إنَّ قصيدة بَيَوولف واحدة من الأعمال المؤسسة للأدب الإنجليزي، وأكثرها أهمية في الألفية الأولى، ويرجَّح تاريخ تدوينها غير المحدد ما بين منتصف القرن السابع ونهاية القرن العاشر الميلاديين، ويرى بعض الباحثين أن زمن تدوينها هو سنة 725م في حين تاريخ نشأتها فهو كما مرجَّح قبل هذا التاريخ بقرن أو اثنين وأحداثها إلى زمن أسبق. تتألف هذه القصيدة من نحو مئتين وثلاثة آلاف بيت منظومة بالشعر الجِناسي، وهو نظام شعريّ للقصائد طويلة، يتألفُ كلُّ سطرٍ من شطرين، يطغى على كلِّ شطرٍ صوتٌ واحدٌ يتكرر في كلمتين أو ثلاث ليمنحَ الشطرَ نَغَمًا مُعيَّنًا. وكان هذا النظام معتمدًا قبل استخدام القوافي والبحور الشعرية في الشعر الجرمانيّ والإنجليزيّ القديم. دُوِّنت هذه القصيدة باللغة الإنجليزية القديمة أو اللغة الأنغلوسكسونية، ولا تُقرأ القصيدة اليوم تقريبا إلا بترجمات إلى الإنجيلزية المعاصرة، إذ شهدت الإنجليزيّة تطورًا كبيرًا واختلافًا واضحًا على مدى قرون، مما يجعلها عملًا مستعصيًا على الفَهم لدى القارئ المعاصر إلا بالترجمة إلى اللغات الحيّة. كادت قصيدة بيوولف أن تختفي إلى الأبد في القرن الثامن العشر بسبب الحريق في بيت آشبورنهام، حيث كانت محفوظة المخطوطة الوحيدة من القصيدة، مخطوطة Nowell Codex، والموجودة اليوم في المتحف البريطاني التي تضمّ معها عدة مؤلفات أخرى. يُقدَّر تاريخ هذه المخطوطة ما بين 975-1025م، وهي واحدة من أربعة مخطوطات أدبيّة رئيسة باللغة الأنغلوسكسونية. التفتَ إلى هذه القصيدة بعد نجاتها، وبدأ تناقلها وترجمتها وتحريرها على نطاق واسع لتكون واحدة من أهم الأعمال المؤسسة للأدب الإنجليزي. تتحدث قصيدة بيوولف عن البطل القوطي بيوولف وحياته وكيف قضى على ثلاثة وحوش في حياته هددت أرض الدنمارك وشعبها وأرض القوط (منقطة في السويد حاليا)، ويُرجَّح أن هذه القصيدة انتقلت إلى إنجلترا مع الأقوام الإسكندنافيّة التي هاجرت من شمال أوروبا في الألفية الأولى. غزت هذه القبائل مناطق مختلفة سواء داخل إسكندنافية أو ما وراء البحر في إنجلترا وفرنسا وغرب أوروبا، والأندلس، وتذكرها وغزواتها المصادرُ الإسلامية عن تاريخ الأندلس. استقرَّت هذه القبائل لاحقا في إنجلترا، وفي منطقة النورماندي (التي حملت اسمهم)، شمال غرب باريس في القرن التاسع والعاشر الميلادي، لأنها أقوام زراعيّة وجدوا في هذه الأراضي الجديدة مقامًا طيبًا لهم. وقد يعني ذلك أنَّ هذه القبائل جلبت معها هذه القصيدة الشفاهية عندما غزت إنجلترا واستقرت فيها، إضافة إلى أن جغرافية القصيدة لا تخرج عن حدود الدول الإسكندنافية (السويد، الدنمارك، فريسلاند “شمالي غرب أوروبا”)، وكذلك تقاليد تلك الأقوام الشمالية بما فيها حرق الموتى، وإيوان الاحتفال وشرب البتع (الميد) المرتبطة بالملوك، وأسماء الشخصيات، لكننا في المقابل نجد أن الديانة المسيحية التوحيديّة بعبادة رب الخلق والعالم هي المهيمنة على معتقد شاعر القصيدة الذي يتجلى في بعض مقاطعها في غياب تامٍ للأساطير الإسكندنافية وآلهتها مثل أودين وثور الذين انتشرت عباداتهم لدى هذه القبائل قديما، ويُذكرون في المؤلفات الآيسلنديّة القديمة مثل كتاب Prose Edda، وPoetic Edda، أو تظهر تأثيراتهم في كتب أخرى مثل القصيدة الجرمانية نشيد النبيلونغ Nibelungenlied، مما يُنشئ مفارقة تاريخية وتلاعب دينيّ بجعل بعض بيوولف يتوكل على الله في قتاله، ولعل أبرز تناقض في ذلك هو الاستمرار بطقس حرق الموتى الذي لا تقرُّه المسيحية التي تدفن الموتى كسائر الأديان الإبراهيمية كما حصل مع بيوولف وحرق جثمانه بعد موته. كما قد يشير هذا إلى عملية التنقيح والتحرير الديني الذي طال القصيدة الشفاهية عند تحولها إلى نص مكتوب باللغة الأنغلوسكسونية (أو الإنجليزية القديمة)، التي انبثقت منها الإنجليزية الوسطى المكتوبة بها الآداب الإنجليزية النثرية والشعرية في القرون الوسطى ابتداءً من الشاعر الإنجليزي جيفري تشوسر في القرن الرابع عشر، وتطورت الإنجليزية الوسطى حتى وصلت إلى الإنجليزية المعاصرة. إنَّ هذا التداخل ما بين مكان أحداث القصيدة وزمانها في إسكندنافيا وما بين مكان تدوينها ولغتها في إنجلترا يجعلها عملًا ينتمي إلى أدبيّن، إذ يضعها بعضهم في أول سلّم الأدب الآيسلندي أو الإسكندنافي (إذ جرى التفريق بين الأدبين)، كما فعل أنتوني فاولكيز في ترجمته لكتاب إيدا لسنوري ستورلوسون الآيسلنديّ، وتصبحُ من النصوص التأسيسية في الأدب الإنجليزي لغةً والآيسلندي والإسكندنافيّ نشأةً وموضوعًا. يرى يرى ج. ر. ر. تولكين، أحد أهم الدارسين والمترجمين لهذه القصيدة والمنافحين عنها، بأنَّ القصيدة تنتمي إلى الحقبة الوثنيّة للأقوام الأنغلوسكسونيّة. وفي ورقته البحثيّة “بيوولف: الوحوش والنقَّاد” ناقشَ القراءات القاصرة لهذه القصيدة وفنّدها، ولا سيما تلك التي تعاملت بسطحيّة، حسبما رأى، مع بيوولف. فهذه القصيدة كما يقول تولكين مهمةً جدًا شعرًا، والشعرية فيها رفيعة حتى إنها تطغى تمامًا على المحتوى التاريخي، ويرى أننا نتجاوزَ القصيدة عند دراستها إذا ما كان الدارسُ يبحث عن شيءٍ غير شعريّ، أو إذا ما كانت القصيدة تفتقرُ إلى قيمة شعرية. وفي إجابته عن سؤال ماهيّة بيوولف أهي ملحمة أم نشيد، فهو لا يفضل كلا المصطلحين ويختارُ المرثيّة، وبأنها قصيدة مرثيّة بطوليّة.
موضوع القصيدة
تحكي القصيدة عن البطل القوطي، بيوولف، الذي حملت اسمه مع أنها غير معنوَّنة في الأصل، ومغامراته في أرض الدانيّين ثم عودته إلى وطنه الذي تُوِّج عليه ملكًا لاحقًا ودام مُلكه خمسينَ شتاءً حتى موته في معركته الأخيرة ضد التنين، حارس كنز الأرض. تبدأ الحكاية بذكر الدانيّين وأرضهم وملوكهم حتى الوصول إلى الملك هروثغار الذي يأمر ببناء إيوان عظيم للاحتفال وشرب البِتْع (خمر العسل ومقابل لشراب الميد) أسماه هيورت، إلا إنَّ هذه الاحتفالات لا تدوم طويلًا إذ يهجم على الرجال النائمين في الإيوان بعد نهاية الاحتفال غريندل الوحشُ أو المخلوق الخارج من أصل الجحيم من نسل قابيل والملعون من الرب العلي، ويفتك بالرجال ويقضي عليهم، ويبقى متربصًا لأي احتفال ليهجم بعدها على الرجال، أثار هذا الهجوم الحزن والأسى في نفس الملك هروثغار. تذيع هذه الأخبار وتنتشر في البلاد المحيطة بالدنمارك وتصل إلى أرض القوط وبطلهم بيوولف الذي يستنهض رجاله للارتحال معه عبر البحر إلى الدنمارك وتقديم المساعدة لملكها هروثغار. يصل بيوولف ويعرض المساعدة على هروثغار الذي عرفه صغيرًا وأباه من قبله، واستبشر خيرًا بهذا البطل الذي قرر مواجهة الوحش غريندل، وبيدين عزلاوين حينما علم أن غريندل لا يستخدم السلاح. ينتظر بيوولف الوحشَ في هيروت إلى أن أتى في الليل وواجهه في قتال بالأيدي ينتهي بإلحاق ضرر كبير بغريندل الذي يخسر ذراعه اليسرى كاملةً من كتفه ويهرب من الإيوان عائدًا إلى مستقره أسفل الأرض. لكن لا تنتهي المواجهة هنا إذ تعود الهجمات هذه المرة من أم غريندل التي تجيء ساعية لتثأر لابنها فتقتلُ في هيروت أفضلَ مستشاري هروثغار وصديقه آشهيره فينوح عليه ويندب حظه لأنه لا يستمتع بهناء ولا راحة. يتعقب بيوولف ورجاله أثر أم غريندل الذي يختفي في بحيرة فيغطس بيوولف ملاحقًا إياها ويبدأ في قتال آخر ينتهي بقضائه عليها، ويعود برأس غريندل إلى الملك هروثغار الذي كُتب له السعادة والراحة ولأرضه وشعبه أخيرًا. يقفلُ بيوولف بعد ذلك راجعًا إلى أرضه ووطنه محمَّلًا بهدايا الملك هروثغار لكنه لا يستأثر بها لنفسه بل يمنحها لملك القوط هايجلاك، الذي يخلفه بعد موته ابنُه هيردريد، وتراه أمه هيغد غير صالح للحكم، ويخلفه في المُلك بعد مقتله بيوولف، ابن أخت زوجها. يحكم بيوولف بعدها بلاد القوط خمسين شتاءً متعاقبًا قبل أن يظهر الخطر المهدد لشعبه والذي سيودي بحياته، وهو التنين، الحارس لكنز تحت الأرض يعود إلى عِرق سحيق، خزّنه آخر رجالهم قبل موته. يستيقظ التنين بسبب سرقة لإحدى قطع هذا الكنز، ليجد بيوولف نفسه أمام مهمة لا مناص عنها يستدعيه إليها الواجبُ والعُرف والشجاعة وتاريخه البطولي، يندبُ بيوولف معه أحد عشر رجلًا لقتال التنين، ويذهب مع السارق الذي أصبح الرفيق الثالث عشر في هذه المجموعة. يطلب بيوولف من مرافقيه الانتظار ويذهب وحده لقتال التنين الذي كان أخطر وأقوى عدو يواجهه، ولم يستطع القضاء عليه إلا بمساعدة رفيقه ويلاف في الوقت الذي جَبُن فيه البقية عن الاشتراك في هذه المواجهة بين الفريقين. لم تنتهِ هذه المواجهة بموت التنين فقط بل وموت بيوولف أيضًا إذ تمكَّن التنين من توجيه طعنة قوية بأنيابه لعنق بيوولف فيموت الخصمان معًا في ساحة القتال. تشكل نهايةُ بيوولف بدايةَ حقبةٍ ظلامية اقتربت من القوط كان قد أجَّلها بيوولف الشجاع إذ لم يتجرأ أعداؤه على غزو مملكته في حياته. وعلى الرغم من أن القصيدة لا تروي تلك الأحداث المستقبلية فإنها تستشرفها وتتنبأ بها من شخصياتها. هذا هو الموضوع العام للقصيدة، لكن أهذه هي حقًا فحوى القصيدة ومغزاها فقط؟ يُشكلُّ هذا السؤال الأساسَ في الخلاف بين قراءات هذه القصيدة، فالغالب على قراءة هذه القصيدة أنَّها تحكي قصَّة بطوليّة عن الباسل بيوولف ومسعاه في دروب المجد، وأنَّها مختصرة على فصول القتال والنزالات ومفتقرة إلى البعد الإنسانيّ على العكس من ملاحم شعريّة قتاليّة أخرى مثل الإلياذة والإنيادة نلتمسُ فيها أبعادًا إنسانيّة، وليست منصبةً بالكامل على القتال. وما بيوولف إلا رجلٌ مهووس بهزيمة أعداءه والتفاخرِ بإنجازاته والسعي نحو البطولة على الدوام، وما هو إلا قتَّال فقط. يأتي تولكين هنا ليقدِّمَ قراءة لافتة إذ يرى أنَّ القصيدة تُقدِّمُ تعارضًا ما بين لحظتين من لحظات الحياة، وتوازن ما بين البداية والنهاية، والشروق والغروب، والبروز والتلاشي، والحياة والموت، والشباب والهرم. فقد شغلَ قتالُ أولَ وحشين ثلثي القصيدة الأوليين، وهو يُمثلُ مرحلة الشباب والرجولة، أي الشطر الأكبر من حياة بيوولف وبطولته، وكان الثلث الأخير من القصيدة هو في قتال التنين، أي اقتراب حياة بيوولف من النهاية والموت. فجاءَ التناسقُ في القصيدة موضوعًا وحجمًا ما بين بدايته بيوولف وقوَّته وازدهاره ونهايته، لذا فإننا لا نرى في بيوولف محضَ مُقاتل في القصيدة يُصارعُ وحوشًا بل هو رمزٌ لمراحل عُمر الإنسان ما بين فورة الشباب وازدهار الرجولة وضعفَ الهرم والموت، وكلُّ وحشٍ فصلٌ من فصولِ هذه الحياة المتناميّة، ورمزٌ للصراع الداخلي في حنيّات صدر الإنسان. تربطُ بعض القراءات وفقًا لأسلوب الشاعرِ في المقابلة ما بين شخصيتيّن بارزتين وبيان أفضليّة أحدهما بذكرِ مساوئ الآخر- ما بين سغموند قاتل التنين، الذي ذُكرتْ قصّته في قصيدة مُنشد هروثغار، وما بين بيوولف مقتول التنين وقاتله، وفي هذا صار التنينُ معيارًا للتفاضل ما بين البطلين، بل إنَّ قتلَ سغموند للتنين وعجزَ بيوولف من النجاة تبدو فيه إلماحةٌ ساخرةٌ من بيوولف وأنَّه رغمَ قوَّته وبسالته أقلُّ من سغموند قاتل التنين. قد تبدو هذه القراءات التي تتعمُّق في القصيدة إلى حدٍ ما مُبالِغة في إضفاء كلِّ هذه الرمزيّة والمعاني العميقة في مواجهة الوحوش، لكنها ممكنة والقصيدة تتسعُ لمثل هذه القراءات التأويليّة، وتبقى هذه القصيدة بقصتها وأحداثها وأسلوبها ولغتها الجزلة جديرةٌ بالدراسة والقراءة وإعادة القراءة والوقوف على معانيها الظاهرة والخفيّة.
البطل الحكَّاء
ينتمي بيوولف إلى جيل أبطال الملاحم الخالدين الذي ابتدأ بغلغامش وأنكيدو وكَبُر بمرور الزمن حتى ضمَّ المئات من مختلف الأماكن والأزمان منذ فجر التاريخ وحتى يومنا الحاضر. فإبداع البطل الخياليّ جزء من إبداع الكتابة واستمرار الإنسان بمزاولتها لذا فمن خطَّ شخصية غلغامش (في الأرجح أنه كان ملكا سومريا) قد فتح الباب على مصراعيه لكل الكتَّاب من خلفه أن يُبدعوا شخصياتٍ يكون لها الأثر البارز في خيال القارئ وواقعه وتأثيرٌ في الأدب والأسطورة. يقول ألكسندر دوماس عن فضل الأدباء على المؤرخين “إنهم يخلقون شخصيات تقتل شخصيات التاريخ. والسبب في ذلك إن المؤرخين يكتفون بالحديث عن أشباح، أما الروائيون فيخلقون أشخاصا من لحم وعظم”. دائما ما امتاز أبطال الملاحم بدورة حياة متقاربة كما فصَّلها جوزيف كامبل في كتابه “البطل بألف وجه” وبسماتٍ مشابهة كالإقدام والشجاعة وعزة النفس والشرف الرفيع والنسب العظيم والمُلك والارتحال في مغامراتٍ عظيمة والقتال في حروبٍ حاميةٍ، لكن ثمة صفة لا يمتاز بها إلا القلة من أبطال الملاحم وهي البطل حكَّاءً مثل أوديسيوس وآينياس وبيوولف. قد يُرجع بعض الباحثين السبب إلى الطبيعة الشفاهية للقصائد الملحمية التي تجعل من تكرار إخبارِ الحدث وقصةٍ جزءًا من عملية تثبيت ما جرى من أحداث سابقة وترسيخها في وجدان المستمع أكثر مما هي سمة فنيّة تمتاز بها الملحمة وتخص البطل وحده، فمن الممكن أن نقبل قولًا مثل هذا فيما يخص الملاحم التي لم يثبت أن شاعرها قد نظمها كتابةً كما في حال أوديسيوس والأوديسة لهوميروس، لكن مع بداية تدوين الملاحم مع فرجيل والإنيادة فإن سمة القدرة والفصاحة على الحكي والإخبار بما مرَّ به البطل بنفسه أصبحت عنصرًا فنيًا في الملحمة المكتوبة وبما أنها لا تتكرر في كل ملحمة بل في نماذج محددة يكون التكرار فيها مُتعمَّدًا وفي أكثر من موضع فهو يشير إلى نوع من تأكيد هذه السمة للبطل. وأنا لا أنفي بحال من الأحوال انتقال الكثير من القصائد والملاحم من الطور الشفويّ إلى الطور الكتابيّ مما يُبقي احتمالية أن يكون التكرار يهدف إلى تثبيت الحدث وتسهيل حفظه للمتلقي ومراجعة سريعة للحدث الذي سبق وأن سَمَعَه المتلقي أو يقدم موجزًا له. إنَّ سمة الحكي لدى البطل بيوولف في هذه القصيدة جليّ لأننا نسمعه يحكي في حضرة الملك هروثغار وشاعره أنفيرث عن سباق السباحة مع بريكا، وكيف اضطر لمقاتلة وحوش الماء، ثم بعد عودته إلى موطنه يقص على الملك هايجلاك ما جرى له في ضيافة الملك هروثغار ثم مواجهته غريندل ثم أمه وكيف قضى عليهما. وجرَّ بيوولف المتفاخر والزاهي بنفسه قد كلامُه إلى الوقوع في الخطأ، كما حدث حين أخبر هايجلاك بأنَّ خلعَ يدَ غريندل اليمنى، وهو في الحقيقة -كما ذكر الشاعر في أكثر من موضع- قد خلع يده اليسرى بأكملها من الكتف، لكن ذلك لا ينقص من قدره ولا يقلل من شأنه فقد يختلط على بيوولف الأمر كما قد يختلطُ على أي رجل ساعةَ تفاخره وتباهيه بقوته ومناقبه في القتال. تشير سمة الحكي والقدرة على قص ما جرى للبطل في مغامراته إلى طبيعة اجتماعية متآلفة مع الآخرين وصفة لازمة للبطل القائد، فلا بد وأن يلجأ إلى لسانه في أحوالٍ كما يلجأ إلى سيفه وذراعه في أخرى، وتؤكد ضمنًا أن البطل جزء من قومه لا منعزلٌ عنهم ولا متكبِّر لا يشترك معهم في حديث أو حوار، وغير انطوائي يفضِّل العزلة والابتعاد عن التجمُّعات والاحتفالات، فهو حتى إن لم يحبِّذ هذه التجمُّعات ويضطرَّه مقامه إلى الحضور، وليس مطالبًا بالحديث والإكثار منه لكننا نجد أنَّ البطل هنا يبادر بالقصِّ لتصحيح خبر أو حادثة تخصه أو يُطلب منه القصِّ لما مرَّ به، أيَّ أن القص ليس بسمة طارئة يفرضها الحدث وزمانه بل إنها متجذرة فيه. قد لا تبدو هذه السمات واضحة كثيرا مع بيوولف لكنها ثابتة مع أوديسيوس والفارق هنا كثرة مغامراته وطول الأوديسة مقابلةً مع قصيدة بيوولف، ومع ذلك فإنَّ الحكي والبطل الحكَّاء صفة لا يمكن أن تُنزع عن بيوولف. تلزم القدرة على الحكي أسلوبًا يُبتعد فيه عن الإسهاب الممل أو الإيجاز المُخل، ولا يكون الحكي لأجل الحكي بل لغاية أهم لأنه غالبًا ما يكون مستمعه ملكًا أو من عليّة القوم وهذا يفرض الإتقان والإجادة والإمتاع والغاية المحددة من الحكي. ونجد سمة أخرى للبطل تتفرغ من الحكي وهي أنه خطيب مفوَّه وقائد يستحثُّ الهمم بالكلمات والخُطب الرنانة التي يدفع بها رفاقه للقتال بشجاعة وإقدام في أحلك الساعات وأشدها عند مواجهة الأعداء. لا يمكن بحالٍ أن نتخيل بطلًا ملحميًا في العصور القديمة صامتًا أو منعزلًا عن قومه لأنه يستمد هذه البطولة والشجاعة بتقدِّمه قومه وتزعُّمه لهم فهو بحاجة إلى لسانه قدر حاجته إلى سيفه، فلا يقوم أحدهما إلا بوجود الآخر، وفقدان أحدهما سيفقده سمة البطولة فيتحول إما شاعرًا في بلاط الملك وإما رفيقَ قتال، أما إذا ما اجتمعت الفصاحة والخطابة مع السيف والقوة فهي لا تجتمع إلا لبطل همام مفوَّه وفارس مقدام خطيب، كما في بطلٍ مثل بيوولف.
الترجمات
لم تترجم هذه القصيدة بعد إلى العربية رغم أهميتها وقصرها كذلك فهي مكونة من 3000 بيتٍ تقريبًا، وتُرجمت كثيرًا إلى الإنجليزية. قرأتها بترجمتين الأولى هي ترجمة نثرية للكاتب والأديب تولكين التي تمت في العقد الثالث من القرن العشرين مع شروح وتعليقات دوَّنها عن القصيدة، هي في الأصل مادة لمحاضراته عندما كان أستاذًا جامعيًا يدرِّس اللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي. تطغى على ترجمة تولكين الألفاظ المهجورة سواء في الكلمات أو الضمائر ووجدت فيها تحذلقًا في الأسلوب وتكلُّفًا في الصياغة. نُشرت هذه الترجمة عام 2016 بتحقيق ابنه كريستوفر مع مواد أخرى خاصة بالقصيدة كتبها تولكين. أما الترجمة الثانية فهي ترجمة شعرية للشاعر الأيرلندي شيموس هيني وهي ترجمة أقل ما توصف بأنها رائعة وجذَّابة ومنسَّقة داخليًا بما يساعد على فهم القصيدة وأحداثها بسهولة دون عراقيل كالتي في ترجمة تولكين. نشرت الترجمة في عام 1999 وفازت بجائزة Whitbread Book.
حاشية
يرى بعض الدارسين أنَّ هذه بيوولف تتربع على عرش أول عملٍ أدبي إسكندنافيّ. ويتخاطر إلى الذهن الآن ما العلاقة بين الأدب الإسكندنافي واللغة الأنغلوسكسونية والأدب الإنجليزي؟ إنَّ لهذه الرأي ثلاث أسباب وجيهة، الأول هو جغرافية الملحمة التي لا تخرج من السويد والدنمارك وفريسلاند. والثاني موضوع القصيدة وأبطالها وهم جميعهم من البلاد الإسكندنافية في شمال أوروبا وعادات تلك البلاد، والتعديلات المسيحية في القصيدة التي تُبرزُ التنافر والتباين ما بين العادات الوثنيّة السائدة وصوت الشاعر وبعض الأفعال والأقوال المسيحية الجارية على لسان الشخصيات في عدة المقاطع. والثالث في انتقال هذه القصيدة الراجح مع هجرة القبائل الإسكندنافية إلى جزيرة إنجلترا، وظهور القصيدة في تاريخ لاحق على توطنُّهم هناك.