مقالات سيريّة

قصتي مع القراءة  

كثيرًا ما حدَّثتُ نفسي بالكتابة عن ذاتي وحياتي، ومنها قصَّتي مع القراءة. وقد شرعتُ فعلًا قبل عدة سنوات بكتابة قصَّتي عن القراءة لكنني تركتها بعد أن سطَّرت بضعةَ عشر سطرًا. هأنذا اليومَ أجدني في المسار القديم عُدتُ للكتابة عنها بغيةَ الخروجِ بنتاجٍ جديرٍ بالقراءة. قد تطغى على ما سأكتبه روحُ السيرة الذاتية، وربما أستطرد أحيانا فالكلمة تجرُّ الكلمة والذكرى تسحبُ أختها، والكتابة عن الذات إبحار في المجهول إلى الوراء، إلى الأنا التي ما فتئنا نبتعدُ عنها، ولا ندري متى نلتقي مجددًا بها. ليست الكتابة عن كيف بدأت القراءة تدوينا لكلمات أو استحضارًا لذكريات وبعثها في جملٍ وكلماتٍ بل أعمقُ من ذاك، إنَّها إحياء ربما لن نكون بعدها كما كنا قبلها. نشأت في أسرة متعلمِّة ومثقفة، فوالداي خرِّيجانِ جامعيان، ولأبي مكتبة عامرة بالكتب، وإن كانت صغيرة الحجم فهي متنوعة ما بين كتب العلوم والأدب والشريعة. مثلُ أي طفلٍ صغيرٍ ينتابه الفضول، كانت رفوف الكتب تجذبني إليها، لا سيما وأنها في الطابق الثاني من البيت، أيّ ثمة سحرٌ وإغواء في الصعود بمفردي والانفراد بتلك الكتب، والانعزال معها كأنني في موعدٍ غراميّ، وليس الشعور بمختلفٍ كثيرًا لو أردت وضعهما في طرفي مقابلة. متى بدأت أعرفُ ما الكتاب؟ كان منذ تشكُّلِ وعيي وإدراكي وتعلمي القراءة قبل سن الرابعة، ولست متأكدًا من السنين المذكورة بالضبط، لكنني أتمتع بذاكرة قوية، ولله الحمد، تعود بي وقتما أردت إلى حوادثَ وأنا في سن الثالثة، حوادثَ لها أهمية في تكويني حتى بعيدًا عن القراءة. لم أكُ تجاوزتُ السادسة أو السابعة حين بدأت أستكشف عناوين كتب، أعود إليها بين الحين والآخر فانطبعت في ذاكرتي، مثلَ “سيدان من فيرونا” لشيكسبير ومسرحيات أُخُر بطبعة متشابهة تحملُ صورة الإنجليزي العظيم بصلعةِ نافوخه وشعرٍ في فوديه، و”مدن الملح” لعبد الرحمن منيف بغلافٍ أبيضَ ملحيّ وعناوين ملوَّنة، و”نساء عاشقات” لـ د. هـ. لورانس بجزئيه الأخضر والأزرق، الرواية التي ما زالت ترافقني بعد خروجي من العراق، وهي من الكتب القلة التي طلبتها بالاسم لتُبعثَ إليَّ. وعناوين لامرئ القيس، وجورج أورويل، ونزار قبَّاني، وموريس لوبلان، وأُخرُ لكتب لا أذكر من صاحبها مثل القطة، التي أهديتها لجارتنا وأنا دون العاشرة من عمري لأنها كانت تخاف من القطط، ولا أظنها قد أعادت الكتاب. وقد يتساءل سائل هل هو إهداء أو إعارة؟ في الحقيقة كل ما أذكره هو فعل الإعطاء لأنها تخاف من القطط والكتاب بعنوان “القطة”، ولا أدري إن كان العنوان ذا دلالة عن المحتوى أو لا. غالبا ما سمعتُ والدي إذا وصلَ الكلام إلى الكتب يتذكَّر كتبَه التي أعارها إلى أصدقاء وأقارب ولم يرجعْ أيٌّ منها، وربما هو ذا السبب الذي جعلني لا أحبُّ إعارة أيّ شيء، كتبٌ أو ثيابٌ أو غير ذلك، نما في نفسي شعورٌ بالنفور من إعارة أيّ شيء أملكه لأي كان، وإن فعلتها فكان الأمرُ على مضضٍ، ولا أنكرُ هذا الشعور الموجود عندي حتى اليوم. وبما أني تطرقتُ إلى إهداء الكتبِ فإن أول هديةٍ منحتها كانت كتاب أوشو “كلَّ يوم” لزميلة معي في الجامعة، وهي نفسها التي رفضت لسبب لم أعرفه رواية “يا مريم”، وأهديتها إياها لأنها تحمل اسمها. ثم وصلت إليَّ بعد سنتين تقريبًا في بلجيكا أول هدية من امرأة، وكانت ثلاثة كتب، وهي أغلى ما أملكه من كتب، فهي المرأة التي تغيَّرت معها حياتي. مع هذه الكتب بدأت رحلة قراءة جديدةٍ لم أنقطعْ فيها عن القراءة يومًا منذ حينها حتى اللحظة التي أسطِّر فيها هذه الكلمات. 

لعبتْ سنوات الاحتلال الأمريكي للعراق دورًا حيويًّا هاما على جميع الأصعدة في البلاد، وعلى المستوى الشخصي فقد كانت سنون صباي متزامنة مع سني الاحتلال الأولى، ومع ارتفاع الوعي الديني والحسِّ الإسلامي في مجتمع كان في أميَّة دينية، بدأت الصلاة بدافعٍ ذاتي قبيل سن العاشرة، وهي أيضًا بداية لشروعي في حفظ القرآن والحديث النبوي. بدأ الآن فعلُ قراءة واعٍ وجادٍ شملَ القرآن والتفسير والحديث على الخصوص، وكتابٌ تلو آخر مع براعةٍ في الكلام والحذاقة عند النقاش في المواضيع الدينية داخل العائلة وخارجها وفي المدرسة. رافقَ هذا ثقةٌ عاليةٌ بالنفس أشبهُ بصخرةٍ تتكوَّن وتصبحُ أصلدَ فأصلدَ يومًا تلو آخر، وقد يفضِّل والداي وصفها بالعناد. بقيت حتى سنِّ الخامسة عشرة في قراءة وحفظ لكتب الشريعة، ولعلَّ المقامَ مناسبٌ للتشديد على أهمية البناء العقديّ للناشئة وتحفيظهم القرآن والحديث، لبناء وازعٍ دينيّ وحصن أخلاقيّ منيع، سيجدون آثاره بعد البلوغ والاصطدام بالحياة ومعرفة شرورها وانحرافات أهلها وسلوكياتهم والأفكار الشيطانيّة، فما يتعلمونَّه في الصِّغر هو تُرسٌ في الكِبر، لكن الأهم من كلِّ هذا -وأنا عارفٌ بذلك لأنَّ ما أقدمتُ عليه كان بدافعٍ ذاتي، وأحيانا حتى على الرغم من إرادة والديّ- أن يكون التعليمُ بدافعٍ ذاتيّ أو مُشجَّعًا من الوالدين حتى لا ينقلبُ الحال نفورًا، ففي الوقت الذي رغبَ والدي بإخراجي من عالم كتب الشريعة كنتُ أزداد توغلًا حتى ما عادَ لكلامه وقعٌ في نفسي، وإن خضعتْ إرادتي لإرادته بعض الزمان لكنني كنتُ عارفًا أنَّ عاصفته ستمرُّ، وستعودُ سفينتي لتشقَّ عَباب البحر، ولن توقفَها أيُّ عاصفة ولن تحرفَ مسارَها ريحٌ لأنني واثقٌ من نفسي، إنَّها الثقة العمياء بالذات. لا أمدحُها لكنها جزء رئيس مما أنا عليه اليوم بكلِّ ما أحمله من سمات إيجابيّة أو سلبيّة. 

انتبه والداي إلى اهتمامي بالقراءة في هذه المرحلة السنيّة، وفي الصف الثالث المتوسط، سنُّ الخامسة عشرة، وعدني والدي إذا حققتُ درجاتٍ عالية، وعالية يعني درجة كاملةً أو ما أعلى من تسعين بالمئة، في الامتحان المركزيّ النهائي فإن هديتي ستكون شراء ما أشاءُ من الكتبُ بميزانيّة مفتوحة من شارع المتنبي، أشهرُ شارعٍ لبيع الكتب في العراق. لا بأس أيها القارئ لأنك كنتَ تتوقعُ تحقيقي ما أراد، لم أحققْ المطلوب رغمَ نجاحي، ولم يكلمني والدي أكثر من أسبوعين، فلقد نشأتُ في عائلة مهووسة بالدرجات العالية والتفوُّق الدراسيّ. لم أكترثْ للأمر كثيرًا بدأت بشراء الكتبِ شيئًا فشيئًا، وبمرور سنة تلو أخرى، تعزَّزت ثقة والدي بي، وبدأت أطلبُ الكتب ليجلبها لي، ولا بد من التذكير أنني ما زلتُ حتى الآن أقرأ كتبًا في الشريعة حصرًا مع اطلاعي على الأدب برواياته وقصصه وشعره على نحوٍ محدود. 

أشرعتْ سنتي الجامعية الأولى الباب قُبالتي لولوج عالمِ القراءة الأدبيّة، القراءة التي وجدتُ نفسي أقربُ إليها من سواها. حدث ذات يومٍ في سكن الطلاب الداخليّ أن جاء صاحبي، برهان العراقي، بحقيبة مليئة بالكتب من شارع المتنبي، وأهداني رواية “الأشجار واغتيال مرزوق” لعبد الرحمن منيف، ما زالت ترافقني حتى اليوم هذه الرواية. كان برهان من محبي أحلام مستغانمي، ولا شكَّ أنَّ له تأثيرًا في قراءتي لكامل أعمالها، وبالأخص ثلاثيتها “ذاكرة الجسد، فوضى الحواس، عابر سرير”، التي اشتريتها برفقته من شارع المتنبي بعد أسبوع من رؤيتي حقيبته ملأى بالكتب. يُمكنني أن أعلِّم بدايتي مع القراءة الأدبية من هذه الحادثة، ما الذي حدث بعدها؟ هو يشبه ما حدث لعلي بابا حين دخلَ مغارة الأربعين حرامي المليئة بالكنوز، بدأت منذ تلك السنة ولخمسِ سنواتٍ لاحقة في قراءة في كلِّ اتجاه وحقل من لغةٍ وشعرٍ ورواية عربية وأجنبية ونقد أدبي وتاريخ وأدب عربي. بدأت أقرأ كثيرًا، وأقرأ، حتى تيقَّنت أن مكاني ليس في كلية الهندسة الكهربائية. ثم جاءت سنة 2015 حين اضطررت لمغادرة العراق واللجوء في بلجيكا. ليبدأ فصلٌ جديد من حياتي، فصلٌ كان اكتشاف الذات لا سيما الأدبية على أوسعِ نطاقٍ ممكن. ما اقتصرَ الأمرُ على فَهم القراءة، وعالم الكتب، وأهمية القراءة وفقًا لنظام وجدولة وحقولٍ معينة بدلا من حالة “فوضى القراءة”، فشملَ الترجمة والكتابة النقدية والإبداعية. تحوَّلت القراءة منذ حينها إلى عادة يومية، ويصل بي الشعور أحيانا أنَّها صارت أشبه بهوس مَرَضيّ، يولِّد في المقابل شعورًا مناقضًا يقول لي “إلى متى القراءة؟”. لكن يبدو أنَّ الوقت لم يأن بعد للجواب عن إلى متى، فالقراءة تتعمَّق في نفسي أعمقَ فأعمقَ بمرور الأيام ورؤية ما أحققه وأتقدَّم به. لا بد من مراجعةٍ مستمرة وناقدة للنفس وما حققتَه في الأيام السابقة، حتى يتمكَّن الإنسان الصادق مع نفسه، والمتصالح معها، من معرفة موضعِ قدميه من الحياة. والقراءة جزء رئيس من حياتي لذا تخضعُ هي الأخرى لفحصٍ ومراجعة وفقًا للثمار المجنيّة من مرحلة تلو أخرى. بالتأكيد لا يمكن للمرء دائمًا أن يخرج بالنتائج المطلوبة أو المتوقَّعة لكنه مع الاستمرارية في مراقبة ذاته من الخارج، قدرَ الإمكان، يستشرفُ المستقبلَ والمراحلَ المقبلَ عليها، ليسعه ساعتئذ أن يتأهب لما ينتظره من عراقيل وتجاوزها بأقل الأضرار وجني أفضل الثمار. بدأتُ القراءة مثل نُهيرٍ شقَّ بصعوبة مجراه في الأرض حتى صار أكّد مجراه، ثم رُفدَ بما عزَّزَ اندفاعه وتحوَّل إلى سَيلٍ جارفٍ أتى على كلِّ ما طريقه، ثم شقَّ بعزمٍ مجرًى جديدًا يتدفقُّ فيه نهرًا باتِّزان ورسوخٍ وقوّة، ماذا سيصبحُ هذا النهر في قادم الأيام، هذا ما لا يعرفه النهر، كما لا يُمكنه وحده تغيير مجراه. هذه بإيجاز قصتي مع القراءة، لكن بالتأكيد ليست كامل القصة.  

‫2 تعليقات

  1. ثم وصلت إليَّ بعد سنتين تقريبًا في بلجيكا أول هدية من امرأة، وكانت ثلاثة كتب، وهي أغلى ما أملكه من كتب، فهي المرأة التي تغيَّرت معها حياتي. مع هذه الكتب بدأت رحلة قراءة جديدةٍ لم أنقطعْ فيها عن القراءة يومًا منذ حينها حتى اللحظة التي أسطِّر فيها هذه الكلمات.
    لم تعلق على هذه الواقعة وأنا أكملت القراءة فضولا للتعرف عليها 😅😅

    1. شاكر لك حسن القراءة. لم يكن المراد التعليق على كل الحوادث، لكن إن شاء الله يكون مستقبلا حديثا عنها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى