ملحمة الرامايانا
تأتي ملحمة الرامايانا بعد ملحمة المهابهاراتا ثانيَ عمادٍ للأدب الهندي، ويضعها العديد في موازاة ملحمة الأوديسة، إذ تتشابه معاناة بطلها راما وزوجته سيتا مع معاناة أوديسيوس وزوجته بينيلوبي. يعود تاريخ هذه الملحمة إلى القرن الخامس أو السادس قبل الميلاد، ورُويت شفويا لذا فقد طالت أبياتها الزيادة والنقصان، وبلغت أربعة وعشرين ألف بيت موزعة على كتب منفصلة. تتشابه الرامايانا مع ملحمة المهابهاراتا بكونها قد ذكرت في متنها من نظمها، فيُذكر أن الرامايانا نظمها الراهب قاليماكي الذي قابله راما في الغابة، أما من نظم المحلمة شعرًا بعد أن كانت قصصا متفرقة في الحقيقة فكان الشاعر سوامي تُلسيداس في القرن السادس عشر، وهو أشهر وأفضل من نظمها وحفظها وتناقلها الملايين من الهنود عبر مئات السنين كما يذكر الطريحي في تقديمه للملحمة.
تدور الملحمة في موضوعها الرئيس حول نفي الأمير راما ابن داشارات ملك مملكة “كوشال” مدة أربعة عشر عاما في الغابة امتثالا لرغبة زوجة أبيه الذي وعد زوجته بتنفيذ ما تطلبه زوجته كييكي أيا كان طلبها. ليظهر لنا الجانب الأخلاقي والديني المتمثل في طاعة الابن لأبيه وأمه أو من يقوم مقامها (زوجة الأب هنا) بغض النظر عن طبيعة طلبهما وتمتزج الشجاعة والإباء والمغامرة بمكارم الأخلاق. فالبطل الهندي سواء في المهابهاراتا أو الرامايانا لا ينفصل خلقه واتباعه للدراما والامتثال للعادات والتقاليد المقدسة والعامة والوفاء بالوعود والإخلاص في العهود والبر بالقسم عن شجاعته وبسالته في القتال، بله امتلاكه قدرات خارقة للطبيعة لا يمتلكها الإنسان العادي كما في سائر أحداث الملحمة الهندية، وهي قدرات وإن امتلكها نظيره البطل الإغريقي فهي ليست بذات المستوى الذي يتجاوز المعقول. لذا فالبطل الهندي في الملحمتين غالبا ما يتحول إلى إله في النهاية كما يحدث مع راما الذي يصبح إلهًا في نظر شعبه أو إنه يفعل كل هذا لكونه إله في ذاته وصفاته وتكون نهاية الأمر الإعلان عن هذا الإله البشري بكل ما يحمله من مزايا ومكارم وشمائل وشجاعة لا حد لها.
ومما يميز البطل الهندي عن الإغريقي على سبيل المثال، أن الأخير يغلب عليه الطابع البشري ودائما ما يكون بحاجة إلى الآلهة أو في حالة صراع معها إذ تغضب عليه، على النقيض من البطل الهندي الذي يسمو على الرذيلة ونقائص الإنسان ومعايبه، فضلا عن شجاعته الخارقة فلا يبقى للآلهة دور في حضورها أو غيابها فهو الآخر لا يقل عنها بشيء، لذا نرى أبطال المهابهاراتا يجدّفون بحقها فيصفونها بعدم القدرة على غلبة جيوشهم ما داموا هم فيها. الأمر الذي يوحي للقارئ سلفًا بقدرة الأبطال الهنود الهائلة وأن نصرهم آتٍ لا محالة دون أي محلٍ للشك، فقوتهم تفوق قوة خصومهم بنحوٍ بارزٍ سرعان ما يُنهي المعركة لصالحهم. يتجسد الكثير من هذا في شخصية الأمير راما أثناء نفيه في الغابة وقتاله ضد شياطينها وانتصاره عليها رفقة أخيه المحارب لاكشمانا، الذي رفض أن يترك أخاه وزوجته في منفاهما وحيدين. فيعيش الأمير المنفي في حياة القسوة والشدة بعيدًا عن راحة القصور ورخاء العيش في مدينة آيدوها حتى عودته إليها ليتوج ملكا.
تتوزع الرامايانا على أقسام متعددة ومنفصلة في أحداثها تقريبًا وما يربطها هو التتابع الزمني وتوالي الأحداث فتكون أقرب إلى القصة الإطارية (نفي راما وسيتا) تضم حكايات تجري وقائعها في سنوات النفي الأربعِ عشرة.
يبتدئ القسم الأول من الملحمة بالحديث عن الملك داشارات وزوجاته الثلاث اللاتي لم ينجبن له حتى أمد طويل، ليرزق بعدها أربعة أبناء نجباء، على رأسهم راما الذي كان مؤهلًا لخلافة والده في الحكم لكن زوجة داشارات كييكي أرادت ولاية العهد لابنها بهاراتا ونَفْي راما أربعة عشر عامًا في الغابة، ينصاع زوجها لطلبها مكرها إذ كان قد وعدها سابقًا بتنفيذ أي شيء تطلبه حين تزوجها، واستأثرت بالطلب حتى سنحت لها الفرصة. وفي ظل الهم والحزن اللذين وقعا على كاهل الملك، يطلب راما من والده أن ينزل عن ولاية العهد، ويذهب في نفي طوعي إلى الغابة استجابة لوعد والده وطلب زوجة أبيه. يرحل راما وزوجته سيتا مع أخيه لاكشمانا، الذي رفض تركهما، إلى الغابة ليقضوا فيها مدة النفي.
أما القسم الثاني من الملحمة فهو في حياة النفي في الغابة، والصراع ما بين راما وأخيه وبين الشياطين في الغابة، الصراع الذي يمثل راما وأخوه وأعوانهما الخير عموما والبشريّ خصوصا، وتمثل الشياطين وأعوانها الشر عموما والشيطانيّ خصوصا. تتنوع القصص في سنوات الصراع المستمرة لكنها تبقى تحمل مضمون صِدام الخير والشر وحربهما، وتنتهي بخطف سيتا من الشيطان رافانا، ملك لانكا، وتبتدئ معها نهاية الملحمة بتحرير سيتا ومقتل رافانا في المعركة الفاصلة الكبرى التي جمعت بين راما وأخيه وحلفائهما وجيش رافانا وأعوانه.
أما القسم الأخير من الملحمة فهو يقص عودة راما إلى آيودهيا ليخلف أباه في الملك إلا إن هذه المرحلة من الحكم عكَّر صفوها قرار راما بنفي زوجته إلى الغابة، فبعد أن عرف من أحد رجاله قصةَ أحدِّ أفراد رعيته الذي طرد زوجته من بيتها بعد أن اختلت مع رجلٍ في مكانٍ، وقال لها إنه ليس راما ليتركها تبقى معه، مُعيِّرًا الملكِ بخطف زوجته سيتا وعدم امتثال الملك للتقاليد الموجبة عليه نفي زوجته. وعلى الرغم من معرفة راما بطهر زوجته وعفتها حين كانت مختطفة عند رافانا فإنه خضع للتقاليد السائرة في المجتمع، وأراد أن يمنح مثالًا حسنًا لرعيته في التزامه لما ماضٍ حكمه من عاداتٍ وقضاؤها في مملكته. تُنفى سيتا إلى الغابة وتقضي سنواتٍ من عمرها وتنجب ابني راما لافا وكوش اللذين يجتمعان مع أبيهما في النهاية، وتنشق الأرض بعدها وتبتلع سيتا دليلًا على عفتها وشرفها تحت أنظار الجميع ليشهدوا على صدقها وكرامتها ومنزلتها.
الرامايانا والأوديسة
تتشابه ملحمة الرامايانا والأوديسة في نقاط وتختلف في أخرى. فأما نقاط الاختلاف فهي واضحة في عموم أحداث الملحمة وأحداثها لا سيما في موضوع الإقصاء والنفي الذي يقع على راما وزوجته، والصراع ما بين راما والشياطين في الغابة، وهي ثيمة مختلفة ظاهريًا عن ثيمة الأوديسة ورحلة العودة إلى إيثاكا التي يخوضها أوديسيوس مدة عشر سنوات في البحر حتى يصل في الأخير إلى إيثاكا ويجتمع مع ابنه وزوجته بعد أن يُوقع المذبحة بحق من تحرش بزوجته وطلب يدها للزواج، وتآمر على قتل ابنه، واستنزف خيراته بعد أن استقرَّ الخطَّاب في منزله.
أما نقاط التشابه والالتقاء ما بين الملحمتين فهي قريبة إلى التشابه ما بين ملحمتي المهابهاراتا والإلياذة، فمن بين هذه التشابهات:
القوس
حين يشبُّ راما يذهب رفقة أخيه وراهب إلى الملك جاناك والد سيتا الذي أقسم ألا تتزوج ابنته إلا من يستطيع حمل قوس الإله شيفا الثقيل وربط وتره، لكنه ليس بقوس عادي لذا فيعجز الملوك والأمراء عن جرِّ وتره، إلا إن راما استطاع في النهاية أن يحمل الوتر ويتكسر القوس بين يديه ويتزوج الأميرة سيتا. تلتقي الرامايانا مع الأوديسة في المسابقة التي أقامتها زوجة أوديسيوس بينيلوبي بعد أن أحضرت قوس زوجها الغائب أوديسيوس، والحاضر متخفيًا وسط الخطَّاب، وطلبت منهم أن يحاولوا جرَّ وتر القوس واطلاق سهم يمر من حلقات اثتني عشرة فأسًا مثبتةً بالأرض، ومن يستطيع فعلها يُصبح زوجها. وبعد أن يعجز الخطاب عن جر وتر القوس، يأتي أوديسيوس المتخفي ويجرَّه ويتركب المذبحة في ساحة بيته أو ما تُعرف بمذبحة الخطَّاب. لا يمكن الإقرار بحقيقة هذا التشابه وهل هو تشابه صُدَفي أو محاكاة مؤلف عليم، لكن ما يمكن التثبت منه هو التشابه الوارد ما بين ملحمتي أوديسيوس الإغريقي وراما الهندي.
النفي
تتشابه الرامايانا مع الأوديسة في ثيمة النفي. لكن ما يفرق بينهما أنَّ النفي في الرامايانا واضح بقرار راما الاستجابة لطلب والده الملك، أي أنه نفي إرادي يدوم أربعة عشر عاما. في حين النفي الأوديسة هو نفي إجباري، عبر تأخير عودة أوديسيوس إلى وطنه “إيثاكا” وتيهانه في البحر وحبسه في الجزر مدة عشر سنوات، فضلا عن عشر سنوات قضاها أوديسيوس في حرب طروادة. أما ما جرى خلال سنوات النفي وواجهه البطلان في منفاهما فهو قائم على أدب المغامرات والصِراع من أجل النجاة. فالغابة في الرامايانا هي البحر في الأوديسة، والمخلوقات التي يواجهها أوديسيوس في رحلة العودة، تحل محلَّها الشياطين التي سكنت الغابة وعادت راما وزوجته وأخاه.
إنَّ النفي في الرامايانا يأخذ منحى متعدد الجهات، فراما يعيش في الغابة بكامل حريته وإرادته لذا فهو مطبوع على الاستكشاف والمغامرة وقتال ما يهدد حياته، لذا فليس ثمة وجهة محددة يقصدها راما سوى الانتظار حتى انتهاء مدة نفيه والعودة إلى آيدوها. أما النفي في الأوديسة أو التيهان في البحر له وجهة واحدة هي إيثاكا، وضياعه بين الجزر وصراع ضد مخلوقات البحر وسوء تدبير الآلهة هو مفروض عليه، فما من شاطئ أرض يطأها أوديسيوس كان قد نوى سلفًا عليها، على العكس تماما فكل أرض هي وجهة تجلبه إليها الصدفة المحضة أو التقدير السائد لتيارات البحر وافتراضات أقدار الآلهة. لذا فإن عودة أوديسيوس هي عودة الملك الضائع، أما عودة راما هو عودة الملك المُنتظر المنفي. فأوديسيوس يخرج ملكًا ويعود ملكا لكنها عودة محفوفة بالمخاطر فعودته ليست كل شيء لأن ثمة مهمة أخرى عليه أن يُتمَّها مع الخطَّاب، في حين راما يخرج وليَّ عهد ويعود إلى عرش الملك الذي ينتظره برغبة الجميع، فهي عودة متوَّجة بأكاليل الفرح والتتويج.
سيتا وبينيلوبي
(الوفاء والامتثال للزوج)
تخرج سيتا مع زوجها راما في نفيه الطوعي في الغابة وتبقى معه تعاني وتتعرض للمخاطر لا سيما تلك المتمثلة في خطفها من قبل رافانا ملك لانكا، فترفض عرض رافانا بالزواج منها، وبعد أن تنفى بأمر من راما في الغابة، فهي تتحمل هذا النفي الجديد، لتعيشَ حياة شظف وقسوة في الغابة، وهي التي كانت أميرة ثم زوجة ملك. تبدو سيتا امرأة معدومة الإرادة، والهُوية، والشخصيَّة، فهي ظل زوجها وأوامره ومصيره وحياته. فما الذي يميز سيتا عدا الوفاء لزوجها والامتثال له بطاعة كاملة؟ لا شيءَ مميزٌ فيها بتاتا سوى ذلك. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذا التصوير لدور المرأة الهندية قد ظهر سابقًا مع المهابهاراتا في شخصية دروبدي، وعادات أخرى مثل خطف المرأة لإجبارها على الزواج– الفعل الذي يبدو بطوليًا ولا رأي للمرأة في الرفض والقبول عموما، وإن كان ثمة استثناءات كما في حادثة أمبا وبهيشما لكنها ليست قاعدة أو متكررة بنحوٍ ملاحظ. تخضع دروبدي لمصير أزواجها ولربما أسوأ ما تعرضت له حين لعب زوجها يوديشترا النرد وخسر مملكته وكان قد خسر معها زوجته وأخوته حين وضعهم في رهان اللعب. فالزوجة هنا هي مملوكة للزوج ولا دور لها إلا دور الخضوع المطلق والتام، دور التابع الذي ينفذ طلبات المتبوع، كما حدث في نفي سيتا، أو حتى تلك القصة التي ترد على مسامع راما عن الرجل الذي أبعد زوجته عن سكنه لأنها اختلت برجل غرر بها.
في الضفة الأخرى لدى الإغريق، فإن دور المرأة لا يقل عن دور الرجل كثيرًا، وبدا دور الأنثى في ملحمة الأوديسة شاخصًا ومؤثرًا في كل كتب الأوديسة الأربعة والعشرين، سواء أكن إلهات أو نساءً أو ساحراتٍ أو حتى وحوشًا ومخلوقات غريبة. وفي مقدمة شخصيات الأوديسة الأنثوية هي بينيلوبي زوجة أوديسيوس التي انتظرت زوجها مدة عشرين عامًا. هذا الانتظار الذي واجهت في سنواته الأخيرة الخطَّاب الذين سكنوا منزلها وزوجها ورغبوا بالزواج منها رغمًا عنها، إلا أنَّ ما يفرق هنا أنهم جميعًا كان يضايقونها لكنهم لم يستطيعوا إجبارها أو غصبها أو حتى خطفها –كعادات الهنود– لإجبارها على الزواج. فهي تبقى رغم كل ذلك سيدة البيت وإيثاكا الأولى حتى عودة زوجته المظفَّرة.
تيليماكوس وابنا راما (لافا وكوش)
ينشأ كلا من ابن أوديسيوس وابني راما بعيدين عن والديهما، ولا يعرفانهما حتى البلوغ. وما يفرق في الحالين، أن تيليماكوس كان في رحلة بحث دائمة عن أبيه، وسعي دؤوب ليعرف مَن أبوه، فهو لا يريد العيش على أمجاد أبيه فقط، بل يريد أن يعرف من هو كذلك، أن يخلق هُويته الخاصة التي لا مسعى في الوصول إليها سوى مسعى معرفة مصير والده أوديسيوس. أما لافا وكوش فهما ينشأان بعيدًا عن والدهما راما، وعن معرفة من أبوهما الحقيقي، لذا فنشأتهما في الغابة مع أمهما والراهب، نشأة بلا أب، وبدون السؤال عن الأب. فمن أباهما، سؤال لم يبدُ أنه يشغل حيزًا كبيرًا في دواخلهما، وليس له أدنى تأثير في خلق هُويتيهما، فيترعرعان وحيدين، ويتعلمان استخدام مختلف الأسلحة وفنون القتال، حتى تقع الحادثة التي يعرفان بها والدهما في آخر الملحمة.