاتبةُ ستيفي دافيس في كتابها Emily Bronte: Heretic)
في واحدة من خَلَجاتِ الفكرِ التي يَلْقَى المرءُ فيها نفسه أحيانا، حين تقاسي عوالمُ الخيال شتاءً يُخرِّب كلَّ محصولها؛ حين تبدو أضواء الحياة على وشك التلاشي ويصبح الوجودُ صحراء قاحلةً حيث نتجول، في مهب ريحِ إغواءاتٍ نازلةٍ من السماء بلا أملٍ نتشبَّثُ به أو بملاذٍ نلجأ إليه- في واحدة من هذه الخَلَجاتِ السوداويّة، كنتُ أتمشّى في أمسيّة على تخوم غابةٍ. كان الفصلُ صيفًا، وأشرقتْ السماءُ عاليًا في الغربِ وتجلجلَ الجو بتغريد الطيور؛ بدتْ سعيدةً جميعها بيد أنها في ناظريّ سعادة ظاهرية فحسب. استرحتُ أسفلَ شجرةِ بلوطٍ مُعمِّرة، ومن بين أغصانها شرعتْ عاصفة ليليّة بتلاوة صلاةَ العِشاء. “حمقاءُ مسكينة” قلت لنفسي “أتُرشدينَ الطلقةَ إلى صدركِ أم الطفلَ إلى حِضْنكِ حتى يكونَ هديركُ بهذا العُلو والوضوح؟ أسْكتي هذا الهدير الصاخب واسْكُنِي إلى عُشِّكِ لربما سيقطنُه الفراغُ غدًا. لكن لمَ أخاطبك مع نفسي وَحْدَك؟ فهذا الخَلقُ بلا معنًى على حدٍ سواء. انظروا هناك، إلى تلك الطيور اللاعبة فوق الغدير ينتفخُ جوفها والأسماك كلَّ دقيقةٍ تتناقصُ أعدادها، والطيور بدورها فريسةٌ لطغاة الجو أو الماء؛ سيقتلُ الإنسانُ لأجل تساليه أو احتياجاته مُفترسيها. الطبيعة خَطَبٌ عصيُّ التفسير؛ تقوم على مبدأ التدمير ومن الضرورة بمكانٍ أن يكون كل مخلوقٍ فيها أداةَ فتكِ بالآخرين لا تكلُّ ولا تملُّ أو سيتوقف عن العيش لأجل ذاته، ورغم ذلك نحتفل بيوم ميلادنا، ونسبِّحُ الربَّ على إدخالنا هذا العالم. قطفتُ أثناء مناجاتي زهرةً من جانبي، كانت زهرة جميلة ومتفتِّحة على نحوٍ مُبهج، بيدَّ أنَّ يرقانةً قبيحة اختبأتْ داخلَ تويجاتها التي تغضَّنت سلفًا واضمحلَّت. ’مشهدٌ مُشجٍ للبسيطة وقاطنيها!‘ هتفتُ ’لا تعيش هذه اليرقة إلا لتؤذي النبات الذي حماها: لماذا خُلقتْ، ولماذا خُلقَ الإنسان؟ يُعذِّبُ، يقتلُ، يفترسُ؛ يقاسي، يموت، ويُتفرَس- ها هو ذا كلُّ تاريخُه. لهو صحيحٌ أنَّ ثمة جنةً للمقدَّسين، لكنَّ الإنسان المقدَّس يُخلِّف وراءه الكثيرَ من المآسي التي تُوحِشُه قُبالة عرشِ الربّ‘. رميتُ الزهرةَ على الأرض؛ بدا الكون في لحظتها محضَ آلة هائلة شُيِّدت لتوليد الشر. وخامرني شكُّ بخير الرب لعدم إهلاكه الإنسان في اليوم الذي ارتكبَ معصيته الأولى. ’كان من المفترض أن تُدمَّر الدُنيا‘ قلتُ ’تُمحقُ كما أسحقُ هذه الزاحفةَ التي لا تفعلُ شيئًا في حياتها سوى أن تُقذِّر ما تلمسهُ بقذارتها‘ بالكاد استطعتُ رفعَ قدمي من فوق هذه الحشرة المسكينة حين رفرفتْ نازلةً -مثل ملاكٍ رقيبٍ أُرسلَ من السماء- عبرَ الأشجار فراشةٌ بأجنحةٍ ذاتِ لونٍ ذهبيّ برّاق وأرجوانيّ: وقتها فحسبْ كُشفَ الغطاء عن بصري، ثم ارتفعتْ مجددًا عبرَ أوراق الشجر واختفتْ في سموِّ القبَّةِ اللازورديّة. أصبتُ بالبُكم وما أنا ببكماء لكن علا صوتٌ في داخلي قائلا لي ’ما من حقِّ للمخلوق في مُحاكمة الخالق، وسيأتي في قادم الزمان رمزُ العالم. مثلما اليرقانة القبيحة أصلُ الفراشة البديعة، فإن هذه الدنيا جُرثومة الآخرة بسمائها الجديدة وأرضها، مَنْ جمالها في أفقرَ حالِه سيتجاوز بلا نهاية خيالكِ القاصر وحين ترينَ عظمةَ نِتاجِ ما تحسبينه الآن وضيعًا جدًا، فما أكثرَ احتقاركِ وقتئذ لافتراضكِ الأعمى في لومكِ كليَّ القدرة في عدمِ أخذ الطبيعةِ بذنبها وإبادتها في مهدها‘. الربُّ إله العدالة والرحمة لذا فإن كلَّ جزاءٍ يُنزله على خَلقِه، سواء أبشرًا كانوا أو دوابًا، مخلوقاتٍ عاقلة أو غير عاقلة، وكلَّ معاناةٍ في طبيعتنا تعيسة الحظ هي بذرةُ هذا الحصاد السماويّ الذي ستُجمعُ غَلَّتَه حين تَستنزفُ الخطيئةُ آخرَ قطرةِ سُمِّها ويضربُ الموتُ آخرَ ضرباته؛ سيفنى كلاهما فوق مِحرقة الكون اللاهبة ويخلّفونَ ضحاياهم القدامى ينعمون في إمبراطورية السعادة والمجد الخالدة.