نصوص

أسفار الانسلاخ والالتئام 

سفر الابتداء 

الشمسُ تحرقُ أبناءها 

وتموز شهرُ الآلهةِ المنتحرة يطربُ لمجيئكِ 

مُؤامِر هو عليَّ، لأجلكِ يُغني 

أسمعُ الصوتَ هابطًا كأنَّه وحيٌّ 

بلا أمرٍ ولا طلب! كان يضحكُ فقط!  

ما أجمله من فيهٍ، نبعٌ يفورُ بالعذوبة 

يضْمَخُ الكلمة، فتّتلوى صريعةً تحت اللسان 

سمعي أحمقُ، لأُذني ينسب جهالته وإقدامَه غير المبرر

 

ضئيلٌ أنا في حضرة كهنوتِ الجمال الكافر بكل الأنبياء 

لا سلطةَ لأحد سواه إذ يعبِّئ سلاحه وقودَ الموت 

لجسدي المسحور بآي الحُسن الوضّاء 

لا أطمعُ أنا إلا بقربٍ أرى فيه الفردوسَ الموعود 

أمدُّ قدمي في ماءٍ بارد، أشم شذى أنفاس ملائكية 

أمسك عَنَمًا بضًّا، فيه كبرياء أقمار المشتري 

أحلّقُ بأوهامي التي جُعلتْ في رحابها الواسعة واقعا أنتمي إليه 

في البداية كفرتُ بذاتي وآمنت بالدرب الذي تأوي إليه كائنات أثيرية 

الحَدْس كان تُرسي الخشبي، وسيفي هو الآخر من قصبْ

حين تجلس الحروب فوق موائد السكر 

أقف وحيدا في باحة بيتي تمرُّ أمامي كل معركة قرأت عنها 

وتمنيت أن أشترك فيها، ولو رائيا مختبئا خلف شجرة فوق جبل! 

 

التزعزعُ يتبع الحروفَ المسافرةَ بسرعة الضوء دائما 

تنهشُ كيان امرئ نما على الخديعة 

تربى على ألا يثق بأحدٍ حتى كان المصير! 

أنهض كل فجر قبل كلِّ الديكة والكلاب 

أصيحُ وأنبحُ في غرفتي ولا يسمعني سواي 

أعوي كعسقلة جريحةٍ فقدت أبناءها 

لا شيء يوقفُ هذا التدفقَ، هذا الجريانَ،       

هذا التسارعَ، هذا النزولَ من علٍّ

إليكِ، ألف لعنة عليك، وأنا أبكي في مسرحي المغبّر 

أناجي ذاتي في مونولوج لا ينتهي 

ألوفُ الكلمات تردفها ألوف مسوّمة باليقين 

كيف يعرف الموتى أنهم موتى! 

والعاشق أنه خاسر في الختام! 

وأنِّي صرتُ أمام كل واجهة تحمل اسمك أغرق في تأملي 

شرودٌ نحو السهل الأخضر كي أدركَ معاني العين السوداء 

*

سِفر النزعة 

أسيرُ وحولي الناسُ غَرقى 

تغصُ الشوارعَ بهم، لا يعون أنهم يعيشون يومهم الأخير 

والبحر يناديني أنْ هلمَّ، كلّ ليلة أحلُمُ به 

تظهرين أنتِ كنجمةٍ في السماء فوق أراضيّ

أحاول قطفك راميًا تعليقكِ في صدري 

في العالم الآخر، جُلوسٌ حول مائدة مليئة بطعام لا يؤكل 

الطَغَام يرقصون حولكِ كطقس إحياء الموتى

يُنهشُ جسدي الذي يستعدُّ للسَفر 

 لم يبقَ إلا ليلتان، ونحلق بعدها في الأفق

أظلُّ أمشي بلا وجهة تائها في الطرقات 

وأرض الأجداد الذين لا أنتمي إليهم تبعثُ الناس إلى الميعادِ المزيف 

 

لك في داخلي هيجانُ ملتاعٍ لأمه الثكلى 

كلُّ مَنْ أحببتْهُنَّ غربْنَّ في شمسِ رسائلك 

مِدادُكِ عنوسة من سَرقتِ أزواجهنَّ 

بريئةٌ مِنْ كلِّ تهمةٍ تَهْمِسِين، وجهكِ يغصُّ بالدمعِ المتحجر 

مخدوعٌ، ومصلوبٌ فوق يدكِ كوشم بدوية 

لا أملك من قراري شيئا، وبأمسِ الحاجة لراحةٍ 

لا وقتَ لديَّ لجبهة جديدة أصارع فيها الهروب

اعتزلتُ عرشي إلى لا عودة 

مملكة المرأة آخر ما أطمح إليه الآن 

قولي فقط إنك ترضين أن أرحل إليكِ الآن 

 

الليل، ما أجملَ الليلِ في عين الغريق 

أراه باسما، وأشباحه تلف زورقي المنحور 

زورق من ورق مُثقلٌ بالبشر 

أغني للدرب الطويل علَّ الشمس تشرق 

النسوة يشاجر بعضُهنَّ بعضًا 

عفاريتُ الموت تقترب 

أنادي يا رب، لتكن الرمال أرضًا صلبة، لتكن! 

حولي من لا يؤمن بالله، وأنا صرتُ في قاموسكِ منهم 

 

تطأ قدمي أرضا ملامحها جثة رضيع 

الماء ينبع من فمهِ الآكل لتراب الملائكة 

أتذكركِ في الطريق المؤدي إلى الماضي 

إلى قلب العالم القديم أمضي مع انكساراتي 

آملًا بلقاء من أحببتهم، بكِ أنتِ، الحلم السائل الذي أغتسل به كلَّ صباح 

أقف في صفٍ طويل، أُساءل نفسي متى أصلك 

بعد عامٍ أو عامين أو مئة!

لا ضمان بين الأحياء، الأموات فقط يدركون أن حسابهم مضمون 

فوق الضفة الأخرى، تبكي أمي وحيدة 

وفي الضفة الأبعد تجلسين أنتِ بعباءتك السوداء تنتظرين مجيئي 

أنظرُ إلى القمر مرسوما على شراع السفينة 

البحّارة تُغني وهي مخمورة بعرق رديء 

وأنا الدنيا تدور بي مع أمواج بوسيدون الغاضب 

 

أظن أني بدأت أميل إليك أكثر 

أحلمُ بكِ، أحدثُ طيفك، وأفكرُ كيف سنحيا معا بعد البعث 

لم أقل أحبك بفؤادٍ باكٍ، البكاء لغتي التي لا تُترجم 

أهتز مع الدمع الذي يجرف قريتي من الذاكرة 

لا علاقة لي بماضٍ خالٍ وغابرٍ مليء بالقتل 

حكايتي فصلها الأول الجديد قد كُتب 

السرُّ المبحوث عنه لن يظهر 

بين أحشائِك سينمو

بين ذراعيك يموت 

وفوق سريريْنا ننامُ منفصلين إلى الأبد الذي لن نراه   

*

سِفر السكرات 

ظِمِئ لحليبِ الأنوثة، إذ ينزُّ من ثدي شجرة 

نتقاسم الألم الذي كان يتيما فوق كفي 

ذراعي مُحاطة بخيال عابرةٍ لا يتلاشى 

أنا هنا وهناك، مُجزّأُ بفعل الابتعاد 

وجهي معك يبتسم، ومعي يعوِّل شوقا للراحلين 

أسكن في داخلي، وخارجي يسكنه العالم 

أنادي يا أنا متى نلتقي؟ 

لا يجيبني صوتي

وأكاد لا أعرفه إذا سمعته؛

لكثرة صمتي 

 

مُمدَّدٌ، ويغوص وجهي في باطن يدي 

أشاهد كيف جئنا لهذا العالم 

هكذا التقيت بك تحت جسر الكُتب العتيق

تجاوزتُ حدودي معك، كنتِ أول امرأة تُخاطبني 

كلُّ من سواك كُنَّ يُحدثْنَّ رجلا آخر 

يُبعثُ كمارد من عمق زجاجة جسدي 

أُحبس فيها حتى ترحل

إلاكِ، كلما طرقتِ باب اسمي؛ بكيتُ حُبا

وأذوبُ مترقرقًا فوق الحجارة المرصوفة 

يستقبلني النهر الذي يشق الأرض، ويصب في كهف الإنسانية  

هناك أعود مجددا سيرتي الأولى

أنتظر لقاءً آخر أكتشف فيه ذاتي وأسرار خلقي 

 

أهزأُ بالتاريخ والحضارة

أرتمي فوق حضنك شاكيا صراخ اليتامى 

أوجاع الموتى التي تملأ أذني 

لا أنام مذ كنتُ صغيرا 

أترنح في أحلام يقظتي كسكيّر 

لم أعرف طعم شراب سوى دموعك 

مُلوحةٌ تذكرني بالماضي والليل المصاحب لصخب الهاربين 

أشرب منكِ نيّة أن أرتوي لكن لا ارتواء 

الحكاية تُعاد، النهاية لا تقترب 

عقارب الساعة مذ تلاقينا طردها المضمار

وأنا أُجالسكِ، أو أتخيل مجالستك 

هيا لنبدأ من جديد، يقول أحدهم 

أشك في كل بداية هكذا عهدي مع البدايات 

القوم هنا مُحاطون بتقاليد الطبيعة الفانية 

انتمائي لهذا الوجود يبدو نكتة سمجة  

ولولا حضورك لشطبتُ اسمي وخرجتُ طالبا الحرية

*

سِفر البعثة 

لم أمتْ بعد، لكن ما أشبهها من حياة أمواتْ

صارت الحقيقة مزيجا من شراب الكذب 

أشرب كل يوم أكاذيبَ التي لم تُحلَّ! 

أدرك صدقكِ من اعترافات الحروف 

من الوجد المصاحب لكلِّ فراق 

أرمي إلى عالم لا  يوجد به عداي وظلٌّ كاذب

أتبعه كلَّ مرة، أظنه أنتِ، لا قدرة لي بحقيقتك

أيحبُ وهمٌ المطلقَ الذي لا يُحرّف!

 

أشكُّ بنفسي، لا ثقة لي بها

ذاتي المشتتة بين المُدن 

مدن تتعبّدُ بخُطُواتك، وتستمد مني حبَّكِ

عنف الماضي الذي يلاحق كل طريد؛ يزيد غصاتي

رغبتي بالعودة إلى الوراء- سجن الماضي واحتضار الحاضر 

الوعود والعهود التي بيننا أنساها في مقامي هذا 

أين أنا؟ جوابٌ ليس بملكِ من قُيّدت يداه 

مكبل أنا بالأرض والشمس والقمر وكلِّ الكواكب والنجوم 

مكبل بالسماء والماء بالفجرِ والليل والنهار والغيوم 

بالحديد بالنار، بالمكشوف من قولك والأسرار 

من أنا؟ وإلى أين أنا؟ أجيبي أنتِ

 

الرحيل، السهلُ فيه خطوته الأولى 

ينتابني حلمٌ، أني أُعيدُ الدرب من جديد 

أعيد حرق السماء وخلط البحر بماء دموعي 

أن أحبك بنَفْسٍ مُتعبةٍ ومفطومةٍ على الشقاء 

من يقول إنَّ الملائكة لا تقتلها الشياطين! 

شعب الملائكة لم يبقَ منه إلّأ… ورضيع يغني ببكائه 

الهجرةُ نحو الربِّ ليسَتقبِلها عبيدُه 

وعلى طرفي الطريق يقف الزمان شاهدا

يا حجم مسراتي المسفوحة الدم 

العتبةُ التي اجتازها الأولياء في الأمس 

تجلببت اليوم أمامنا كأننا أجانب عنها 

اللاحقون نحن يا مَنْ عرفتِ بملامحنا السابقين 

 

مرفوض هنا ومرفوض هناك 

وقلبكِ المترع بحكاياتِ الأموات لم يبدُ أنه مُشتاق

أعيش الإنكار في الحقل والدرب 

أمضغ التشّرد في القطار والحافلة 

بجانبي امرأة لم تسمع يوما بالشعر 

وثمَّ آخرون البؤس يشقُّ وجوههم ولا يرتقها

كعفاريتَ وغيلان في الغابة يصبحون

تسكن الريح ثم تهيج كأرملة تجهش بالبكاء وتولول 

تجلدُ ظهري المنحني من كثرة البرد 

أكاد آكل أناملَ حرقها الشتاء 

ولا شيء يُدفئ جذعي سوى اليقظةِ من النوم 

*

استدراك

رحلتي انتهت، وبعد النهاية اتضحت الحقيقة

إني أعيش داخل متاهة أوهامي 

أجلسُ وحيدا فوق كرسيّ، وأنتِ لستِ هنا، ولستِ هُناك

لم تعيشي إلا في فجوة بين الأرض والسماء 

نُقطة تختفي عندها الفوارق الزمنية 

سلكٌ دقيق يلتف حول عُنق كل مُحب

تتصلب قدمي فوق أرضك التي أطأها

أنا الآن محضُ صخرة فوق تل

وروحي تعانق ظلال شجر الأُمنيات 

تتعلق بذيل ظل طائرة تمرُّ فوق سمائنا 

 

أُنازع جسدي الذي تناولته الأرض 

دسمًا يبدو مذاقه، لكثرة الحُزُن وتشرّبه دموعك 

دموعٌ تلتهم الأرض وتعكس خضرتها وزرقة دمائها

تغتسل روحي الشاردة بنبع محجريك لآخر مرة

اليوم الذي غربت شمسه لن يُشرق مجددا من عينيك

ما بعد النهاية؟ 

تزاوج بين العذوبة والملوحة

اقتران الفضيلة بالرذيلة 

نار وجنة، خلود وعدم 

كهفنا الأول، ذاكرة أجسادنا الميتة، ينادي أن هلمَّ

هل أُجيب؟ هل أنعتق منك لأول مرة! 

جميع الشواطئ ترفض قاربي

وهذي الموانئ تُحارب الظلمة بمصباح مكسور

وأظلُّ في بحر الحجارة أتذكر المدن التي ذابت في كأس ماء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى