سيرة الملك هيدرك الحكيم Saga of King Heidrek the wise
تنتمي سيرة ملك هيدرك الحكيم إلى نوع سيرة الأسطورية Legendary Saga المستمدّة من وقائع الماضي ذات الطابع التاريخي والأسطوري والمتخيّل، وتمتاز بعناصر الحكايات الخرافيّة من أبطال شجعان، وأميرات مسحورات، ومخلوقات عجيبة، وأسلحة خارقة ونهايات سعيدة لأبطالها. كتب الآيسلنديون هذه الحكايات الخرافية منذ بواكير القرن الثاني عشر، وتداولوها قبل ذلك بالرواية الشفوية للاستمتاع والاسترواح في المحافل والاجتماعات.
عثر على سيرة الملك هيدرك الحكيم في ثلاث مخطوطات يرجع تاريخ الأولى الناقصة والمخرّبة إلى ما قبل القرن الرابع عشر، ويرجع تاريخ المخطوطتين الأخريين إلى القرنين الرابع عشر والسابع عشر غير أن فيهما تغييرات واستبدالات واختصارات في أسماء الشخصيات والحبكة ووقائع القصة عن المخطوطة الأقدم. تروي هذه السيرة حكاية أجيالٍ تنتهي بالمعركة الشهيرة في الأخبار شبه التاريخية والأسطورية في شمال أوروبا ما بين الهون والقوط، وجرت وقائعها بين جيشي أخوين. ظهرت هذه المعركة في حلة مختلفة في سيرة آل فولسونغ بالمعركة ما بين جيش أتلي، ملك الهون، ومحاربي الأخوين هوغني وغونار، وفي نشيد النبيلونغ الجرماني ما بين جيش إتزل، ملك الهون، وجيش الملوك الإخوة غونتر وغيرنوت وغيزلهير البرغنديّين، وفي كليهما معركة ما بين رجل وأهل زوجته.
تبدأ السيرة بذكر خبر السيف تيرفنغ، صنعه الأقزام ولعنوه بلعنة إذا ما استلّ من غمده فلا بد أن يقتل امرأ، وهو سيف خارق يمزق كلّ أنواع الزرود ويحطم كلّ التروس ويخترق كلّ الأجساد ولا يهزم حامله أبدا. تكرر وجود السيف الخارق في حكايات الآيسلنديين كثيرا، وصار من عناصر حبكتها السردية لما لهذا السيف من دورٍ في حماية البطل أو إنقاذه عند مواجهة الأعداء والأخطار، كما في هذه الحكاية، وحكاية ثورستين فاكينغسن والسيف أنغرفاديل (يستبدل بالسيف أحيانا زَرَد أو خوذة تعين البطل أو سهم لا يطيش). حظي بالسيف تيرفنغ ملك يدعى سيغرلامي له ابنة حسناء اسمها إيفورا، وجاء مملكته مقاتل عظيم من الفايكنغ يُدعى أرنغريم فلما أثبت نفسه مقاتلا جسورا وبطلا شجاعا تزوّج إيفورا وأهداه أبوها السيف تيرفنغ في العرس. عاد أرنغريم إلى بلاده في جزيرة بولم حيث عاش وأنجب اثني عشر ولدا كلهم صار من الشجعان. كان الأبناء في احتفال يول Yule فأقسم الابن الثاني هيورفارد أنه سيتزوج ابنة ملك السويد إنغيالد. سافر مع إخوته إلى حضرة الملك ليخطبها وكان في المحفل رجل اسمه هيالمار الباسل فتقدّم لخطبتها أيضا، فتحدّى هيورفارد هيالمار في منازلة على جزيرة سامسي يتزوج الفائز فيها ابنة الملك. تبرز هنا حَبكة المنازلة والتنافس من أجل الفوز بالمرأة، وهو حدث كثيرًا ما يتكرر في الحكايات القديمة، إذ المرأة دائما هي المنشودة التي يتبارى عليها الرجال ومن يغلب منافسيه يحظى بها جائزة انتصاره ويتزوّجها. وهب أنغريم السيف تيرفنغ لأكبر أبنائه أنغانتي، ثم انطلق الإخوة الاثنا عشر إلى الجزيرة ومرّوا على الإيرل بيارمار وتزوّج الأخ الأكبر أنغانتي ابنة الإيرل سفافا. وما لهذا الزوج من ارتباط بالحدث التالي في القصة غيرَ أن له دورًا في حَبكتها إذ تلدُ سفافا ابنة تدخل في الحكاية لاحقا وتُكمل مسيرة السيف ولعنته. التقى الإخوة في جزيرة سامسي هيالمار ورجل بصحبته يدعى أود ذو السهم (Arrow-Odd) يرتدي زردا لا يخترقه سلاح، وهو من الشخصيات الأسطورية في الحكايات الآيسلندية، وحكايته كاملة في سيرة أود ذي السهم. نرى المعادلة ما بين الفريقين فمع الفريق الأول السيف تيرفنغ الخارق ومع الفريق الثاني الزَرَد العجيب الذي يحفظ لابسه من ضربة أي سلاح. وما كان للمنافسة أن تكون متعادلة أو حتى مثمرة في سياق الحكاية لو تنازل أود وأنغانتي وجها لوجه، وكان في الحكاية وجه يعلل ألا يتقاتلا هو أن هيالمار من خطب الأميرة وعليه أن ينافس غريما جسورا، فتقاتل هيالمار وأنغانتي وقتل أحدهما خصمه، وقاتل أود الإخوة الأحد عشر وقتلهم جميعا. عاد أود إلى السويد حاملا الأنباء فانتحرت ابنة الملك حزنا على مقتل هيالمار، ودفن الإخوة الاثني عشر مع أسلحتهم في جزيرة سامسي في تل. تُكمل السيرة بالجيل الثالث إذ وُلد لأنغانتي من سفافا ابنة سُمّيت هيرفور ونشأت مقاتلة شجاعة حسناء، شرسة، نزقة الطباع، لا تعرف أباها حتى جاءت يوما جدها تسأله عن أبيها بعد أن عيّرها أحد عبيده بأنها ابنة عبد. وبعدما عرفت هيرفور أباها انطلقت في الغزو بعد أن تنكّرت في هيئة رجل متخذة اسم هيرفارد، حتى بلغت جزيرة سامسي سعيا إلى التل-القبر حيث دفن أبيها. رؤيت نار مشتعلة عند التل-القبر، وخاف الناس الاقتراب منه، لكن هيرفارد أراد الذهاب إليه وسعى رفاقه لثنيه عن الذهاب لكنه أبى إلا فعلها. وقفت هيرفور عند القبر وناجت أباها بقصائد ليجيبها، فظهر لها شبحه وأجابها بقصائد. يدخل الشعر في بنية السيرة في هذا الموضع ويصبح الحديث بين البنت وشبح أبيها شعرا. تطلب البنت من أبيها السيف تيرفنغ لكنه لم يعطها إياه أول مرة وحذّرها أن هلاك نسلها سيكون بهذا السيف، وأصرّت عليه أن يهب لها السيف غير آبهة بنصحه وتحذيره، فكان لها ما أرادت وعاد الشبح إلى التل-القبر، وارتحلت إلى مملكة الملك غودموند حيث تزوّجت ابنه هوفوند وأنجبت منه ابنين هما أنغانتي وهيدرك. يتجلّى تأثير قصائد إيدا في هذا القسم من السيرة لا سيما في التل-القبر وشبحه كما في نشيد هيلغي هلاك هوندنغ الثاني فبعد أن يموت هيلغي تبني زوجه سيغرن نصبا تذكاريا فوق تلة قبره، وفي إحدى المرات تأتيها جاريتها لتعلمها برؤية هيلغي عند التلة مع فيلق من الفرسان، فتظل سيغرن تزور القبر حتى التقت زوجها زوجها الميت هيلغي عند التلة. وكذلك في نشيد سفيبداغ ورحلته إلى الربة مينغلوث إذ يقصد قبر أمه الميتة ويحدّثها بطلب زوجة أبيه الارتحال للبحث عن مينغلوث، فيكلمه شبحها ويرقيه بالتعاويذ التي تحفظه من مخاطر الدرب. واستدعى أودين في قصيدة فولوسبا الكبرى والصغرى العرّافة فولفا من قبرها يسألها عن أشياء كثيرة، وكذلك في نشيد هيندلا استدعت فريا العرافة هيندلا من قبرها تطلب منها الذهاب إلى مسكن الآلهة وإخبارهم بسلالة حبيبها أوتر.
تبدأ حكاية الجيل الثالث من سلالة أنغريم مع ابني هيرفور أنغانتي وهيدرك، فكان الأخ الأكبر أنغانتي شبه أبيه، وهيدرك على غرار أمه في صباها فظًا نزّاعًا للشر ففضّل أبوه أخاه عليه وأبعده عنه عند مربّيه غيزور. اتّفق ذات يوم أن أقيم حفل لم يُدع إليه هيدرك وغيزور لكنهما جاءا، وشرع هيدرك في التحريض بين الرجال، ثم خرج من الحفل وأراد شرًا فقذف بحجرٍ على قاعة الحفل المظلمة فأصاب أخاه وقتله من ساعته. طردَه أبوه بعدها وأوصاه بست وصايا: ألا يساعد رجلا قتل مولاه، ولا يعين رجلا قتل تابعه، ولا يسمح لزوجته أن تكثر من زيارة أهلها حتى لو توسلت إليه، وألا يتأخر ليلا عند عشيقته، وألا يركب أفضل خيله إنْ كان في عجلة من أمره، وألا يدفع بابنه إلى رجلٍ أعلى منه قدرا ليربّيه (أمارة على التابعيّة)، وقبل أن يخرج أعطته أمه السيف تيرفنغ. عزم هيدرك على مخالفة كل نصائح أبيه، متكرِّرًا في ذلك مخالفة أمه نصائح شبح أبيها حين أصرت على أخذ السيف تيرفنغ. انطلق هيدرك بعدها في البلاد حتى بلغ مملكة تدعى ريدغوتلاند (بلاد القوط) لها ملك شيخ اسمه هارالد يدفع الجزية لأعدائه، فطلب منه هيدرك جيشا يقوده لهزيمة أعدائه فكان له ما أراد، وهزمهم بفضل السيف تيرفنغ وخطب إليه ابنته هيلغا وتزوّجها وحكم نصف مملكة هارالد وأنجب ابنا أسماه أنغانتي. أصابت البلاد بعدها مجاعة تأتّى منها معركة بين هارالد وهيدرك، انتصر فيها هيدرك وأخضع ريدغوتلاند لسلطانه، وبعد أن علمت زوجته هيلغا بمقتل أبيها انتحرت. غزا بعدها هيدرك مملكة الهون وملكها هولمي، ثم أسر ابنته وتزوجها وأنجب منها ابنا اسمه هولد تربى عن جده. وأنجب ابنة سماها هيرفور على اسمه أمه.
عاش هيدرك بعدها ملكا عظيما ثم روي خبره مع غريمه غيستومبليندي الذي جاءه أودين، وطلبَ منه أن يذهب في صورته بدلا منه إلى هيدرك ليختبره بألغاز إذا لم يعرف جوابها أسقط عن غيستومبليندي جرائمه وعفا عنه، أجاب هيدرك عن جميع الألغاز التي رويت شعرا، خلا الأخير حين سأله ماذا قال أودين في أذن ابنه بالدر قبل حرقه. فشتمه هيدرك واستل سيفه تيرفنغ ليقتله لكن أودين حوّل نفسه إلى بازيّ ولعنه بأنه سيقتل على يد أحط عبيده. يشبه هذا الجزء من الحكاية، والذي يبدو مقحما عليها لتعليل لقب الحكيم لهيدرك، قصيدة العملاق الحكيم ڤافثرثنر (جبّار الأحاجي) في قصائد إيدا إذ ينطلق أودين ليختبر معرفته ويثبت نفسه أنه الأعلم وحين يجيب العملاق عن كل أسئلته يسأله السؤال نفسه ليعجزه عن الإجابة وينتصر عليه. تحققت لعنة أودين في هيدرك إذ كان عنده تسعة عبيد من أرومة نبيلة أسرهم في حروبه تآمروا عليه وقتلوه في نومه بمخدعه.
تبدأ حينئذ حكاية الجيل الرابع حين خلفه ابنه أنغانتي في المُلك وورث السيف وسعى في أثر العبيد حتى عثر عليهم وقتلهم ثأرا لأبيه. جاء أخوه هولد طالبا نصف مملكة أبيه من أخيه أنغانتي بمشورة جده هولمي، لكن أنغانتي رفض ذلك وأعلن عليه الحرب، ودعاه غيزور، مربّي أبيه هيدرك، بابن الأَمَة فثارت ثائرة هولد ورجع إلى جده معلما إياه بما جرى، فرمي سهم الحرب في مملكة الهون واحتشد جيش جبّار لغزو مملكة القوط. فصلت غابة ميركوود بلاد القوط عن بلاد الهون، وانتصبت فيها قلعة حكمتها هيرفور أختهما. حين علمت هيرفور بالجيش الغازي خرجت إليه بجيشها لكنها غلبت، وأكمل جيش الهون طريقه إلى بلاد القوط والتقى الجيشان وتحاربا ثمانية أيام ثم تضعضت صفوف الهونيين وقتل هولد وفرَّ البقية، وانتصر أنغانتي وجيشه. تحققت حينئذ نبوءة أنغانتي حين حذّر ابنته أنّ فناء سلالتها سيكون بهذا السيف، لكنها لم تتحقق كاملة إذ قتلَ أنغانتي أخاه وعاش من بعده. تختم سيرة الملك هيدرك الحكيم بجزء أخير يرد فيه تاريخ وجيز لملوك السويد بعد أنغانتي.