ثمة تُهمتان تُثاران أحيانا ضدَّ أوديسيوس مفاد الأولى هو خداعه ومكر السوء وحيلته التي يستخدمها في الشر، والثانية في كونه خائنًا لزوجته عكس بينيلوبي التي بقيت مخلصة له رغم سنوات بُعده عنها.
أما التهمة الأولى فمصدرها الفهم الخطأ لعبارات الحيل التي يصف بها هوميروس بطله كـ الواسع الحيل والكثير الحيل وما شابه من العبارات التي أراد بها هوميروس مدح بطله لا ذمه، وهذا ما يعضده عبارات وصفية أخرى مثل ناهب المدن والمحارب القديم فقد قيلت في مقام مدح لا ذم والسياق يؤكد هذا. ومن الأمثلة عن هذه الحيل التي قد تُؤوَّل ذمًا بحق أوديسيوس حيلة الحصان الخشبي الشهيرة. إنَّ حيلة الحصان الخشبي وإن كانت قد جلبت الهلاك والبلاء للطرواديين والدمار لمدينة طروادة الحصينة فإنَّها خَدعة حربية لا يمكن ذمَّها لأن في الحرب كل شيء متاح ما دامت الغاية هزيمة الطرف المقابل وهذا ما حدث في حرب طروادة وما جلبه حصان أوديسيوس من نصر للآخيين وإنهاء سنوات الحرب والحصار العشر. ويمكن أن يُحاكم أوديسيوس في اشتراكه بالحرب ضد الطرواديين لكنَّ الحرب في الأساس لم يشنها الآخيون -ظاهريا- على الطرواديين بدون سبب بل كانت بسبب اختطاف الأمير الطروادي، باريس ابن بريام، لهيلين زوجة ملك إسبارطة مينيلاوس. لذا فإنَّ الطرواديين هم من كانوا البادئين بالاعتداء وهم سبب الحرب التي نشبت بينهما. والأمر الآخر فإنَّ أوديسيوس ولكونه ملك إيثاكا فهو مرتبط بمواثيق وعهود تجبره على الالتزام بالإبحار مع الملك أجاممنون نحو طروادة. نتيجة لكل هذا فلا يمكن بحال من الأحوال أن نأخذ حيلة حصان طروادة من منظور المكر الذي يسيء لأوديسيوس. أما الحيلة الثانية المشهورة لأوديسيوس فهي التي كانت مع بولوفيموس في كهفه، وكيف خدعه أوديسيوس بشرب الخمر ثم فقأ عينه أثناء نومه. وهذه الحيلة لم يلجأ إليها أوديسيوس اعتداءً على السيكلوب بل هي وسيلة لإنقاذه نفسه ورفاقه من قبضة السيكلوب الآكل للحم البشر والذي كان قد بدأ سلفًا بأكل عددٍ من رفاقه وتوعَّد بأكل البقية وفي آخرهم أوديسيوس إكرامًا له على الخمر التي سقاها إياه. وهنا أيضًا لا يمكن أن تُؤوَّل الحيلة بالمكر السيئ ضد أوديسيوس فقد التجأ إليها دفاعًا عن النفس لا ظلمًا أو تجاوزًا على حقوق الآخر. أما الحيلة الثالثة الشهيرة فهو حيلة التحول إلى شيخ من أجل الانتقام من الخطَّاب التي تنتهي بالمذبحة في ساحة بيته. وهذه الحيلة لا تخص أوديسيوس وحده ولا يستطيع بمفرده أن يقوم بها لكنَّها أتت بفضل الإلهة أثينا وتدبيرها فهي حيلة مشتركة ابتدأتها أثينا ثم أتى الدور على بينيلوبي التي أعلنت مسابقة القوس والفؤوس الاثنتي عشرة وأكملها أوديسيوس بالانتقام. وكما هو واضح فإنَّ الحيلة هي أكثر الحيل التي لا يمكن أن تُؤول بحال من الأحوال سوءًا بحق أوديسيوس فما فعله كان بدافع أخذ الثأر ممن أهان شرفه ودنَّس بيته واستنزف خيراته عدوانًا وضايق زوجته طالبًا منها الزواج وتآمر على قتل ابنه.
إنَّ سمة الحيلة والمكر عند أوديسيوس هي ممزوجة في طباعه ولا يعني أنَّه لا يُخطئ أو كل ما يقوم به مستعينًا بدهائه ومكره هو صواب، فنرى توبيخ آخيلوس له حين أتاه أوديسيوس رسولا من أجاممنون يسترضيه من أجل العودة إلى الحرب لكن آخيلوس يأبى ويصف أوديسيوس بالرجل الذي يقول شيئًا ويخفي شيئًا آخر، وأنَّه -أي آخيلوس- يفضل الموت على هذا. تكشف هذه الكلمات والاتهام لأوديسيوس عن صيت شائع عن أوديسيوس بأنه رجل ليس بالسهل الواضح ولا الغرِّ اليسير خداعه لكنه داهية ومحنِّك وصاحب حيلة وخديعة يعرف كيف يُنجي نفسه من المخاطر بفضل ذكائه وليس هو الذي يقع في شر أعماله ومكر السوء.
أما التهمة الأخرى التي توجَّه إلى أوديسيوس بأنه خائن لزوجته وبكونه شريك فراش لأخريات عكس بينيلوبي، الزوجة الوفيَّة، فهذا ما يمكن تفنيده من الأوديسة نفسها التي تذكره شريكًا لفراش سيرسي وكاليبسو.
إنَّ أول ذكر لعلاقة أوديسيوس مع المرأة يبدأ في الحلقة الخامسة مع كاليبسو لكنَّ هذه العلاقة ومكثه معها كانت غصبًا ورغم إرادته وعكس رغبته، وحال أوديسيوس خلال هذه السنوات السبع سيئة ملئها الأسى والدموع على إيثاكا المُبعدَ عنها. فيذكر هوميروس (ترجمة أمين سلامة):
“… فانطلقت الحورية الجليلة إلى أوديسيوس العظيم القلب، بعد أن علمت برسالة زيوس فوجدت أوديسيوس جالسًا على الشاطئ، يذرف الدموع من عينيه بلا انقطاع، وقد أخذت حياته تذوي، إذ كان يتحرق شوقا الرجوع إلى وطنه، لأن الحورية، لم تكن بحال من الأحوال، موضع غبطة ناظريه. وكان عليه أن ينام الليل إلى جوارها في الكهوف الفسيحة رغمًا عنه، وضد إرادته، أما في النهار فكان يجلس فوق الصخور والرمال، معذبًا نفسه بالعبرات والأنين والهموم، وكان يتطلع إلى البحر الصاخب، ويتحسر ذارفًا الدموع”.
لا تحتاج أبيات هوميروس إلى شرحٍ وتعليق فهي دالة على ذاتها بذاتها بيانًا وإفصاحًا عن حقيقة العلاقة التي ربطت الاثنين. ويأتي الدليل الآخر عن حال أوديسيوس ورغبته بترك كاليبسو على لسان محتجزته إذ تقول (ترجمة أمين سلامة):
“… إلا إن رغبةً جامحة ملحة تتملكك، لرؤية زوجتك التي تتوق إليها يومًا بعد يوم. وإنني لأعلن عن نفسي، أنني لستُ بحال ما، دونها جمالا ولا قواما، إذ لا يليق قط أن تتحدى نساء البشر الخالدات في الهيئة والفتنة”.
توضِّح هذه الأبيات ضمنيًا عن تفضيل أوديسيوس لبينيلوبي الفانية على كاليبسو الإلهة، وهو ليس بتفضيل عادي إذا عرفنا أنَّها رغم جمالها وكونها من الخالدات فقد عرضت عليه الخلود والشباب الأبدي لتقوِّي من موقفها وتستميلها إليه لكنَّه يرفض هذا العرض المغري ويختار الفراق بعد أن أتاحت له الآلهة ترك كاليبسو. ويؤكد أوديسيوس هذا الأمر بعدما يعود إلى إيثاكا وينتقم من الخطَّاب ثم يلتقي بزوجته ويقص عليها ما حدث له خلال رحلة العودة فيقول بشأن كاليبسو (ترجمتي):
“… وعدته أن تجعله خالدًا، لا يشيخ طوال عمره،
نعم، لكنَّها قط لم تربح قلبه الذي بين جوانحه، إطلاقا…” 23:380
قد لا يكون من السليم الأخذ بكلام أوديسيوس عن نفسه لكن ثمة ما يقوي هذه الاعتراف ويجعلنا نأخذ به، وهو أنَّ هوميروس لم يجعل الكلام على لسان أوديسيوس بصيغة الخطاب المباشر في زمن الحاضر بل جعله خطابًا بصيغة الضمير الثالث في الزمن الماضي وعلى لسان راوٍ عليم بأسلوب خطاب حر غير مباشر، ومن غير المستبعد أنَّها التفاتة ضمنية داعمة من هوميروس لموقف بطله في الإخلاص لزوجته.
أما العلاقة الثانية التي كان فيها أوديسيوس شريك الفراش فكانت مع سيرسي، لكن هذا الرقاد لم يكن برغبة أوديسيوس بل أمرٌ من الآلهة ولأجل غاية محددة تذكرها أبيات هوميروس على لسان رسول الآلهة هيرمس (ترجمة أمين سلامة):
“… وتأمرك بالرقاد معها بعد ذلك، إياك أن ترفض الرقاد في مخدع الربة، لكي تطلق سراح زملائك، وتقدم لك الضيافة”.
لذا فلا يمكن بحال من الأحوال مجددًا أن نأخذ هذا الرقاد مع سيرسي على أنَّه خيانة لبينيلوبي أكثر من كونه امتثالا لأمر الآلهة ولتخليص زملائه وإبطال مفعول السحر الذي حوَّلهم إلى خنازير في حظيرة سيرسي.
أما الحالة الأخيرة التي تضع أوديسيوس في اختبار مع عالم المرأة وإتاحة إمكانية تفضيل إحداهن على بينيلوبي كانت مع الفياكيين حين يعرض عليه ملكهم ألكينوس أن يتزوج ابنته ناوسيكا المشرفة على الزواج فيقول (ترجمة أمين سلامة):
“وبحق أبينا زيوس، وأثينا، وأبولو، إنني لأتمنى أنَّ مثلك أيها الرجل العظيم، الذي يعدلني عقلا، يتخذ ابنتي زوجةً، وتُسمى ابني، وتبقى هنا ولو طاب لك البقاء هنا لأعطيتك بيتًا وممتلكات؛ ولكن لن يحتفظ بك أحد من الفياكيين ضد رغبتك…”
فهل ثمة عرض مغرٍ لأوديسيوس أكثر إغراءً من أن يتزوج ابنة الملك ويحظى بكل هذا الفضل والتكريم لكنه المحب لزوجته والتائق إلى إيثاكا يرفض هذا العرض وإن لم يرفضه صريحًا لكنه شكر عرض الملك بدعاءٍ إلى زيوس بأن يصل إلى وطنه إيثاكا.
بعد كل هذه الأمثلة من متن الأوديسة فما من حجة بعد على اتهام أوديسيوس سواء بتأويل كونه كثير الحيل بالسوء أو اتهامه بخيانة زوجته على النقيض من وفائها له، وأبيات هوميروس هي الحكم والقول الفصل.