التراث الأدبيالتراث العربي

محسن مهدي وتقويض أسطورة ألف ليلة وليلة

قضى محسن مهدي عشرين سنة في دراسة مخطوطات كتاب ألف ليلة وليلة الموجودة وطبعاته، وقابل فيما بينها وفحصها، حتى خرج بنسخة رأى أنها أقربُ واحدة للكتاب الأصلي، ونشرها أول مرة في ليدن، هولندا سنة 1984. سرعان ما نفدت نسخ الكتاب، وتلاشت حتى صارت أعدم من الكبريت الأحمر إلا عند من حظي بنسخة من تلك الطبعة. سعيتُ منذ سنوات خالية في الحصول على نسخة من الكتاب لأقرأه وأقفَ على ما جاء به محسن مهدي، فما وفّقت إلى ذلك سبيلا، ولم أعثر إلا على نسخة رقمية في كتب غوغل لا توفر إلا نحو سبعين صفحة من الكتاب، قبل أن يمدنا أحد الأفاضل بنسخة رقمية، ونشرت دار المدى طبعة ثانية من الكتاب في سنة 2023. 

لنطف مع محسن مهدي في جولةٍ حول طبعات كتاب ألف ليلة وليلة وما آخذه عليها من نقد وملاحظات. قبل ذلك لا نغفل عن الإشارة إلى أنَّ كتاب ألف ليلة وليلة قديم الذكر، وترجع أولى الإشارات إليه في كتاب مروج الذهب للمسعودي في النصف الأول من القرن الرابع للهجرة، وتحدث عنه ابن النديم في الفهرست، والتوحيدي في الإمتاع والمؤانسة، وعاش الأخيران في القرن الرابع للهجرة أيضًا. وعثرت الباحثة نبيهة عبود على أقدم ورقة من مخطوطات الكتاب فيها عنوانه “حديث ألف ليلة” ويرجع تاريخها إلى سنة 226هـ/ 879م. ظهرت أول طبعة للكتاب بالفرنسية ترجمها أنطوان غالان ما بين سني 1702-1717 أي قبل قرن من الزمن تقريبا من أول طبعات الكتاب بالعربية. يقول محسن مهدي عن الطبعات الأولى لألف ليلة وليلة في تقديم كتابه:

1- “طبع الكتاب أول مرة في كلكتا في الهند في جزئين الأول عام 1814 برعاية كلية فورت وليم، والآخر سنة 1818 نشره الشيخ أحمد بن محمد شيرواني اليماني أحد أعضاء هيئة التدريس في قسم اللغة العربية في الكلية المذكورة… ويظهر من مقابلة ما نشره الشيخ شيرواني بالأصل الذي اعتمده أنه لم يلتزم بهذا الأصل بل بدّل فيه وغيّر ونقل منه ما شاء وأهمل ما شاء وأقحم فيه أقاصيص من أصول أخرى لم يذكرها ولا أشار إلى مصادرها. لذلك فلا يمكن أن يعد ما جاء به من طبعة عادية بمعنى أنه طبع أصلا مجهولا على علاته، ولا نشرة محققة بمعنى أنه التزم بأصله أو أصوله وبيّن ما وضعه من عنده بل هو نص ملفّق ابتدع تركيبه والكثير من لغته شيخ لا تخفي صحة نيته قلّة بضاعته”. 

2- “طبع الكتاب بالعربية في أوروبا للمرة الأولى والأخيرة في مدينة برسلاو في اثني عشر جزءًا ما بين سني 1824-1843 فظهرت بعض أجزائه قبل تاريخ طبعة بولاق الأولى وأجزاء أخرى منه بعد تاريخ هذه الطبعة وبعد تاريخ طبعة كلكتا الثانية… نشر مكسيميليان هابشت أستاذ العربية في الجامعة الملكية بمدينة برسلاو وعضو الجمعية الآسيويّة في باريس. وهذه أول طبعة للكتاب زعمت أنها كاملة فعنونت أجزاءه “هذا كتاب ألف ليلة وليلة من المبتداء/ المبتدا إلى المنتهاء/ المنتها”، وذكر أنها نقلت عن نسخة خطية تونسية. وبيّن هابشت أنه اقتنى النسخة الخطية من عالم عربي تونسي اسمه م. (مردخاي/ مراد بن) النجار وأن النجار أرسلها إليه من تونس وأنها في عشرة أجزاء مؤرخة في آخر الجزء العاشر بتاريخ 1144هـ (1731). ودرسها دانكان ماكدونالد دراسة مفصلة فحص فيها النسخ الخطية، فوجد أن النسخة التونسية المزعومة ليست إلا حديث خرافة وأن هابشت ’تعمد اختلاق أسطورة في الأدب‘”. 

3- “اشتهرت طبعة بولاق الأولى (ج 1-2 سني 1251هـ /1835م) لأنها كاملة ولأنها انفردت بين الطبعات الأربع في أنها اعتمدت نسخة خطية واحدة ولم تلفق متن الكتاب من نسخ أو مصادر أخرى. ومع أن النسخة الخطية التي اعتمدتها، بسبب استخدامها من جامعي الحروف عند الطباعة، فإن مقابلة النص المطبوع بالنسخ الخطية المعروفة لا يدع مجالا للشك في أنها اعتمدت على نسخة خطية واحدة فقط… وترجع جميع النسخ الخطية لطبعة بولاق إلى نسخة جمعت في القاهرة من أصول متفرقة لم يكن أكثرها جزءا من الكتاب الذي حفظته النسخ القديمة. وذلك أن النسخ القديمة بفرعيها الشامي والمصري القديم عنونت الكتاب “ألف ليلة وليلة” واحتوت عددا من القصص وزعت على عدد من الليالي يظهر أنه وصل إلى ما ينيف على ثلاثمئة ليلة، ثم أخذ النساخ في الشام وفي مصر يجمعون القصص والأقاصيص والسير من مصادر أخرى ويقسمونها إلى ليال ظنًا منهم أن النسخ التي وجدوها لم تكن كاملة وأنها كان ينبغي لها أن تحوي عدد الليالي الذي جاء ذكره في العنوان. ويظهر أن السياح الأوربيين جاءوا يبحثون عن النسخة الكاملة في القرن الثامن عشر فجمع لهم شيخ من نساخ القاهرة نسخةً جديدة من الكتاب، جمع فيه إلى ما وجده آنذاك في النسخ “الناقصة” (وكان بينها نسخ أكملت النسخ القديمة بعض الشيء دون أن تأتي بألف ليلة وليلة) ما قدر على استحصاله من كتب القصص والحكايات والسير من دور الكتب وباعتها، فألف متنًا جديدا قسمه إلى ألف ليلة وليلة وضع في آخره الخاتمة المعروفة… يجدر بالقارئ معرفة أن متن الكتاب المطبوع في بولاق ليس بكتاب ألف ليلة وليلة كما نعرفه من أصوله الخطية الأولى مع إضافات متأخرة، وأنه لم يحفظ من المتن القديم لا لغته ولا تركيبه ولا فن حكاياته، وأن أجمل ما يمكن أن يقال فيه هو إنه رواية أخرى للكتاب تنقصها خصائص عصر وفن الرواية القديمة. ولم تتورع طبعة بولاق الأولى من إعادة صياغة لغة النسخة الخطيّة التي اعتمدتها كما صرّح مصححها بذلك”. 

4- “طبعة كلكتا الثانية (ج1-4، سني 1839-1842)، وهي طبعة اعتمدت على نسخة خطية كتبت في مصر أوردها إلى الهند ميجر طرنر مكان. وهي نسخة تملكها اليوم في مكتب المتحف البريطاني في لندن، وتاريخها 12 صفر عام 1245/ 1829، أي قبل طبعة بولاق بست سنوات. وهي نسخة من العائلة المصرية المتأخرة كما في طبعة بولاق الأولى. لفقت طبعة كلكتا الثانية من جديد نصا ما أنزل الله به من سلطان، فجمعت بين متن النسخة الخطية المصرية وبين طبعتين كانتا لفقتا من قبل”. 

ويقول: “إنَّ النساخ لم يتحرجوا من تغيير لغته ووضع ألفاظ معروفة عندهم مكان ألفاظ لم تعد دارجة في زمانهم. ولما لم يكن من غرض الكتاب تعليم العلوم والآداب واللغة الفصيحة، وإنما كان غرضه الحكاية والسمر، لم يتورع النساخ ورواة القصص والسير من أن يقحموا فيه ويضيفوا إليه قصصا أخرى ارتضاها ذوقهم. والنسخ الخطية المعروفة اليوم ليست نسخا لكتاب بالمعنى المتعارف عليه لهذا الاسم بل يجب فحصها وتصنيفها إلى روايات وتحقيق كل منها على حدة”. 

يتضح مما سبق أنَّ ما يؤاخذه محسن مهدي على هذه الطبعات لا يخرج عن: 

1- الزيادة والحذف في القصص. 

2- التعديل والتغيير والتشذيب في لغة الكتاب. 

3- تلفيق قصص وإقحامها متن الكتاب.

4- تلفيق مخطوطات للكتاب، وبطبيعة الحال قصصها، وادّعاء أصالتها. 

5- عدد الليالي ليس ألف ليلة بل يزيد على ثلاثمئة ليلة لا غير. 

6- إنّ خاتمة الحكاية الإطارية والكتاب، بإخراج شهرزاد أبناءها الثلاثة للملك شاهريار وطلبت عتقها من القتل إكراما لهم، نهاية موضوعة ليست من أصل الكتاب. 

7- أضيف أن معظم النسخ المتداولة والمطبوعة اليوم من الكتاب بمختلف طبعاتها تعتمد على طبعة بولاق ذائعة الصيت.

في خضمِّ هذا التلاعب في متن الكتاب ومخطوطاته ونسخه كان لا بد من الرجوع إلى الأصل الذي انبثقت منه حكايات الكتاب. يقرُّ محسن مهدي أنَّ “الأمهات القديمة لم يعد اليوم لها وجود ولا نسخ عنها بطريق مباشر، وكل ما يرد عن الكتاب وحكاياته يعتمد على ما ذكره المؤرخون وغيرهم عن الكتاب وإلى ما نتوصل إليه اليوم من المقابلة بين الكتاب والمصادر الأدبية التي وصلت إلينا”. ووضع جدولا زمنيا لنسخ الكتاب أوجزه بـ:

1- النسخة الأم القديمة قرن 3هـ/ 9م وهي نسخة غير موجودة. 

2- النسخة الأم (ما بين 4-8هـ/ 10-14م): غير موجودة. 

3- النسخة الدستور قرن  8هـ/ 14م: غير موجودة. تفرعت هذه النسخة إلى فرعين: الشامي والمصري، وتفرع المصري إلى فرعين: القديم والمتأخر ما بين 9-13هـ/ 15-19م.  

يكتب محسن “لم تعد لدينا النسخة الأم مع ذلك فإننا نعلم أنها الأصل الأول للكتاب الذي ننظر اليوم في نسخه الخطية كما جمعه أو رواه أو كتبه الذي ألفه. وهي نسخة يمكننا أن نتعرف إلى خصائصها بعامة وإن لم نعد بالقادرين على تحقيق شيء من متنها. فليس هناك ما يدعو إلى الشك على سبيل المثال في أنها ألفت في عصر دولة المماليك التي كانت تضم مصر والشام أو في أن تأليفها لم يسبق النصف الثاني من القرن السابع من الهجرة (النصف الثاني من القرن الثالث عشر للميلاد) أو في أن النسخة الدستور نسخت من النسخة الأم أو من نسخة كانت نقلت عن النسخة الأم بعد جيل أو جيلين من تأليفها، أو أن النسخة الأم كانت تضم جميع أو أغلب القصص وألفاظ الحضارة التي وردت في الدستور. 

أما النسخة الدستور فهي الأصل الوحيد الذي تعود إليه النسخ الخطية بفرعيها الشامي والمصري، ومع أنّ هذه النسخة عُدمت أيضًا فالتثبت من قراءتها وأخطائها وما كان فيها من النقص أمر ممكن في جميع المواضع التي تثبت وتصح وتتفق فيها قراءة أصلي الفرعين الشامي والمصري. ومع أن تحقيق المتن الكامل لأصل الفرع الشامي وأصل الفرع المصري عسير لخصائص نسخ الكتاب الخطية فهو أمر يسهل في كثير من المواضع من الكتاب”. 

تفرعت النسخة الدستور إلى فرعين شامي ظهر في أربع مخطوطات، أقدمها يرجع إلى القرن العاشر للهجرة/ السادس عشر ميلادي. وحافظ الفرع الشامي عموما على أصله الأول. أما الفرع المصري فقد تفرع إلى قديم وحديث وكثرت نسخه، ويؤكد محسن أنَّ “ترتيب سلسلة نسبها بعامة أمر ممكن أيضًا، وإن كان يصعب التيقن من بعض تفاصيله لحداثة أغلب هذه النسخ، ولامتزاج بعضها بالبعض الآخر، ولانتقال نسبها من جزء إلى آخر، ولما في النسخ القديمة منها من النقص والزيادة ما لم نعد اليوم قادرين على التوصل إلى أصله أو زمانه”. اعتمد محسن مهدي في تحقيق نسخته على الفرع الشامي، ولم يستعن بالفرع المصري “إلا إذا تحققنا أو ظهر لنا من أمر الفرع الشامي أنه أخطأ فيما نقله من الدستور أو أنه أسقط شيئًا من الدستور لا يكمل النص دونه، وأن الفرع المصري حافظ على القراءة الصحيحة أو على ما سقط من الفرع الشامي”. واستعان بالفرع المصري في إكمال القصة الاخيرة وهي قمر الزمان وابنيه الأمجد والأسعد، إذ ينتهي الفرع الشامي في منتصف الحكاية عند الليلة 282، وتبدأ تتمة القصة في الفرع المصري من الليلة 95 حتى الليلة 166، أي في نسخة محسن من الليلة 283-354.  

تقويض أسطورة ألف ليلة وليلة 

يرجع تاريخ نسخة محسن مهدي إلى النصف الأول القرن الخامس عشر ميلادي (1440)، وتتميز بأنها ذات لغة وسيطة بين المحكية والفصحى، وألفاظها من اللغة المحكية في عصر المماليك في مصر والشام1، وما لهذه اللغة من إملاء خاص ونحو وتراكيب ودلالات لغوية فارقة، وأسلوب حكاياتها مختلف عن النسخ الشائعة إذ هو مسهبٌ غير مختصر، إذ طال الإيجاز في التعبير حكايات ألف ليلة وليلة في النسخ الشائعة. لكن ما يجدر ملاحظته أنَّ لغة الحكايات الوسيطة مختارة عن قصدٍ من الكاتب لا مجبول صاحبه عليها لجهل منه أو لقلة زاده في العربية، ونبصر لغته الفصيحة في الافتتاح إذ يقول: “وأما بعد فإننا نخبر معاشر الأجواد والسادة الفضلاء الأمجاد بأن المقصود من كتابة هذا الكتاب الشهي المستطاب النفعَ لمن يطالع فيه، لأن فيه سير كثيرة الأدب ومعاني فايقة لأهل الرتب، ومنها يتعلم الإنسان علم الكلام وما جرى للملوك من أول الزمان على التمام. وسميته كتاب ألف ليلة وليلة ويتضمنه أيضا سير جليلة يتعلم سامعها الفراسة منها حتى لا يدخل عليه حيله ويصير التنزه والسرور أوقات الكدر من أحوال الزمان المفتنّة بالشرور، والله تعالى المهدي إلى الصواب”. 

تتألف هذه النسخة من تسع قصص رئيسة لا غير، وتضم هذه القصص حكايات ثانوية بلغ عددها إحدى وثلاثين حكاية، وهذه القصص التسع بحكاياتها الداخلية جميعا واردة في نسخ ألف ليلة الشائعة ولا تفرق إلا في لغتها وأسلوبها وترتيبها وتقسيم لياليها. تنتهي القصص التسع بقصة قمر الزمان وولديه الأمجد والأسعد في الليلة 282 لكن القصة لا تكتمل فيكملها من نسخة الفرع المصري. يسعنا القول هنا إنَّ نسخة محسن مهدي غير كاملة، وإنْ كان أنهاها بقصة قمر الزمان فليس من دليل جازم على أنّ الكتاب ينتهي بها. 

ينكر محسن مهدي أن تكون لكتاب ألف ليلة وليلة خاتمته المعروفة، مع أنّ هذه النهاية معروفة مشهورة كما يذكر ابن النديم في الفهرست “فلما حصلت معه ابتدأت تخرّفه، وتصل الحديث عند انقضاء الليل بما يحمل الملك على استبقائها ومسألتها في الليلة الثانية عن تمام الحديث، إلى أن أتى عليها ألف ليلة، وهو مع ذلك يطأها، إلى أن رزقت منه ولدًا أظهرته، وأوقفته على حيلتها عليه، فاستعقلها ومال إليها واستبقاها”. كما تظهر هذه الخاتمة بصيغة مختلفة لكنها متعلقة بالحمل والولادة في كتاب مئة ليلة وليلة، وهو في الغالب مقتبس من ألف ليلة وليلة في المغرب العربي. ويرجع تاريخ أقدم مخطوطة لكتاب مئة ليلة وليلة -عثرت عليها المستشرقة الألمانية كلوديا أوت في متحف (غروبيوس برلين) في آذار/ مارس 2010- إلى سنة 632هـ 1234م أو 1235م، أي أقدم من نسخة محسن. يرجّح عندي هذان الدليلان أنَّ هذه الخاتمة المعروفة ليست ملفّقة على حكايات ألف ليلة وليلة، وأنّها جزء من الحكاية الإطارية ولا تكتمل إلا بها. هذا ما يجعلني أكثر ميلا إلى أن نسخة محسن مهدي غير كاملة وإنْ ادّعى سوى ذلك.       

يرى محسن مهدي أنّ عدد ليالي الكتاب ليست ألفًا، وإنما قيل ألفُ ليلة دلالة على الكثرة والمبالغة لا العدد الحقيقي، وأن توهّم النسّاخ بأن المقصد من العنوان هو استمرار الليالي ألف ليلة جعلهم يضيفون حكايات لمتن الكتاب ويتلاعبون في تقسيم الليالي حتى يصبح عدد الليالي ألفًا بالتمام والكمال، يعضد قوله هذا بطرحه الخاتمة من أصل الكتاب إذ تأتي فيها شهرزاد بثلاثة أولاد. لكن لا يسعنا التيقّن من أن عدد الليالي ليس ألفا كما يذهب محسن مهدي، لأنه وفق الشواهد التاريخية التي أتت على ذكر الكتاب فإن الليالي ألف ليلة، كما عند ابن النديم الذي يقول بصريح العبارة أنه أتى عليها ألف ليلة، ودوام الحكايات ألف ليلة يتناسق مع الخاتمة التي تستشفع بها شهرزاد زوجها ببنيها الثلاثة، وهذه مدة كافية لتلد فيها شهرزاد ابنا كلَّ سنة تقريبا. وكما ذكرنا آنفا فإن نسخة محسن مهدي غير كاملة إذ تتوقف عند الليلة 282 فاستعان بإكمال قصة قمر الزمان بالفرع المصريّ، ولو كانت كاملة لأكملت قصة قمر الزمان، وبما أن نهاية النسخة مجهولة فلا يسعنا التثبّث من أنّ الفرع الشامي ينتهي بهذه القصة، ولو انتهى عند القصة فليس بالدليل القاطع على نهاية الكتاب إذ إننا -وبإقرار محسن نفسه- لا نملك النسخة الدستور، ولا النسخة الأم، ولا النسخة القديمة، أي إنَّ قول محسن بأن عدد الليالي ليس ألفا قول لا يعضده دليل وليس قطعيًا وإنْ بدا ممكنًا. يزيد على ذلك إنَّ تقسيم الليالي في نسخة محسن تقسيم تشوبه العشوائية فبعض الليالي تكون قصيرة في صفحة أو أقل، وتكون متتابعة في سلسلة، ثم تعود لتكون ليالي طويلة في سلسلة متتابعة، ثم قصيرة في مواضع لاحقة، ونرى ذلك في الليالي 84-90، و225-233. فما من شيء يمنعنا من الشك في أنّ هذا التقسيم غير أصلي ومن عبث النسّاخ ليزيدوا عدد الليالي إذ لا قاعدة جليّة في سبب طول بعض الليالي وقصر بعض آخر، فنرجع إلى ذات الإشكاليّة التي جعلت محسن مهدي يُنكر بها على النسخ الشائعة من الكتاب في عدد الليالي. 

نرى أن محسن مهدي يقوّض أسس أسطورة كتاب ألف ليلة وليلة من ثلاثة منطلقات، الأول يجرّده من ميزة التهام الكتب والقصص التي أدخلها متنه، ويترتب على ذلك حتمًا المنطلق الثاني في أنَّ عدد الليالي ليس ألفًا، والعنوان مجازي بعدد لياليه لا أكثر، ويترتب على ذلك أيضا المنطلق الأخير في أنّ الحكاية الإطارية لا خاتمة لها إيّ إن مصير شهرزاد مجهول على وجه اليقين. لكن لا يقتصر التقويض عند هذا فقط بل ثمة ما هو أكثر ضررًا متمثلًا في انكسار شرط التشويق الليلي. كما نعلم أنّ شهرزاد اتّبعت أسلوبًا في الرواية يعتمد على تشويق شاهريار بأن تشنّف آذانه وتخلّب لبّه بحكاية لا تنتهي بطلوع النهار، مما يضطر شاهريار إلى أن يستبقيها ليلة أخرى لتكمل له الحكاية، وهكذا دواليك حكاية بعد أخرى، تطيل بها شهرزاد عمرها وتفوز بحياتها. لكنّ مع نسخة محسن مهدي ينكسر هذا الشرط إذ تأتي نهاية عدة قصص مع نهاية الليل كما في قصص نور الدين بن بكار والجارية شمس النهار، والصياد والجني، وأنيس الجليس ونور الدين ابن خاقان، وجلنار البحريّة. صحيح أنّها تعد الملك بقصة جديدة في الليلة القابلة إذا ما أبقاها الملك لكنه تشويق يعتمد على ما سيُحكى لا إكمال ما بدء بحكيه، وبهذا يكون شرط التشويق قد انكسر والعقد قد انفرط لكن لا يقتلها شاهريار، وقد صار قادرا على ذلك ولا مانع يحجزه عن قتلها. لذا حين تعود اللازمة الأسلوبية في الحكايات اللاحقة، بأن تسأله إبقاءها ليلة أخرى لتكمل الحكاية أو تعده بحكاية جديدة، تصبح زائدة غير ملزمة إذ افتقدت خصوصية غرضها. ولجبر كسر الشرط فإنَّها تشوّقه في قولها إنَّها ستحدثه عن قصة تفوق ما قصّته براعة وعجبا. تبرز لدينا هاهنا سمة جديدة أنَّ حياة شهرزاد مقرونة بالحكي فما دامها تحكي فهي لا تموت، فحياتها في حكيها، وهنا لا يهم كسرُ الشرط التشويقي لأنها قادرة على تجديده، وحياتها متعلقة لا بأسلوب الحكي إنما بامتلاكها ما تحكيه. 

1- من بين ما وقعت على تعابير وألفاظ ما زالت مستخدمة في محكية العراق والشام ومصر. 

– روحي وصلت القدس: تعبير مستخدم في العراق.

– سلاحيّة: سرَّاحية: مستخدمة في العراق.

– يا عوينتي، يا كبيدتي: عراق.

– أبزاز: سوريا ومصر.

– وعلي مجنون: الحلف بعلي بن أبي طالب عند شيعة العراق.

– أوسخ المعرصين: مصر.

– نعيم بعد الخروج من الحمام: العراق بلفظ نعيما.

– الملوك بتوع البحر: مصر.

هو في أين: هو فين: مصر.

التشابه ما بين محكية الشام ومصر كان شائعا في حقبة المماليك، لذلك الألفاظ الواردة في الكتاب، وهي اليوم شائعة في مصر، قد توحي للقارئ أن نسخة محسن مهدي كتبت في مصر والحقيقة أنها نسخة شاميّة، واللافت أن فيها ألفاظا وتعابير ما زالت دارجة في اللهجة العراقية.

 

حكايات شهرزاد بين الأصالة والتلفيق 

تكلمت في قراءتي لكتاب ألف ليلة وليلة عن منهجية شهرزاد الحكائية (أو السردية)، إذ تعمل شهرزاد على شفاء شهريار (شاهريار بإملاء نسخة محسن) بحكاياتها بطرقها دربين الأول يخص الحكايات المرويّة والآخر يخص الأسلوب الحكائي. فأما الأسلوب الحكائي فهو أن تقص في الليل فقط، وأنّ حكايتها لا تنتهي بطلوع النهار لتشوّق شهريار ليبقيها ليلة أخرى، وتكرار مواضيع الحكايات وإطالتها. أما الحكايات فإنها تنقسم على ثلاث مراحل، الأولى أنَّها تقص حكايات ينجو أبطالها من الموت بالقصص، أي رد الموت بالقصة، وتدافع هنا عن نفسها بطريقة غير مباشرة، فإذا ما استحكمت من شهريار غيَّرت مواضيع حكاياتها من النجاة بالقصص إلى حكايات ذات طابع غرائبيّ وتشويقي استمالت بها قلب شهريار وجعلته لا يستطيع فكاكا منها، فإذا ما بلغت هذه الرتبة شرعت في المرحلة الأخيرة بإعادة الثقة بالنساء في نفس شهريار بحكايات عن الحب ولوعاته وتباريح العشّاق وإخلاصهم ولمّ شملهم بعد الفراق، وتمَّ له في آخر المطاف النجاة بنفسها وشفاء شهريار والفوز به زوجًا. ووفقا لهذه المنهجية -على افتراض أن شهرزاد كانت تعمل بنيّة مبيتة ومنهجية واضحة في نفسها وهذا ما أذهب إليه- وسعنا أن نستخرج الحكايات التي روتها شهرزاد من تلك التي أقحمت في الكتاب أو وسعه التهامها. وقد قسّمت الحكايات إلى خمسة أنواع: 

الأول: السير الشعبية وهي قصة عمر النعمان، وقصة عجيب وغريب، وقصة دليلة المحتالة.    

الثاني: أخبار العرب وحكاياتهم، وهي صغيرة الحجم، متشابهة الأسلوب، متتالية في التسلسل، ظهرت في ثلاث سلاسل: السلسلة الأولى 16 حكاية، والسلسلة الثانية 11 حكاية، والسلسلة الثالثة 13 حكاية.

الثالث: القصص ذات الحبكات المكررة، وأغلب الظن أنّها اعتمدت على حكايات من الكتاب وأعادت كتابتها مع التغيير، أو أنها جمعت في الكتاب الحكاية نفسها بروايتين مختلفين. 

الرابع: القصص التي التهمها الكتاب، وهي ذات مصادر منفصلة مثل قصة الجارية والوزراء السبعة أو ما يعرف بالسندباد نامة. 

الخامس: القصص التي روتها شهرزاد من أجل إنقاذ نفسها وشفاء شهرزاد، وهي بثلاثة مواضيع: القص في مواجهة الموت، الغرائب والعجائب، الحب وأخبار العشاق. 

تمنحنا نسخة محسن مهدي القصص من النوع الخامس وإنْ لم تكن متسلسلة بالترتيب المفترض لمنهجية شهرزاد السرديّة، لكن مع عدم اكتمال نسخة الفرع الشامي فتبقى المسألة معلّقة، ويمكن الجمع ما بين النسخ الشائعة ونسخة محسن مهدي في استخراج كتاب ألف ليلة وليلة الحقيقيّ، وهاهنا لن يكون كتابًا أصليًّا أكثر منه كتاب جديد يسعنا القول إنها النسخة الحقيقيّة كما وسع محسن مهدي ادّعاء أن نسخته هي الأقرب إلى الأصل.

مسرد قصص ألف ليلة وليلة بتحقيق محسن مهدي 

 

تسلسل القصة

الليالي

القصة

حكايات القصة الداخلية

ملاحظات

1

1-8

التاجر والجني

– حكاية الشيخ الأول 

– حكاية الشيخ الثاني 

– حكاية الشيخ الثالث: غير مذكورة.

رد الموت بالقصص. 

2

8-27

الصياد والجني

الجزء الثاني من القصة هو حكاية السمكات الأربع الملوّنة.  

– الملك يونان والحكيم دوبان

أ- التاجر صاحب الدرة

ب- حكاية ابن الملك والوزير 

– رد الموت بالقصص.

– إشارة في حكاية الملك يونان إلى كتاب الوزراء السبعة والسندباد.

– الكتاب المسموم للحكيم دوبان.

– ينكسر تشريط التشويق في القصة بأن يطلع صباح قبل أن تكمل القصة فتشوّق شاهريار أن يبقي على حياتها حتى يسمع تمامها، لكنها تنهي القصة مع طلوع الصباح وتعد بقصة جديدة في الليلة القابلة. وبهذا يكون الشرط قد انكسر والعقد قد انفرط لكن لا يقتلها شاهريار، وقد صار قادرا على ذلك ولا مانع يحجزه عن قتلها. لذا حين تعود اللازمة الأسلوبية في الحكايات اللاحقة تصبح زائدة غير ملزمة إذ افتقدت خصوصية غرضها. 

3

28 – 69

الحمال والصبايا الثلاث

– حكاية الأعور الأول، والنجاة بالقصص. 

أ- حكاية الأخ والأخت.

– حكاية الأعور الثاني

أ- حكاية الحاسد والمحسود

حكاية القرد: الجزء الثاني من حكاية الأعور الثاني. 

– حكاية الأعور الثالث

أ- حكاية الفتى في القبر 

ب- حكاية العوران 

– حكاية جعفر

– حكاية الصبية الأولى 

– حكاية الصبية الثانية

– حكاية هارون الرشيد الإطارية مع الصبايا الثلاث. 

– رد الموت بالقصص. 

– ذكر هارون الرشيد. 

– في حكاية الأعور الثاني يلتقي جارية خطفها جنيّ، ولعلها تكون الجارية نفسها التي التقاها شاهريار وأخوه.  

– في حكاية الصبية صاحبة البيت تكون البطلة امرأة على غير عادة حكايات الجزر حيث يكون البطل رجلا دائما. وفي أحداثها شبه لحكاية صاحب الكلبتين، الشيخ الثاني.  

4

69-101

التفاحات الثلاث

– حكاية الوزيرين

– تبدأ هذه الحكاية في الليلة التاسعة والستين دون فصل عن الحكاية السابقة، لكن الرابط بينهما أنَّ هارون الرشيد كان حاضرا في الحكاية الإطارية لحكايات الصبايا الثلاث وانتهت به الحكاية. 

5

102-170

الأحدب صاحب ملك الصين

– حكاية الشاب مقطوع اليد والصبية. 

– حكاية النصراني 

– حكاية الشاهد 

– حكاية اليهودي

– حكاية الخياط يرويها عن الأعرج الذي يروي حكايته مع المزين، والمزين يروي حكاياتٍ:

أ- حكاية المزين   

ب- حكاية أخي المزين الأول: الخياط.

ج- حكاية الأخ الثاني المفلوج. 

د- حكاية الأخ الثالث الأعمى.

هـ- حكاية الأخ الرابع القصاب. 

و- حكاية الأخ الخامس مقطوع الأذن.

ز- حكاية الأخ السادس مقطوع الشفتين.

– في حكايات الأربعة عاهة جسدية (3 قطع يد، 1 أعرج)، والسبب: حب صبية حسناء. 

– دفع الموت بالقصص. 

– حكاية المزين أ تظهر بأسلوب مغاير في كتاب نزهة الأشواق أخبار المتين والعشاق. 

– القصة تبدأ في ليلة جديدة هي 102. 

6

171-200

نور الدين بن بكار والجارية شمس النهار

– انكسار شرط التشويق الليلي. 

7

201- 229

أنيس الجليس ونور الدين ابن خاقان

– انكسار شرط التشويق الليلي. 

8

230- 271

جلنار البحرية وابنها الملك بدر

– انكسار شرط التشويق الليلي. 

9

272-354

قمر الزمان وولداه الأمجد والأسعد

القسم الأول من الحكاية هي حكاية قمر الزمان وزوجتيه. 

القسم الثاني هي حكاية ولديه الأمجد والأسعد. 

– حكاية نعمة ونعم 

– تنتهي مخطوطة محسن مهدي الشاميّة في الليلة 282 والقصة لم تنتهِ، وأكملها من مخطوط مصري تبدأ فيه التتمة من الليلة 95 حتى الليلة 166. وعليه فإن عدد ليالي حكاية قمر الزمان هو 83 ليلة. 

– تشابه في هذه حكاية الأمجد مع حكاية محمد الموجود في كتاب الحكايات العجيبة.

– حكاية نعمة ونعم فيها ذكر لظلم الحجاج. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى