يستمر بروست في الكتاب الثالث من سلسلة البحث عن الزمن المفقود في إكمال الوقائع الجديدة والمجريات التي تطرأ وتستجد مع بطله الذي يسرد متذكرًا وعائدًا بالزمن إلى الوراء بحثًا عن المعنى الضائع في الزمن الخالي لحياته. ينقسم الكتاب الثالث إلى قسمين رئيسين، وتتوزع أحداثه بوضوح في أربعة مواضيع: انتقال أسرة السارد إلى سكن جديد (شقة) بالقرب من منزل الدوق والدوق غيرمانت وبدء مراقبته للأخيرة وشغفه بها، علاقة سان لو بحبيبته راحيل، تدهور صحة جدته فوفاتها، العلاقات الاجتماعية لدى آل غيرمانت في منزل الدوق والدوقة. يتحول مسار الأحداث في هذا الجزء من العالم الداخلي لبطل الراوية الذي يسرد حياته، وما يعتلج في صدره من مشاعر ورغبات وفي فكره من ذكريات وأحداث، إلى العالم الخارجي المحيط وإن ابتدأت الرواية بالحديث عن تعلق وحب ومتابعة بشغف بالسيدة غيرمانت إلا أن الجو العام الذي كان له الحضور الأكبر هو العالم المحيط به. يراقب سارد بروست السيدة غيرمانت ويتحول بحبه وشغفه نحو هذه المرأة المتزوجة، الذي تكشف استمرار هذه الحيرة العاطفية التي يعيشها، والرغبة المحمومة العاشقة للأنثى التي لم تجد حتى اللحظة من يهدئ سورتها، ويداري فورانها الشبقي المتنامي، فهو كما تكشف اعترافاته دون إفصاح واضح منه وهو يجول في ماضيه ووقائعه- عن حب أو شبق تجاه من يراهن من النساء دون أن يكون هناك مبررات أو دوافع أو أمارات تتطلب منه المبادرة في العيش على خيالات حب، ومراقبة معشوقات، في وضع يكمل ما بدأه بجيليبرت ثم ألبرتين وأندريه. ونشهد بعدها تسليط الضوء وتقريب زاوية الرؤية والمتابعة لعلاقة سان لو وحبه لـ”راحيل حينما الرب”، وهي العلاقة التي تبدو مشابهة كثيرًا لعلاقة سوان وأوديت، وحب السارد حين كان صبيًا لجيلبيرت، إذ راحيل، شابة لعوب، يتضح عليها استغلالها لسان لو وعشقه لها، وكيف أنه بدا جليا لسارد بروست أنها كانت امرأة رخيصة يمكن إقامة علاقة معها بثمن بخس، وهي عكس ما كان يصورها سان لو الذي كان غارقا في بحرها وعالقًا في حبائلها. تنتقل الأحداث بعدها إلى جدة السارد التي ظهرت منذ الكتاب الأول، وكان لها حضورها الدائم في الكتاب الثاني إذ رحلت معه للاصطياف في مدينة بالبيك، لكن حضورها القصير في الكتاب الثالث تزامن مع التدهور الصحي الذي ينتهي بموتها. القسم الأخير والأكبر من العمل فهو داخل أروقة آل غيرمانت، وهو نقل تصويري للحالة الاجتماعية لعلية القوم الذين وجد سارد بروست نفسه وسطهم، ليبقى يسرد كل ما ورد في جلسات العشاء والأمسيات التي جمعته مع عديد الشخصيات المهمة والبارزة. هذا الكتاب كان على مستوى الأحداث والإثارة أضعف من الكتابين السابقين، لكنه جزء من التكوينية التي مرَّ بها البطل، وارتبطت عدة أحداث يتضمنها بوقائع قادمة لا سيما فيما يخص دو شارلوس في الكتاب الرابع “سادوم وعامورة”.
يتعقد المشهد الروائي نظرًا لكثرة الشخصيات التي تشترك في الأحداث وتكونها، فضلًا عن تداخل شخصيات من مراحل زمنية مختفلة مرَّ بها السارد، وترابط مع الكتابين السابقين وشخصياته، كل هذا يجعل الأحداث غنية ومكثّفة كثيرا ومتسع حيث تمتد الرواية أفقيًا لتغطية عدد كبير من الشخصيات التي تشكل المجتمع الراقي وعليّة القوم. ويتسمر التداخل ما بين العالم والواقعي والمتخيل في العمل عبر قضية دريفوس التي تحظى مساحة من الموتقف المذكورة والنقاشات ما بين الشخصيات ما بين مؤيد وهم ثلة قليلة في مقابل الغالبية المناهضة لدريفوس والواثقة من ذنبه.
ما بين تولستوي وبروست
بدت لي عبقرية تولستوي في رواية الحرب والسلم بقدرته العجيبة على بناء شخصياته داخل الجسد الروائي، وإدراجهم في الأحداث بتناغم وتناسق، فسير الرواية في خطين رئيسين (الحرب والسلم) أفسح المجال لتولستوي في خلق مئات الشخصيات التي قد يظن القارئ أن هناك عدة رواة يتكفل كل واحد منهم بجزء معين، ولكن عبقرية تولستوي كانت كافية لأداء المهمة على أتم وجه وبسهولة كبيرة دون أن تدري كيف. لا يختلف الأمر كثيرا عن بروست في تحفة أعماله (البحث عن الزمن المفقود)، إذ منحته الأجزاء السبعة وسير الزمن البطيء المساحة الكاملة في خلق شخصيات بالعشرات خلقًا متقنًا يوحي بواقعيتهم الملموسة. هذا العدد الكبير من الشخصيات لا يمكن التعامل معه على أنه أمر هيّن أو المرور سريعًا فهو عنصر فني مميز في هذا العمل، إذ الكثرة لم تولد السطحية أو البناء الخاوي المزيّف بل هناك رصانة ومتانة في تناسق الأحداث وتقدمها وترابطها مع هذه الشخصيات، الأمر الذي يربك القارئ ويجعله يخطئ أحيانًا في معرفة وتمييز هذه الشخصية من تلك ويفقد خيوط اللعبة التي يحركها بروست برشاقة وخفة دون أن يفقد السيطرة على عمله. كلما تقدمت الرواية إلى الأمام اشتدَّ التعقيد والتداخل والترابط ما بين أجزاء العمل المختلفة، فالحضور الذهني الذي قد يفتقده القارئ لم يفتقده الكاتب. هذه العبقرية في البناء الجماعي للشخصيات التي يوازي فيها بروست لتولستوي تكشف عن مدى الذكاء الذي يمتلكه الكاتب، وعن الشبكة العنكبوتية للشخصيات والأحداث التي رسمها الكاتب في ذهنه ثم شرع في بنائها بناءً يستحيل معه التأكد أن ما تقرأه عمل متخيل، أو أن كل هذه الشخصيات هي شخصيات خيالية، حتى وإن كانت حقيقية أو متسلهمة من أشخاص عرفهم أو حتى نظائر لبروست نفسه، إلا أن هذه الحبكة الدقيقة البناء لا تتأتى إلا للنخبة من المبدعين، وتوضح مدى الجهد المبذول في هذا العمل، وكيف أن السرد لم يضحَ فعل خلق فحسب بل وتقمص دور الإلوهية الكتابية التي امتاز بها بروست في هذا العمل، الذي يفاجئك في كل مرة يتقدم بعمله إلى الأمام. إن وصف حفلة أو أمسيّة عشاء في المجتمع الراقي الفرنسي كالذي ذكره تولستوي في سلم روايته الشهيرة، ما هي إلا كاميرا تصور صورة بانورامية شاملة لكل الحركات والسكنات، ويعمل الكاتب على توثيق أسماء الحضور ونقاشاتهم سواء ما يسرده بطله أو يتناهى إلى سمعه. العقل العادي قد لا يتمكن بل ولا يتمكن فعلا من مراقبة كل ما يدور حوله لو كان في حفلة، وكل ما يحفظه سيكون صورًا ناقصة، ومشاهدَ مقتطعة، ويلعب الخيال دوره لديه في إكمال الناقص وإتمام المفقود من الحكاية. صحيح أن الأمر يكون فيه قدرة أكبر عند الكتابة التخيلية لكن هذه القدرة وحدها غير كافية لتصل إلى هذه الدرجة الاحترافية في التصوير السردي الذي يتحفنا به بروست في عمله. إنها العظمة السردية في البناء الجماعي للشخصيات.
البناء الجماعي للشخصيات
يعمل بروست على بناء شخصياته كلًا واحدًا يضم العديد منها في حدث واحد، يقدمها معًا إلى خشبة السرد الروائي، ليسلط الضوء عليها جميعًا قبالة أعين القارئ، هذا البناء الذي يشبه رسم لوحة تضم عديد الأشخاص لكن كل منهم يكمل الآخر دون أن ينفصل عنه، وحتى في انفصاله فهو يبدأ ببنائه تدريجيًا دون أن يخل بالبناء الجماعي الذي شرع به منذ البداية. ففي الكتاب الأول، نرى السارد وأبويه وجديّه وأقاربهما وفرانسواز معا، يظهرون كلًّا واحدًا، وكذا الحال في أمسيّات سوان عند آل فيردوران، ثم في الكتاب الثاني في بالبيك، وبعدها مع البنات ألبرتين وإدموند وجيزيل، ثم عند آل غيرمانت. كل هذه الشخصيات الرئيسة والثانوية يبني بعضها بعضًا وتصنع جميعًا الحدث تلو الحدث لتتحرك عجلة الرواية باستمرارية رقراقة لا تتضعضع ولا تتقهقر. حتى عند البناء الفردي لبعض الشخصيات كـ سان لو مثلًا فالتقديم له ثم عرضها تدريجيًا لا يخرج من ثنائية سارد بروست – الشخصية (المقصودة)، فهو بناء ثنائي يرتبط بسارد بروست، الذي تتمحور حول أحداث السلسلة، ولا تخرج الشخصيات المحيطة به عن مداراته التي يعرف كل مآلاتها ثم سرعان ما تدخل معه شخصيات مرتبطة بالشخصية (المقصودة)، وهكذا يستمر البناء للشخصيات ما بين بناء ثنائي ثم ثلاثي فأكثر فجماعي، يتداخل بناء في آخر تداخلًا لا يعكر شكل هذا البناء أو ذاك، أو يشوه الصورة التي يرسمها أو حتى أن يضيع المشهد الذي تصوره كاميرا بروست. فالبناء السردي هنا يشبه صناعة السجاد ذي اللوحات الكثيرة الألوان والأشكال الفنية هي عبقرية فنية لا تخرج إلا من بين أنامل عقلية روائية فذة، وقامة أدبية لا يشق لها غبار. وكل هذا بعيد عن سمات العمل الآخرى، وسرد الذاكرة الحر المتقافز والتعامل مع الزمن، لنقف قِبلَ عملٍ من الروائع الأدبية فنيًّا قبل كل شيء آخر.
اضطراب السرد
منذ أولى صفحات العمل في كتابه الأول، بدأتُ بملاحقة السارد ومحاولة كشف هويته حتى أتضحَّ أنه شخصية من داخل العمل قد يكون نظيرا لبروست -وهو المرجح- أو ساردًا يقوم مقام بروست الروائي في سرد قصته التي امتدت لسبعة كتب. لكن الاضطراب في الصوت السردي في بعض المواقف والفقرات يجعل الأمر مثار جدلٍ ويفتح تساؤلات عن السارد الحقيقي، أو عن السارد الذي يتدخل بمعرفته الكلية فيمتزج مع شخصية داخل العمل فيعمل على خلخلة السرد وتداخل إمكانيات كل سارد بما يتنافى مع أبجديات السرد التي تحدد لكل سارد قدراته سواء أمن داخل العمل كان أم خارجه، أو سارد عليم أو سارد بضمير المتكلم محدود المعرفة. فمثلا في هذا المقطع من الرواية التي سردت بضمير المتكلم نقرأ:
ومن غير المرجح أنه فكر في قائمة حسابه غير المدفوعة، ولكن توصية الحلاق كانت تشيع السرور في نفسه بقدر ما تعكر مزاجه توصية دوق. كان الصابون لا يزال يغطي ذقنه حينما وعد بالإجازة وقد وتم توقيعها في المساء نفسه. أما الحلاق الذي من عادته أن يتباهى باستمرار وأن يخص نفسه كيما يستطيع ذلك بصنوف من الجاه مبتدعة كليًا…
يتبادر السؤال كيف عرف سارد بروست بهذه المعلومات والإشارات الواردة وهو غائب عن المكان، وبأفضل احتمال فإنه عرف أو تناهى إلى علمه هذا لكن لا توجد حتى إشارة واحدة لذلك مما يدفعني للقول إنَّ الحديث هنا كان لسارد عليم خارجي تقمص دور الشخصية وخلط بروست بين الاثنين بما لا يُقبل.
وتختفي أحيانا هوية السارد فلا يعرف القارئ من الذي يتكلم ولا سيما عند ذكر معلومات تبدو بعيدة عن إدراكه ومعرفته، كما في هذا المقطع:
كان الدوق يتباهى بامرأته ولكنه لا يحبها. وإذ كان شديد الإعجاب بنفسه فقد كان يكره أن يُقاطع ثم إنه كان من عادته في منزله أن يعاملها بفظاظة.
في حين يتبادر إلى الذهن -وهو تبادر حتمي- أن بروست نسى أن السارد هو شخصية محدودة المعرفة فيما يخص نفوس الآخرين وعوالمهم الداخلية وهو يتحدث عن الأمير ويعرف ما دار في خلده وما قال في سره، كما في هذا المقطع:
في الشتاء التالي مرض الأمير مرضا شديدًا وشفي، ولكن قلبه ظل مصابا إصابة لا شفاء لها. وقال في نفسه “ويحي! ينبغي ألا أضيع الوقت بالنسبة إلى المجمع، لأني إن طال بي الزمن سأوشك أن أموت قبل تعييني، وسيكون الأمر مزعجا حقًا”.
**
ولا تصدر إشارة في الكتب السابقة من العمل أن السارد يتحدث وهو يكتب ما حدث له، إنما كان الأمر تذكرًا وسردًا مباشرًا لذكريات وقعت وحديث نفسٍ، لكننا نجد أن السرد يتحول هنا إلى خطاب مباشر إلى متلقٍ يعرف بروست أن كلامه موجهٌ إليه، ويخرج الأمر من دائرة التذكر أو كتابة الذكريات إلى كتابة سردية موجهة إلى قارئ:
ويجدر أن نقول فيما يخص الأمير “دوفوا” بما أن الفرصة قد سنحت، أنه كان في عداد جماعة تتراوح بين اثني عشر إلى خمسة عشر شابًا وزمرة محدودة أكثر قوامها أربعة.